المصادر الأساسية لميراثنا الثقافي (الأخيرة)


المصادر الفرعية لميراثنا الثقافي

فتح الله كولن
4- القياس:

معنى القياس: وزن شيء على شيء آخر وتعليقه على حكم أو تقويم مشترك. وفي الاصطلاح هو إجراء حكم مسألةٍ أو عملٍ على شيء نظير له أو شبيه به. فيقال في أصول الفقه: “المقيس عليه” أو “الأصل” للأول، و”المقيس” أو “الفرع” للثاني، ويقال “مناط الحكم” لوجه المشابهة بين الموضوعين أو التقويم المشترك بينهما. والقياس بهذا المعنى مساحة واسعة ومهمة لانكشاف الثراء الكامن في الكتاب والسنة، باعتبارهما لا يتحددان بالزمان والمكان، نعم. القياس مصدر وافر يُراجع دائما في إطار الكتاب والسنة لسد الحاجة المحتملة ظهورها تبعاً للزمان والمكان…. فلا ينضب معين رواء الحاجات حيثما كان القياس. فهو باب مفتوح واسع في كل زمان لأهل الخبرة.

وقد يكون وجه المشابهة في المسائل المتناسبة والمتشابهة صريحاً يكتشفه ويفهمه من له أدنى ممارسة… فسماه الأصوليون بالقياس الجلي. وقد يكون وجه المشابهة بين المقيس والمقيس عليه مغلقاً لا يفهم من أول وهلة، ويتطلب تمحيصاً وتدقيقاً، بل قد تبرز مناطات بديلة، فسماه الأصوليون بالقياس الخفي.

فالقياس بكلا جناحيه وسعة وثراء. ونشير إلى أن القياس لا يحتج به في التشريع الجزائي، لان الرجوع إليه فيه يؤدي إلى أحداث جرائم وعقوبات جديدة. وما عدا مثل هذه الحالات الخاصة هو مصدر للعلم يحتج به ويُرجع إليه في كل زمان. وقد اتفق جمهور الفقهاء على حجيته. ونكتفي هنا أيضاً بهذا القدر عن الإجماع، فليراجع في المصنفات.

5- الاستحسان:

معناه مشتق من الحسن والجمال والجودة. وله معانٍ مندرجة في اصطلاح الأصوليين. وأكثرهم يضعه في موضع القياس الخفي معارضة القياس الجلي. وقد يكون الاستحسان توجهاً إلى دليلٍ أقوى مما يقتضيه القياس في مسألة معينة، أو استناداً إلى دليل ارجح، أو تركاً للقياس لتوفيقٍ اقرب إلى النص بالضوابط الشرعية العامة، أو تركاً للعسر إلى اليسر وترجيح الأيسر في حال جواز الأمرين معا. وإن أبا حنيفة وجمهور الفقهاء يقرون حجية الاستحسان. والفقهاء الذين يخالفون في حجيته، يعملون به بتحميله على مصادر شرعية أخرى وبعناوين مختلفة لمعنى واحد… فخلافهم لفظي، ولا يكدر صفاء هذا المنهل العذب المورود. ونكتفي بهذا القدر هنا أيضاً، ونحيل الموضوع إلى المتخصصين.

6- المصلحة:

معنى المصلحة هي الواسطة أو الوسيلة للصلاح أو الأمر المفيد والصالح والخير. وباعتبار المصلحة مصدراً للاجتهاد، وردت في البدايات حيثما ورد القياس والرأي… حتى اقره بعض أئمة المذاهب مصدراً تبعياً مستقلاً من مصادر الأدلة الشرعية. وحيث أن “المصلحة” – وكما يفهم من معناها – مصدر يحقق فائدة العباد ويتحرى خيرهم وصلاحهم، فمقامه مهم في الحياة الدينية. وإن الحق تعالى أنزل الأحكام أصلاً لحماية الدين والنفس والمال والعقل والنسل. وبهذا يحتج “للمصلحة” في أصول الفقه.

ولا يُستند إلى دليل “المصلحة” بالقدر الواسع الذي يُستند إلى الأدلة الشرعية الأخرى… لكن الفقهاء المالكية أولوه عناية خاصة. وطالعه الشافعي في إطار القياس بطرق مختلفة وإن لم يقف عليه مباشرة، فيكون قد تقبله ضمنياً. أما الفقهاء الأحناف، فيتقبلونه بقبول حسن مع اختلاف في التفسير والتأويل. ورأي أحمد بن حنبل في المسألة قريب من الشافعي، كما في كثير من المسائل.

