الحقُّ لُغة هو : الثابتُ يقيناً بلا شَكٍّ ولا ارْتِياب، وهو بصفة عامَّةٍ : كُلُّ ما هو ضدّ الباطل.
أمّا الحق اصطلاحا فهو : ما جاءَ من عندِ الله تعالى بواسِطَة الرسُل تكليفاً للبَشَر بأن يعْمَلُوا به، ويُطبِّقوه على أسَاسِ تحَمُّلِ المسؤوليَّة، وجَرَيَان المُجَازَاةِ والمُحَاسبةِ عليه ثواباً وعِقاباً في الدُّنيا والأُخْرى، بمُقْتضى أن الإنسَان لمْ يُخْلَق عَبَثاً، ولكنَّهُ خُلِق ليكون مُكَلَّفاً مسؤولا.
أما الفُقَهاءُ فعَرَّفوا الحقَّ بقولهم : >الحقُّ هُو حُكْمُ اللّه بتَقْرِير مَصْلَحةٍ تُسْتحَقُّ شَرْعاً< أو : >الحَقُّ هو : المَصْلحةُ المُسْتقِرّةُ شَرْعاً<.
ويُسْتنبَطُ من هذَيْن التّعْرِيفين -كما قال الدكتور عبد الله مبروك النجار- أمْران :
أولُهما : أن الحَقّ يتضمَّنُ مصلحةً يقيناً في الدنيا والأخرى، سواءٌ أدْركْناها بعقولنا أم غابَتْ عنّا.
ثانيهما : أن الشّارعَ -الله- وحْده هو الذي يسْتأثِر بتقْرير المصلحة، وينْفَرِدُ بتقرير استحقاقها لعباده، لأن الله عز وجل هو الكامل المنَزَّهُ عن كل نقْصٍ في خَلْقِه وهُداه وتشريعه.
ومن هنا كان المسملون يمتازون عن بَقِىّة الناس أجمعين بوحْدَة >المَرْجِعِيّة< أو >المَصْدَرِيّة< أو >جِهة التَّلَقِّي< أيْ أن المسلمين وحْدَهُم يتلقَّوْن الحقّ من مَصْدَرٍ واحدٍ هو اللّه تعالى.
لأن الله عز وجلّ :
1) هو الحقُّ {ذَلِك بأَنّ اللّه هو الحَقّ وأنّ ما تَدْعُون من دُونِه الباطِلُ، وأنّ اللّه هو العَلِيّ الكَبِير}(الحج : 60).
2) لأن الخُضُوع لله تعالى بحُسْن الطاعةِ ووحْدَةِ التّلَقِي منه هو الحقُّ : {يوْمئِذٍ يُوَفِّيهم الله دِينَهم الحقَّ ويعْلَمُون أنّ اللّه هو الحَقُّ المُبِين}(النور : 25).
3) لأن الله عز وجل هو الحق فلا يُمْكن أن يصْدُر منه إلا الحَقّ {الحَقُّ من رَبِّك فلاَ تَكُونَنّ من المُمْتَرِين}(البقرة : 197).
4) لأن الله عز وجل أرسَلَ الرّسُل -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً بالحق وأرسل محمداً بالحق {إنّا أرْسَلْنَاك بالحَقِّ بَشِيراً ونَذِيرا}(البقرة : 119).
5) أنْزَل الكتاب بالحق {ذَلِك بأنّ الله نزَّل الكِتاب بالحَقّ}(البقرة : 176).
6) لأن الله هو الذي يهدي المومنين إلى الحق {فهَدَى اللّه الذِين آمنُوا لمَا اخْتَلَفُوا فيه من الحَقِّ بإذْنِه والله يهْدِي من يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُستقيم}(البقرة : 213).
7) لأن الله عز وجل قبل ذلك خلق الكوْن كُلّه بالحق {ما خَلَقَ اللّهُ السّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلاّ بالحَقّ وأجَلٍ مُسَمَّى}(الروم : 7).
إذا كان الله عز وجل هو الحقّ، ودينُه هو الحقّ، وكِتابُه هو الحقّ، ورسُولُه هو الحقّ، فمِن أيْن يُمْكِنُ للإنْسان المخْلُوق بالحق أن يتلَقَّى الحقَّ؟! هل يُمْكنُ أن يتَلَقَّاه من حجَرٍ جامِدٍ صامت؟؟ أو من شيطانٍ ماردٍ؟! أو من إنْسانٍ مِثْلِه عاجِزٍ ناقص؟!
