يقول الرسول : “بني الإسلام على خمس : شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا”(رواه مسلم).
من خلال هذا الحديث النبوي الشريف يتضح أن الزكاة ركن من أركان الإسلام “وركن الشيء جانبه والجمع أركان مثل قفل وأقفال (فأركان) الشيء أجزاء ماهيته”(الفيومي 124). وعليه تعتبر الزكاة جزء ماهية الاسلام وحقيقته، شأنها في ذلك شأن بقية الأركان في التظافر على تحقيق معنى الإسلام الكلي، لكن الذي يبدو أن لكل ركن جانب من الاختصاص لا يتأتى لغيره من الأركان أن يقوم به، فوظيفة الشهادتين وهما مفتاح الدخول في هذا المنهج الرباني غير وظيفة بقية الأركان التي يقوم كل واحد منها بجانب من البناء، ولكنها ضرورية بعضها لبعض في مراميها التربوية لبناء المفهوم العام للإسلام وإلا ظهرت صورة الإسلام مبتورة باختلال ركن من الأركان كليا أو جزئياً في المجتمع المسلم.
لكن اللافت للانتباه أن للزكاة لغة مجموعة من المعاني التي تهدف إلى أعمال الخير والفضيلة، لعل تحققها مقصود بفرض الزكاة، فالزكاة لغة من فعل “ز ك و” لأنه من زَكَا يَزْكُو” فأصل الألف واو، وقلنا من زكا يزكو لأن هذا الفعل قد تُكسَر عينه أي الكاف فيتغير المعنى. وفي هذا قال ابن منظور : “زَكِيَ يَزْكَى : عَطِش”(ل ع 359/1).
أما زكَا يزكو مثل نَصر ينصر فله معان سياقية متعددة كلها إيجابية ومتظافرة على نسج معنى إيجابي عام، لا يبعد مفهومها مجتمعة عن المعنى العام الذي ينبغي أن يُحققه ركن الزكاة في المجتمع المسلم، ومن جملة هذه المعاني اللغوية ما يلي :
1- النمو : قال “زكا الزَّرع يزكو زكاء (ممدود) أي نما”(ل ع 358/14).
2- الصلاح : قال : “والزكاة : الصلاح، ورجل تقي زكي أي زاكٍ من قوم أتقياء أزكياء”(ل ع 00/14).
3- الطهارة : قال : “وقوله تُزكّيهم بها، قالوا : تُطهرهم بها”(ل ع 14).
4- صفوة الشيء : قال : “قال أبو علي : الزكاة : صفوة الشيء”.
5- التنعم والخصب : قال : “وزكا الرجل يزكو تنَعَّم وكان في خصب”(ل ع 359/14).
وبعد : أليست كل هذه المعاني مقصودة من عبادة الزكاة : “النمو، والصلاح، والطهارة، والخصب والتنعم..” إنها الأهداف التي يتوخى الشرع الحكيم أن تتحقق في المجتمع بركن الزكاة. ولذا قال ابن منظور مجملا هذه المعاني اللغوية : “وأصل الزكاة في اللغة : الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح”(ل ع 358/14 ع2).
أما في الاصطلاح فيقول الكفوي : “كل شيء يزداد فهو يزكو زكاة ويسمى ما يُخْرجُ من المال للمساكين بإيجاب الشرع زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه وتوفره وتقيه من الآفات”(الكليات 486).
لكل ما مضى من مفاهيم أوجب الشرع الزكاة، قال تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}(التوبة : 103). وقال رسول الله : “إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألاوإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً”(رواه الطبراني في الأوسط والصغير عن علي. ن. زاد الخطيب 34).
نلاحظ أن الآية الكريمة مبدوءة بفعل أمر “خذ” وهذا أمر من الله تعالى لرسوله الكريم -يعلمنا كيف ينبغي أن نتعامل في هذه المسألة- وهو أمر عام لجميع رؤساء الأمة الاسلامية الذين يتولون أمر المسلمين، وذلك بأن يأخذوا من أموال الأغنياء ما يردونه على فقراء الأمة الإسلامية حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء من جهة، وحتى يستطيع الفقير أن يقوم بواجبه نحو المجتمع المسلم باعتباره عضوا عاملا (فيه) من جهة أخرى. فالآية الكريمة المشار إليها أعلاه تتضمن مفهوما أخلاقيا وإنسانيا عظيما هو الطهر، وهذا الطهر أنواع نوردها مختصرة كما يلي :
أ- هذه الصدقة تطهر الغني بما تخلق فيه من شعور الطاعة والإخلاص والائتمار بأمر الله، وتزكيه بما يشعر به في ذاته حين إخراج الصّدقة بأنه يعين على إقرار النظام والأمن بين أفراد الأمة الإسلامية.