ومع هذا الاختلاف النسبي في النظر إلى دليل “المصلحة”، فالجامع أن المذاهب كلها تقره – ربما بعناوين وأسماء متعددة – إذا كانت المصلحة مصلحة مقبولة وما لم تتعارض مع الأدلة الشرعية الأخرى، وتَرْجَعُ إليه باعتباره دليلاً تبعياً. ولا شك في انه مصدر مهم للثقافة من حيث المعاني التي حمّلها الشارع عليه والوظائف التي اناطها الفقهاء به. ومع الحاجة إلى إيضاح مفصل، فالمقام هنا لا يسع ذلك.

7- التصوف:

أحيل إلى الكتب والرسائل بشأن تعريف التصوف، وأشير إلى محتواه في إيجاز:

التصوف الذي يمكن أن نسميه “الطريقة” من الوجهة النظرية، و”الدروشة”(1) من الوجهة العملية، هو مصدر مهم للعلم والثقافة في مساحة واسعة تمتد من الحياة الروحية إلى الأخلاق وآداب المعاشرة.

للتصوف تفسيرات متنوعة. فمنها انه الموت باعتبار النفس والأنانية، والحياة باعتبار القلب والروح… أو التسليم لإرادة الحق تعالى كالميت في يد الغسال في السلوك إليه، مع وجود الإرادة ضمن نسبيتها الخاصة… أو الانسلاخ من مساوئ الأخلاق التي ذمها القرآن الكريم والتزين بمحاسن الأخلاق… أو تجاوز “البُعد” العائد إلينا في القلب والروح بمقتضى البشرية، والإحساس بالقرب الإلهي في وجداننا بعنوان “القربة”… أو إقامة الرب تعالى في حياتنا بدلاً عن الهوى والرغبة بالاستقامة على خط إرشاد القرآن والسنة… أو التوجه التام إلى “مسبِّب الأسباب” ووضع الأسباب خارج التأثير الفعلي… أو التجرد من الرغبات الجسمانية والبدنية، والتحلي بالصفات المَلَكية (الملائكية) – بقدر المستطاع -

فإذا قدمنا المقترب الأخلاقي، يمكن القول أن التصوف حفظ دائم لطهارة القلب حيال دوافع الشيطان والنفس… وردع النفس عن ميولها الخاصة وتضييق ساحة حركاتها بقدر المستطاع… والسير المستمر في طرق الارتقاء إلى الإنسانية الحقيقية بالكد الدائم للبقاء في درجة حياة القلب والروح… ومع جَدٍّ وَجدٍّ وجدٍّ في المناسبات مع الحق تعالى: ربطُ الحياة وتوثيقها بالسعادة المادية والمعنوية للآخرين… واتباع سبيل النبوة في ترك انتظار الأجر حتى في اصدق الجهود وأخلصها، وفي اعظم الأعمال واشدها… والثبات على المسير أبداً في أنوار المشكاة المحمدية  في مساعي العبودية للحق تعالى… وإشهار عبودية حيوية وخالصة لا غرض فيها ولا عوض، بالتقيد الشديد في المناسبات مع الله تعالى بملاحظات الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، والطالب والمطلوب، والقاصد والمقصود… وعض النواجذ والصبر والعزم الدائم حيال المعاصي… والتعبد والطاعة بنشوة توازي غاية الحياة… واستقبال البلايا والمصائب بالضحك واستواء القهر واللطف… والارتباط بمقدرات الحق تعالى، وليس  بتقويم البشر، في كل نوع من أنواع السعي والهمة، والصبر صبر أيوب على نوائب الزمن المجنِّنَة. تصوف موضعه الأساس في الكتب والرسائل الحائمة حول الذرى الزمردية للقلب… هو حوض فريدٌ واسعٌ للعلم والمعرفة، مسنود بالبيان والبرهان والعرفان، يضم إلى صدره الحياة كلها ويغذيها ويثريها… فليس لمنهل التصوف نظير في العمق بين “المتلقيات الروحية” في الشرق، أو “المجريات الفلسفية” في الغرب.

8- الكلام:

معناه في اللسان القول واللفظ واللغة والقرآن الكريم والأوامر والنواهي الإلهية. ومعناه المصطلح عليه هو مجموع العلوم في أمور الدفاع عن المعتقدات الإسلامية بالأدلة العقلية والنقلية والحفاظ على استقامة فكر المؤمنين ورد الشبهات والشكوك التي تثار أو يحتمل إثارتها ضد الدين وحراسة العقائد الإسلامية الحقة في إطار السنة السنية إزاء بعض المجريات الفلسفية الخاطئة.