إن الذين يحاولون معْرفة الحقّ من غَيْر منْبَعِه يُعتَبَرُون ضالّين مُضلِّين، وسُفَهاءَ مُبْطلين، لا يسْتطِيعون مُواجَهَة الدُعاةِ إلى الله تعالى إلا بالأهواءِ المتهافِتة، والحماقَة الهابطة!!
ولعَجْزِ أصحاب الضَّلالَة قديماً وحديثاً عجْزاً تامّاً عن مواجهة أصحاب الحق بالحُجَج المعْقولة والمُحْترمَة، فإننا نجدهم لا يخرجون عن :
> إطَارِ التقليد للآباء والأجداد : {وإذاَ قِيلَ لهُم اتّبِعُوا ما أنْزَلَ اللّه قالُوا بَل نتّبِعُ ما ألفينا عليه آبَاءَنا، أولَوْ كانَ آبَاؤُهم لا يعْقِلُون شَيْئاً ولا يهْتَدُون}(البقرة : 170). فقد ألْغوا عقولَهُم إلغاءً تامّاً، ولذلك شَبَّهَهُم الله تعالى بالحيَوان، بلْ أحْياناً بما دُون مسُتَوى الحيوان.
> عن إطَار الهُروب للأمام والإعراض كُلِّيّاً عن سماع الحق {فأعْرَضَ أكْثَرُهُم فهُم لا يَسْمَعُون وقَالُوا : قُلُوبُنَا في أكِنَّةٍ ممّا تَدْعُونا إِلَيْه وفِي آذَانِنَا وقْرٌ ومِن بيْنِنا وبيْنِك حِجَابٌ فاعْملِ إنّنَا عَامِلُون}(فصلت : 3- 4).
> إطار السُّقُوط في مستَنْقَع الشّتْم والسباب والاسْتِهْزَاءِ والرّمْي بالسّحْر والجُنون والكهانةِ والشّعْر {أمْ يَقُولُون شَاعِرٌ نَتَرَبّصُ بِه رَيْبَ المَنُون}(الطور : 28).
> إطار التواصي بضَرْب الحصار الإعلامي على كلمَة الحق {وقَالُوا لا تسْمَعُوا لِهَذَا القُرآنِ والْغَوْا فِيه لعَلَّكُم تغْلِبُون}(فصلت : 25).
> إطار السفَاهة المخْبُولة، حيث يتَحدَّون الله تعالى ويسْتنْزلُون عذَابَهُ في نَزَق وطيشٍ وغُرُورٍ {وإذْ قَالُوا اللّهُمّ إنْ كان هَذَا هُو الحَقَّ مِن عِنْدِك فأمْطِرْ عَلَىْنَا حِجَارَةً من السّمَاءِ أو ايتِنَا بعذابٍ أليم}(الأنفال : 32).
> وأخيراً عن إطار التصفية الجسديّة للدّاعية مِمّا ينِمُّ عن العَجْز التام عقْلاً وفكراً وحُجةً ودليلا {لَئِن لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لتَكُونَنَّ من المَرْجُومِين}(الشعراء : 116).
ونظراً لأن الله عز وجل كتَبَ لدِينِه الحقّ الغَلَبة القاهِرة في ميْدان الحُجّة والبُرْهان {كَتَب الله لأغْلِبَنّ أنا ورُسُلِي إنّ اللّه قَوِيٌّ عزِيزٌ}(المجادلة : 21) فإنه سبحانه وتعالى كتَب لعبادة وجنوده الغلبة والقهْر في ميدان النِّزَال {ولَقَد سَبَقَتْ كَلِمَتُننا لعِبَادِنا المُرْسَلِين إنّهُم لهُم المنْصُورُون وإنّ جُنْدَنَا لهُم الغَالِبُون}(الصافات : 173)، {ويُرِيدُ اللّه أن يُحِقَّ الحقّ بكَلِماتِه ويقْطَعَ دَابِر الكافِرِين لِيُحِقّ الحَقّ ويُبْطِل البَاطِل ولوْ كَرِهَ المُجْرِمُون}(الأنفال : 7- 8).