ب- تطهر الفقير مما قد يجول في خاطره من وساوس الحقد نحو أغنياء الأمة وبخلائها، وتشعره بإحسان هذه الطائفة إليه فَيْركن إليها، ويحْمِل لها في قلبه الحبَّ والمودةَ، ويزْدَادُ نحْوها توَدّداً ورحمة، ولذا يسعى ما أمكن إلى أن يكون عضوا فعّالا نافعاً في مجتمعه، ويتجه بكل قواه إلى إتقان ما قد يطلب منه من عمل.
حـ- تطهر المجتمع الإسلامي بما تجعل فيه من روح التعاون والتآلف بين الأغنياء والفقراء، وتزكيه بما تخلق فيه من الأمن والاطمئنان بين جميع أفراد الأمة (صوت المنير 328 – 329 بتصرف).
ومما يساعد على تحقيق هذا التطهير الشامل للمجتمع أن تعطى الزكاة لمستحقيها وهم المالكون لها بنص القرآن “للفقراء أو…” فاللام هنا لام الاستحقاق والتمليك لأولائك الأصناف الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}(التوبة : 60)”(نبراس المرشدي 120).
وبتأمّلنا لهذه الأصناف التي تعطى لها الزكاة، والتي لا يكاد يخلو منها مجتمع في كل زمان ومكان نُدْرِك أنّ هذا الركن في الإسلام يقوم بالتواز المالي في المجتمع ويحفظ للانسان الفقير كرامته إذ يوفر له الحد الأدنى من ضمان العيش بسلام.
إن الامتثال لأمر الله في شأن الزكاة يُثبت للمومن صفات محمودة وينفي عنه أخرى مذمومة، والعكس بالعكس، ومن ذلك ما يلي :
1- إنّ أداء الزكاة يدخل المومن في زمرة المحسنين المهتدين الذين قال الله فيهم : {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمومنين الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون}(النمل : 3).
2- بدون أداء الزكاة لا يكون المسلم من الأبرار الصادقين المتقين الذين قال فيهم الحق سبحانه {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب..} إلى أن قال {وأقام الصلاة وآتى الزكاة}(البقرة : 177)
3- بدون أداء الزكاة لا يتم التمايزعن المشركين الذين قال الله فيهم {وويل للمشركين الذين لا يوتون الزكاة، وهم بالآخرة هم كافرون}(فصلت : 6- 7).
4- بدون أداء الزكاة لا يتم التميُّز عن المنافقين الذين وصفهم الله بأنهم يقبضون أيديهم عن الإنفاق، وأنهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون قال تعالى : {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنّهم كفروا بالله وبرسوله، ولا ياتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}(التوبة : 54).
5- بدون أداء الزكاة لا تستحق رحمة الله التي أبى أن لا يكتبها إلا للمومنين المتقين قال تعالى : {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة}(الأعراف : 156).
6- بدون أداء الزكاة لا نستحق نصر الله الذي وعد به من ينصره إذ قال {ولينصرن الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة…}(الحج : 40- 41) ن. زاد الخطيب بتصرف 39- 40.
“بهذه العبادة وقف الإسلام بالمسلمين في المشكلة المالية عند الحد الوسط الذي يقيهم شرّ الطغيان المالي المفسد الذي تتكدس به الأموال عند بضعة من أفراد الأمة مع حرمان كثرتها الغالبة، وتقيهم شرّ الفوضى الماكرة المخربة التي تَضِيعُ بها جهود الأفراد، وتُكدَّس الأموال في أيادي معينة بحجة أو بأخرى، فهي تشريع يحفظ للفرد استقلاله وحريته في العمل والكسب، ويحفظ للمجتمع حقه على الفرد في المعونة والتضامن وبذلك يبرز المبدأ الاسلامي العام وهو تحميل الفرد من حقوق الجماعة، وتحميل الجماعة من حقوق الفرد”(زاد الخطيب 34) وصدق الله العظيم إذ يقول : {خذ من أموالهم..”الآية، فكلمة (خُذ) تشعر بالقوة والإلزام، ذاك “أن الزكاة في الإسلام ليست من باب الإحسان التطوعي ولا من باب الواجبات الشخصية الموكولة إلى ضمائر الأفراد وحدهم، إنها فريضة تشرف عليها الدولة، وتنظم جبايتها وتوزيعها، فهي عبادة لها صفة الضريبة، وضريبة فيها روح العبادة، وبهذا يقوم على ر عايتها وإيتائها حارسان : حارس خارجي، وهو رقابة الحكومة المسلمة والمجتمع المسلم كله. وحارس داخلي ينْبُع من ضمير المسلم وإيمانه بربه رجاء رحمة الله وخشية عذابه..”(مشكلة الفقر للقرضاوي 86).
إنه التطهير يستلزم الصلاح، ذلك الصلاح الذي إن تمكن من النفوس دفعها إلى إصلاح المجتمع، وتنعيم جميع أفراده بالخير والخصب فيتحقق النماء ويعم الرخاء وتقوى روابط الإخاء والتكافل الاجتماعي.
تلك هي المفاهيم اللغوية المتفرعة عن فعل (ز ك و) وسبحان الذي علم آدم الأسماء كلها، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.