الكلام – بإفادة أخرى – هو مجموع الدساتير والقوانين الحاوية على نظريات علمية ومعرفية، والتي تربط بين أصول الدين وبين الكتاب والسنة ومطالعات (آراء) السلف الصالح في ضوئهما. وقد صنف العلماء والمفكرون وفلاسفة الإسلام مصنفات كثيرة في هذه الدساتير الكلامية، وجرى تدرسيها في “مدارس” الدين منذ القديم.

وقد توقف قسم من المفكرين والعلماء عند الكتاب والسنة ولم يسوقوا رأيا منهم في هذه المسائل. ولم ير غيرهم بأساً في مدّ البيان بالبرهان وإثرائه بالعرفان، وتوسيعه بالمستلزمات الصوفية والفلسفية، بل زادوا بان الاشتغال به على هذا الوجه خدمة للدين. الواقع أن التوسع على هذا النحو قد ادخل إلى النظام الفكري الإسلامي أموراً ضالة من فضول الميراث القديم، لكن الثابت أيضاً انه فتح أمام المسلمين آفاقاً عظيمة وواسعة.

ولسنا هنا في موضع الجدال عن فوائد وأضرار الكلام، بل التذكير بأنه مصدر رحب ومعطاء في ميراث ثقافتنا. ثم نتوقف عن فتح وليجة أو ثغرة يندس منها الجدل.

9- 10- 11- العرف – العادة – التعامل:

العرف: عادةٌ وحال وسلوك يتلقاه الناس بحسن القبول ويحظى بالتوقير العام ولا يخالف العقل والطبع السليم والدين، وان لم يكن قانونا. ويعرفه الفقهاء الأحناف من وجه آخر بأنه مجموع الأمور التي يراها العقل والشرع حسناً، ولا يعده الفكر السليم منكراً.

وتوجد فروق بينة تميز العادة والتعامل والعرف عن بعضها. فالعرف أو المعروف يطلق على مجموع العادات الحسنة… والحال ان العادة والتعامل قد لا يكونان مستحسنين أحيانا. وقد تظاهر ذلك في أوصاف فارقة تقيد بها العادة أو التعامل، مثل “عادة حسنة، أو عادة قبيحة”، وأيضا “تعامل صالح، أو تعامل فاسد”… ولا نجد أوصافاً مثلها تجري على العرف.. كذا، العرف يفيد القول والعمل. أما العادة والتعامل فينحصران بالأفعال والتصرفات. وكذلك، للعادة والتعامل جهة تتعلق “بالعقل العاطل”، وتستند إلى التقليد وقبول القديم. وقد ذم القرآن الكريم في مواضع عديدة هذا الفهم وعاب التقليد والاتباع الأعمى على الكفار بقولهم: “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون”، لكنه مدح العرف وحض عليه باسم المعروف، أو وصى به في أدنى الأحوال.

ولم نقصد هنا الإشارة إلى العرف والعادة والتعامل باعتبار مصدريتها في التشريع واستناد قسم من الأحكام إليها، بل باعتبار أن العرف مطلقا، والعادة والتعامل مقيداً بشرط عدم المخالفة لروح الدين، مصادر مهمة في ميراثنا الثقافي. وكل من هذه الموضوعات واسعة تستوعب كتيبات أو مباحث طويلة. وهو ما لا نطيقه، ولا يتسع له المقام هنا.

وهكذا وصلنا إلى هنا فيما كتبناه بإشارات سريعة وإيجاز شديد إلى درجة الاكتفاء بعنوان الموضوع وتعريفه أحيانا، بقصد التذكير بمصادر ثقافتنا الموروثة والبناء الداخلي لهذه المصادر في إطار المقالة الضيق. أُنَبّهُ هنا على الوحدة العضوية بين المصادر المتنوعة لثقافتنا الموروثة، مذكراً بخصوصية ذاتية فينا. وقد امتنعت باعتناء خاص عن الدخول إلى الموضوعات بتحليقات أحلام وتصورات فانتازية، وابتعدت عن عثرات التصنع وما يشبهه من الأمور، وصرفت جل قصدي إلى التركيز على البعد المكون للعلوم (Epistemolojik)، ومن ثم التذكير بالمناسبات بين المجالات المتنوعة لميراثنا الثقافي والفكري. وبناء على ضرورة التذكير بكل تلك المواضيع، فقد حصرنا مساحة كل موضوع، وأطللنا عليه بنظرة مخروطية، وتركنا تفرعاته لفراسة المتخصصين. وأني اربط انصراف التفكير في المستقبل إلى التفصيل في هذه المواضيع إذا وافى العمر، واحتسب الكفاية في الإشارة إلى الأبحر بقطرات!.

——

1- تصريف من “درويش” اصلها فارسي بمعنى الطالب للباب. وهو المريد المنتسب الى الطريقة. (المترجم)

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>