مجاهدة في العمل الاجتماعي والخيري
4- مرحلة بعد الاستقلال : وتتميز هذه المرحلة بتفرغها الكامل للعمل الاجتماعي الخيري، وتكريس حياتها له بكيفية نهائية ونفض اليد من كل عمل حزبي أو سياسي.
وهكذا، وقبل أن تأخذ نفسها، انغمرت في هذا العمل الجديد بكل ما عرف عنها من جدية وحزم ومثابرة وإخلاص.
ومن حسن حظي، أنني عايشت الراحلة في هذه المرحلة وبكيفية تكاد تكون يومية، ونَمَت بيننا صداقة مثالية ودامت في صفاء..
وأتاحت لي هذه المعايشة فرصة الاطلاع على كثير من جوانب حياتها… عمِلنا معا مع ثلة من الأخوات الفاضلات في مشروع هام، مشروع جمعية المواساة للفتيات بالرباط…
هذه الجمعية تعتبر -حسب علمي- أول جمعية نسائية للخير والإحسان أنشئت بالرباط بعد الاستقلال، فقد تم إنشاؤها سنة 1956م على يد ثلة من السيدات الرباطيات..
وفي أوائل الستينات اختيرت السيدة مالكة الفاسية رئيسة لها، تقديراً منهن لنضالها المعروف…
كنت يومئذ حديثة الوفادة على الرباط، واتصلت بي الفقيدة وحدثتني عن المشروع الموضوع بين يديها، وطلبت مني المشاركة فيه.. وأذكر أنها قالت لي : لقد عملنا من أجل الاستقلال وقد تحقق ولله الحمد.. واليوم علينا أن نغير الدفة، فهناك معضلة الفقر، وهذا ما يجب أن نعمل له من خلال هذه الجمعية.
وانخرطتُ في الجمعية، وانتخبتُ كاتبة عامة لها.
لم أكن لأتردد، فهذه فرصتي لأساهم بدوري في خدمة بلدي المستقل وثانيا لأكون على مقربة من هذه السيدة الرائعة التي شغلت الساحة بنضالها وبتوقيعها التاريخي…
ودخلت السيدة مالكة المعمعة الجديدة، معمعة محاربة الفقر بكل الحماس الذي عرف عنها.
وشهدت ا لجعمية على يديها نشاطا غير عادي، وتوالت الاجتماعات والاتصالات مع من بيدهم الحل والعقد، وظهرت مخططات جديدة، فتطورت وآوت مآت اليتيمات وأسعفت الآف المعوزين وبشتى الخدمات إلى يومنا هذا…
وأصبحت المؤسسة محط إعجاب وتقدير من كل الزائرين والمسؤولين والوفود الدبلوماسية والأجنبية.
إنني لا أتطرق إلى التفاصيل حتى لا أطيل.. والجمعية قائمة إلى اليوم، ومن أراد المزيد من المعلومات عنها، فهي رهن إشارة كل من يرغب في زيارتها والاطلاع على سيرها.
لقد تفرغت الراحلة لهذه الجمعية كما قلت، فأصبحت هاجسها، وكل دنياها، تنام على ذكرها، وتستيقظ على ذكرها تحضر باستمرار، وتناقش في كل الأمور، وتغدق من حنانها على النزيلات، كما تغدق عليها من أموالها..
لم تتقاعس يوما عن واجبها، أذكر، وقد هدَّها المرض في الأعوام الأخيرة من حياتها، أنها كانت تحضر إلى الجمعية وتقف بسيارتها أمام باب المؤسسة، وتستدعي المديرة للجلوس معها في السيارة لمناقشة شؤون الجمعية ماديا وتسييرا، أي أنها جعلت من سيارتها مكتبها، كما أن بيتها كان محط اجتماعات مستمرة.
وخلاصة القول، أن ترجمة مالكة الفاسية في هذه المرحلة يجب أن تعنون بـ”جمعية المواساة”.
مرافقتي لها في العمل الخيري أفادتني كثيرا، وملأت نفسي سعادة، رغم أن السعادة في هذه الدنيا نسبية، ولذلك أقول دائما : إن الإنسان يمكن أن يجد السعادة في أمور ثلاث : في دينه وهو يعبد ربه، وفي العلم واكتشاف حقائقه، وفي العمل الخيري وهو يعمل من أجل إسعاد الآخرين.
