النظر بعيونٍ غربية


 

إن الذي حدث ويحدث -للأسف- أننا ونحن نتعامل مع المعارف (الإنسانية) الغربية عبر القرنين الأخيرين لم نحاول، إلاّ في حالات استثنائية لا يقاس عليها، أن “نتخيّر” أي أن ننقد ونمحّص، ونفرز ثم نختار، في ضوء موقف ديني معمّق إزاء الله سبحانه وإزاء العالم، وليس في سياق انتماء غير ممحص لثقافة الغير.

ومنذ أكثر من نصف القرن كان الكاتب المجري ليوبولد فايس (محمد أسد) قد حذّر من ممارسة انهزامية كهذه، ودعا إلى أن يكون المسلمون أكثر تأصيلاً معرفياً، مشدّداً على “أن الإسلام، بخلاف سائر الأديان (أو المعارف الوضعية بطبيعة الحال) ليس اتجاه العقل اتجاهاً روحياً يمكن تقريبه من الأوضاع الثقافية المختلفة، بل هو فلك ثقافي مستقلّ ونظام اجتماعي واضح الحدود. فإذا امتدت مدنية أجنبية بشعاعها إلينا وأحدثت تغييراً في جهازنا الثقافي -كما هي الحال اليوم- وجب علينا أن نتبيّن لأنفسنا إذا كان هذا الأثر الأجنبي يجري في اتجاه إمكانياتنا الثقافية أو يعارضها، وما إذا كان يفعل في جسم الثقافة الإسلامية فعل المصل المجدّد للقوى أو فعل السمّ”(1) وهو يخلص إلى القول بأن “الشيء الوحيد الذي لا يستطيع المسلمون أن يتمنّوه هو أن ينظروا بعيون غربية ويروا الآراء الغربية. انهم لا يستطيعون، إذا أرادوا أن يظلوا مسلمين، أن يتبدّلوا بحضارة الإسلام الروحية تجارب مادية من أوربا”(2).

وعلى مدى قرنين من الزمن، وبسبب من ضغط لا يرحم من الإحساس بالدونية تجاه معارف الآخرين، تناولنا سمّا كثيراً، بدلاً من البحث عن المصل المجدّد للقوى. ولقد قاد هذا السمّ إلى انحلالنا الثقافي أكثر فأكثر. لقد تعاملنا، بقدر ما يتعلق الأمر بالمعارف الإنسانية، مع الماديتيّن الديالكتيكية والتاريخية في مجال البحوث الفلسفية، والتاريخية، ومع الانتخاب الطبيعي في مجال أصل الإنسان، ومع نظرية التحليل النفسي في مجال البحوث النفسية، ومع العقل الجمعي في مجال علم الاجتماع، ومع الوجودية في مجال الأدب، ومع السريالية في مجال الفن، ومع الذرائعية في مجال التربية.. ومع.. ومع.. فماذا كانت النتيجة؟

اليوم إذ تتساقط هذه الشبكة من المعطيات المتورّمة سرطانياً.. ندرك أننا كنا مخطئين، وأننا خسرنا زمناً طويلاً كان بمقدوره، لو أحسنّا التمحيص والتخيّر في أنشطتنا المعرفية الإنسانية، أن يجعلنا ليس فقط أكثر أصالة، وإنما -أيضاً- أن نقلل الهوّة بيننا وبين الغير، وأن نرغمه على احترامنا، وربما مدّ اليد لطلب العون منا.

والتعويض الوحيد الذي يمكن أن يعلمنا من الخطأ، وأن يغفره لنا، هو أن نبدأ، وبالجد الذي يقتضيه الموقف، نشاطاً تأصيلياً يجعل المعرفة الإنسانية تتشكل في رحم الإسلام وليس في بيئة غريبة هجينة، وفي أن يكون نبض هذا التشكل متوافقاً مع المطالب الإسلامية، متناغماً مع المقاصد الشرعية، منسجماً مع التوجه الإيماني في الصيرورة والمصير.

من أجل ذلك يجب أن نكون حذرين من الإحساس بالدونية إزاء المعرفة الغربية. وإذا كانوا قد تفوّقوا علينا بعلومهم الصرفة وبتقنياتهم، فإن هذا يجب “الاّ يحمل المسلم -كما يقول فايس نفسه- على اعتبار المدنية الغربية أرقى من مدنيّتنه، وإلاّ لن يكون حينئذ على بينّة من قيمة الإسلام…”(3) وهو يعود لكي يؤكد هذا البعد النفسي في مكان آخر : “فكيما يستطيع المسلم إحياء الإسلام يجب أن يعيش عالي الرأس، يجب عليه أن يتحقق أنه متميز، وأنه مختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك، ويجب عليه أن يكدّ ليحتفظ بهذا الفارق على أنه صفة غالبة، وأن يعلن هذا الفارق على الناس بشجاعة، بدلاً من أن يعتذر عنه بينما هو يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أخر..”(4).

إن التحقق بالبديل… بالمعرفة الإيمانية، لن يتشكل في الفراغ، كما أنه لا يقوم على أسس منحرفة، أحادية الرؤية، كان العقل الغربي قد منحنا القناعة الخاطئة بها أو ألزمنا بقبولها… لابدّ من خلخلة هذه القناعات، وإلغاء الخرائط الخاطئة، وتسوية الأسس الملتوية وإعادة هندستها من جديد.

والخلخلة وحدها لا تكفي، إنها مجرد جهد سلبي يجب أن يوازنه الطرف الآخر : الإيجاب، متمثلاً بإقامة معمار معرفي في هذا الفرع أو ذاك، يقوم على أسس إسلامية، ويبنى بالمواد الإسلامية، وتتشكل ملامحه في رحم الإسلام، ويمارس وظيفته عبر منظومة القيم الإسلامية، ويمضي إلى الهدف الواحد الذي لا هدف قبله أو معه أو بعده : ابتغاء رضوان الله والتحقّق بحياة متوازنة سليمة يخفق فيها العقل ويعطي، متوافقاً مع كلمة الله وليس متضاداً معها.

——–

(1) الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت ـ 1965، الطبعة السادسة، ص 18.

(2) نفسه، ص 71.

(3) نفسه، ص 77 ـ 78.

(4) نفسه، ص 83 ـ 84.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>