…من أجل أن تؤدي الزكاة دورها الحقيقي في تزكية النفوس من البخل والشخ وصيانة المجتمع من الذل والفقر والمسغبة، ومن أجل إحداث تنمية بشرية حقيقية تنهض بالمجتمع المسلم ماديا ومعنويا ووجدانيا وثقافيا، ينبغي أن توكل مهمة جمع أموال الزكاة وتوزيعها على مستحقيها إلى هيئة رسمية من ذوي الكفاءة والنزاهة والورع يقوم على رأسها الحاكم صيانة لحقوق الفقراء والمحتاجين، وبما أن >ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب< كما يقول الفقهاء، فإن قيام هذه الهيئة المختصة بالزكاة يصبح واجبا شرعيا : ودليل ذلك من القرآن أن الله عز وجل خاطب رسول الله باعتباره حاكما وقائداً للمسلمين بصيغة الأمر في قوله تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.
والأمر هاهنا في “خذ” ينتقل إلى كل من ولاّه الله أمر هذه الأمة إلى يوم القيامة، فالعبرة في القرآن “بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” كما قال العلماء.
من أجل ذلك قام الخليفة أبو بكر بمحاربة مانعي الزكاة بعد وفاة رسول الله وقال قولته المشهورة “والله لو منعوني عقال بعير كانوا يودونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ولو وحدي” ولما اعترض عليه عمر بن الخطاب بحجة أن القوم يشهدون ألاّ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، رد عليه الصديق مردفاً “إلاّ بحقّها” وحقها إخراج الزكاة.
وعلى هذا المنوال صار السلف الصالح، فكانت مهمة جمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها موكولة إلى الحاكم، وبذلك حفظت حقوق الفقراء والمحتاجين في الأمة وقلّت نسبة الفقر وقلت الفوارق الاجتماعية وحلّت البركة والمحبة بين مختلف فئات المجتمع الواحد، وحُفظت كرامة الناس وعزتهم، فعم الخير والأمن الروحي والاجتماعي ربوع الأمة الإسلامية على شساعتها حتى كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يرى السحابة في السماء فيخاطبها بقوله : “أمطري أنّى شئت فسوف يأتيني خراجك”، وكانت المرأة تخرج للحج من حضرموت باليمن لا تخاف إلا الله كما أخبرنا الصادق المصدوق .
أما حكمة ضرورة اضطلاع الحاكم بمسؤولية تنظيم الزكاة فعديدة أذكر منها ما يلي :
أ- كثير من الناس من تغلبه نفسه وشهوتها في جمع المال وتكريسه، ولو تُرك هؤلاء وشأنهم لضاعت حقوق الفقراء وذوي الحاجات في المجتمع وبالتالي حقوق الأمة ككل، وهذا ما نلاحظه مع الأسف الشديد..
ب- أن عملية تنظيم أمور الزكاة والاشراف عليها من قبل الحاكم والهيئة المختصة فيها حفظ لكرامة الفقير والمحتاج وهو يتوصل بحقه الواجب من الزكاة من جهات رسمية عن طريق حوالة أو شيك أو ما شابه ذلك بدلا من أخذها دراهيم معدودات يد بيد مباشرة من صاحبها، مع ما في ذلك من حط بالكرامة وامتهان وإذاية نفسية بالغة الخطورة تؤدي مع التكرار إلى موت محقق للنفوس ووأد للكرامة والعزة، وإذا حدث هذا وهو حادث في المجتمع الإسلامي مع الأسف فما عليك إلاّ أن تُقيم على الأمة مأثما وعويلا…!
ج- عندما يُترك أمر الزكاة لمزاج الناس تقع فوضى عارمة كما نلاحظ في مجتمعاتنا، فقد تعود الناس على التلاعب في قضية الضرائب فصاروا يطبقون ذلك حتى في أمر الزكاة في كثير من الأحيان؛ فتجد من يوزع زكاة ماله -إن وزعها- على موظفي البلديات وشرطة المرور طمعا في خدمات قادمة أو تغاظي عن مخالفات في الطريق لا محالة، وقد تجد من يدفعها للخادم أو حارس العمارة والسيارة مقابل أجر مستحق، وقد تجد أيضا من يدفعها لذويه وأقاربه أو حتى والديه مع عدم حاجتهم لذلك شرعاً.
فدرءاً لكل هذا الخلط والتلاعب في أمر الزكاة فإن الشرع الحكيم أوكل مهمة تنظيمها إلى الحاكم وبمساعدة هيئة رسمية مختصة لذلك الغرض.
بهذا فقط يمكن للزكاة أن تؤدي دورها الشرعي كاملا للنهوض بالأمة تحقيقا لتنمية بشرية حقيقية وتحقيقا لاقلاع حضاري صحيح يعيد الأمة إلى سالف مجدها وريادتها للبشرية وما ذلك على الله بعزيز متى صحت النوايا وتوفرت الإرادات السليمة…
وإلاّ فكيف لأمة ترزخ في سلسلة ذرعها السماوات والأرض من البؤس والجهل والتخلف والفاقة أن يكون لها موطن قدم في عالم لا بقاء فيه ولا رفعة إلا لصاحب القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية.
إن هذا لن يتحقق إلا بشعوب موفورة الكرامة أبية النفس عزيزة ليست ذليلة {لا تسألون الناس الحافا} {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} شعوب لا تعيش عالة على الآخر في كل شيء تقريبا بدءا من القمح والشعير وانتهاءاً بالطاقة ومناهج التدبير.
فلابد والحالة هاته أن يعاد لركن الزكاة دوره الحقيقي من أجل بناء أمة قوية كريمة وأبية لا تمد يدها لأحد كائنا من كان، وكذلك من أجل ردم الهوة الساحقة والمتنامية بين أبناء المجتمع الواحد والعمل على تقليص هامش الفقر والتهميش وما يتبعهما من آفات ا جتماعية وأخلاقية وسلوكية بدأت تهدد ا ستقرار وأمن الجميع أغنيائهم وفقرائهم…
إن الزكاة منظومة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية متكاملة فلابد من ايجاد طرق حديثة ومرتبة من أجل تفعيل مبادئها وتحقيق أهدافها السامية كما أرادها الله أن تتحقق.
ينبغي إعادة تأصيل ثقافة الزكاة في المجتمعات الإسلامية وتحفيز الناس بشتى الوسائل لأدائها من أجل النهوض بالأمة مما هي فيه من فقر ومسغبة حتى تتبوأ مكانتها الحقيقية التي ارتضاها الله لها بين الأمم والشعوب وتعود -كما كانت من قبل- لريادة البشرية والشهادة عليها يوم القيامة فالبشرية اليوم غارقة في مستنقع آسن من الانحلال والفجور والنكوص عن الفطرة البشرية التي فطر الناس عليها، والمسلمون هم وحدهم القادرون على انقاذ البشرية مما هي فيه ولكن شريطة أن يعودوا إلى دينهم ويتصالحوا مع ماضيهم العظيم ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.