ولأنها كانت قدوة لنا، فقد استطعتُ، رغم ارتباطي بعملي الرسمي، أن أجد الوقت الكافي للعمل في هذا الميدان الرائع، ميدان الخير والإحسان.
وأذكر أن المغفور له الأستاذ ابراهيم الألغى، وهو يلاحظ حماسي واندماجي في هذه الملحمة الجديدة، كان يقول لي بدعاباته المعروفة : تشبتي بلالاّ مالكة فإنها ستدخلك الجنة! كا ن يقول هذا تشجيعا لي على ولوجي هذا الميدان..
حقا لقد سعدت!
وبعد سنوات طوال من العمل الجاد والمرهق أيضا اطمأنت نفسها وتأكدت من أن أمور الجمعية تسير سيرا حسنا وأن الأهداف تحققت وبكيفية ممتازة..
فماذا فعلت بعد ذلك؟
في يوم من الأيام اتصلت بي هاتفيا وفاجأتني بقولها : سأعرض عليك فكرة أرجو أن تصدقيني الجواب..
الفكرة تتلخص في أن هناك مشكلة خطيرة يعاني منها المعلمون المعينون في البوادي النائية، إنها مشكلة السكن، إنها محنة حقا، وقد فكرت في إعداد مشروع السكن للمعلمين، وقد درسته من كل جوانبه، وبدا لي أنه سيكون مفيدا، ويمكن تحقيقه، فما هو رأيك؟
انبهرت وأعجبت بما سمعت فأجبتها : يا عزيزتي إنك فريدة من نوعك، ويظهر لي أن كلمة >الراحة< لا توجد في قاموسك، المشروع جد مفيد، وقد عاينت ذلك بنفسي يوم كنت أقوم بمهمة التفتيش في وزارة التعليم، وكم من اقتراح اقترحته على المسؤولين لحل هذا المشكل المزمن ولكن لا حياة لمن تنادي..
وأضفت : ياليت أغنياءنا يقتدون بك فتحل هذه المشكلة نهائيا. أكرر أن المشروع مفيد ولكن ليس بالسهل، فهو يتطلب المجهود المادي والمعنوي ويتطلب الانتقال المستمر إلى الأماكن القاصية للاشراف على البناء ومتطلباته.. أكرر : إنك فريدة من نوعك، ومثلك بين النساء قليل!
أجابتني وهي تضحك من الأعماق : ماذا عساني أن أفعل، هكذا خلقني الله، ما أن أنتهي من عمل، حتى أتطلع إلى آخر، إنني لا أستطيع الخلود إلى الراحة ويدي في حجري، أريد أن أهب وطني كل وقتي، وكل تفكيري، وكل ذرة من ذرات حياتي..
هكذا كان جوابها…
وزدت إكبارا لهذه السيدة المتعبدة في محراب الوطنية..!
وبعد استشارة العضوات وموافقتهن، اتصلت بوزير التعليم، وكان على رأس الوزارة يومذاك، الشريف مولاي اسماعيل العلوي تستشيره في كيفية تنفيذ المشروع.. وتقديراً منه لها زارها في بيتها شاكرا ومُنَوِّهاً، وعقد معها عدة جلسات لوضع خطط العمل..
وبدأت العمل بإعداد تصاميم متعددة، وعرضتها علينا لاخيتار الأنسب منها..
ولأن المشروع يتطلب المال لتنفيذه، فقد بدأته بتخصيص عشرة ملايين سنتيم من مالها الخاص للشروع فيه فورا، وبذلك فتحت الباب أمام العضوات لتساهم كل واحدة فيه بما تستطيع وبما تسمح به أريحيتها..
ثم شرع في البناء في إحدى قرى مراكش النائية، وتبعته سلسلة أخرى في أماكن أخرى.
كانت تحضر الى عين المكان، وتشرف على سير العمل، وتم بفضل سهرها على تحقيق المشروع إنشاء مساكن اقتصادية لهذه الفئة من المعلمين.
وواصلت العمل بدون توقف أو كلل.
ولأنها تومن بالحديث الشريف : “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها..”(رواه أحمد)، فإن مسك ختام أعمالها كان شيكا وقعته لفائدة جمعية المواساة يوم الخميس 10 ماي 2007 وهي تصارع سكرات الموت، أي قبل وفاتها بيومين، فقد كانت وفاتها يوم السبت 12 ماي 2007.
الله أكبر، ولله العزة ولرسوله وللمومنين!
يتبع