نسْتنْتج من هذا كُلِّه سُنّةً ربّانيةً أزليّةً خالِدَة لا تتخَلَّفُ أبداً هي أن الحَقّ منصورٌ أبداً، ظاهِرٌ أبداً، قاهِرٌ أبداً، غالِبٌ أبداً، لأنَّهُ من عِنْد اللّه عزّ وجل القَاهِر فوق عبادِه، سواء كان التواجُهُ مع الباطل في ميدان الجِدَال، أو في مدان النزال، لأن الحقّ يكْتَسِبُ القوّة من ذاتِه، ومن ربِّه، ومن فطرة الإنسان وعقله الرشيد، ومن ملائكة ربِّه، ومن السماوات والأرضين وما بينهما المسخّرة بالحَقّ لنُصْرة الحق، فجنود الحق لا يُحْصي عددهم إلا ربُّ الحق.
أمّا الباطل فهو مهزوم ذاتيّاً، ونفسيّاً، وعقليّاً، وفطريّاً، وواقِعِيّا، وإن ظهَر للناسِ -أحيانا- أنه ظاهر منتصر فإنما ذلك نوْعٌ من الاسْتِدْراج للْمُبطلين، ونوعٌ من الابتلاء للمومنين كَيْ يتدارَكُوا موَاطن الخَلَل التي أوتُوا مِنْها، أو كَيْ يسْتَكْمِلُوا ما ينقُصُهم من الزّادِ المادِّيّ والمعْنويِّ والتربوي.
ولإحْساسِ الباطل -دائما- أنه مهزومٌ مُنْطلَقاً وغايةً فإنّهُ يلجأ إلى فَرْضِ سُلطتِه وهيْبَتِه بالقوة الماديّة المُرْعِبة، والبَطْشِ المُدَمِّر للكيان، والإرْهاب الفكري والاقتصادي والسياسي، والإعلامِي، كما يلجأ إلى شِرَاءِ ضَمَائِر الخَدَم والحَشَمِ من أصْحاب الشهواتِ الرخيصة، وأصحاب الهِمَمِ الهابطة!!
فما بَالُ كِبار قومِنا -وقدْ أعطاهُم الله كتابَ الحق، وائْتمَنَهم عليه- قد غَفَلُوا عن قوةِ الحقّ الحقيقيّة، فلم يرْفَعُوا بالدّعوة للحَقّ رأْساً، ولم يؤسِّسُوا لدعوة الحق قِلاعاً وحصوناً إيمانية وفكرية وثقافية وإعلامية في كُل ميدان من ميادين الحياة حتى يدْرَأُوا عن الإسلام رياحَ الغَزْو، وسمُوم الباطل المُغْري بالمظاهر الجوفاء؟!
وما بَالُ كبارِ قومنا هَجَرُوا طريق الخير والنماء، وطريق اكْتِسابِ المناعَة الذاتية، والمناعة النفسيّة، والمناعة الإيمانية، والمناعة الصناعية، والمناعَة السياسية، والمناعة الاقتصادية، والمناعة الاتحادية على أساسِ التلقِّي من كتاب الحق وحْده الذي يجْمَعُ ولا يُفَرِّق ويَهْدي ولا يُضِلُّ؟!!
ما بَالُهم؟! ما بالُهم؟! هجَرُوا كُلّ أُسُس القوة البانية ووسائلها الماديّة والمعنويّة الكفيلة بتَبْويئهِم المكانة اللاّئِقة برجال همّتهُم في السماء، وطموحاتُهم العلياء؟!
ورَتعوا في سفاسيف الأمور، وتلهية الشعوب بثقافة الجسد، وثقافة الشهوات المريضة، وثقافة الجهْل المركب، وثقافة التوْهيم والتخدير كأنهُم يظنون أن كتابَ ربّهم غافلٌ عنهم، أو أن الشعوب المخدوعة سوْف لا تُشْرق عليهم شمس الحقيقة فيُدْركون بالمحسوس شنَاعة ما خُطِّطَ لهُم، وفُعِل بهم، وآنذاك سَوف لا يجِدُون إلا السّخط متنفّساً، والمحاسَبَةً ملجأً وملاذاً {ولا تَحْسِبَنَّ اللّه غَافِلاً عمّا يَعْمَلُ الظّالِمُون}(ابراهيم : 42).