التحديات النبوية
أ- انشق القمر فَلْقيْن فقال : “اشْهَدُوا، اشْهَدُوا” :
روى البخاري عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر.
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله بشِقْيْن، فقال رسول الله “اشهدوا” وفي أخرى : ونحن معه، فقال : “اشْهَدُوا، اشْهَدُوا”.
وفي رواية الترمذي، فقالوا : سَحَرَنا محمد، فقال بعضهم : لئن كان سحَرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلَّهم.
وزاد رزين : فَكَانوا يتلَقّون الرُّكبان فيُخْبِرونهم بأنهم قد رأَوْه فيكَذِّبونَهُم، قال تعالى : {وإنْ يََروْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ}(1).
ب- لقد جئتكم بالذبح -نعم أنا الذي أقول ذلك :
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: اجتمع أشراف قريش يوما في الحِجْر، فتذاكروا رسول الله ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا.. فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله .. فلما مرّ بهم غمزوه ببعض ما يقول : فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مرّ الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما كان الثالثة فغمزوه بمثلها، قال : “أتسْمَعُون يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أمَا والذِي نَفْسُ محمّدٍ بيدِه لقد جئْتُكُم بالذَّبْح” فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع…
حتى إذا كان الغدُ اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغه عنكم، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا – لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم – قال : فيقول رسول الله : “نَعَمْ أنا الذِي أقُولُ ذَلِك”(1).
وفي رواية أبي يعلى والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : >ما رأيت قريشا أرادوا قتل رسول الله إلا يوماً ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة، ورسول الله يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي معيط، فجعل رداءه في عنقه تم جذَبه حتى وجَب -سقط- لركبتيه، وتهايج الناس وظنوا أنه مقتول، قال : وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضَبُع – عَضُد – رسول الله من ورائه، وهو يقول : “أتَقْتُلُون رجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللّه” فقام رسول الله فلما قضى صلاته مرّ بهم وهم جلوس، فقال : “.. ما أرسلت إليكم إلا بالذّبْح” وأشار بيده إلى الحلق، فقال له أبو جهل : ما كنت جهولا، فقال رسول الله : “أنت مِنْهُم”.
حـ- “يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر.. ما تركته” :
بعث أبو طالب إلى رسول الله فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي : كذا وكذا -للذي كانوا قالوا له- فأبْقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تُحمّلني من الأمر ما لا أطيق.
فظن رسول الله أن عَمَّه خاذله، فقال : “يا عَمِّ والله لو وضَعُوا الشمس في يميني والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهْلِك فيه ما تركته!!” – ابن اسحاق.
وفي رواية الطبراني أن الرسول لمّا قال له عمه ما قال. حلّق ببصره في السماء فقال : “واللّهِ ما أنَا بِأَقْدَر أنْ أدَعَ ما بُعِثْتُ به من أنْ يُشعِلَ أحَدُكُم من هذه الشّمْسِ شُعْلَةً من نار” فقال أبو طالب:والله ما كذب ابن أخي قط، ارْجعوا راشدين.
وروى الترمذي بسنده أن أبا جهل قال : إنا لا نُكْذبك ولكن نكذِّب بما جئت به، فأنزل الله تعالى {فإِنَّهُم لا يُكْذِبُونَك ولَكِنَّ الظّالِمِين بِآياتِ اللّهِ يجْحَدُون}(الأنعام : 32).
د- اللهُمّ سَبْعٌ كسَبْع يُوسُف :
روى مسلم عن مسروق بن الأجدع رحمه الله، قال : كنا عند عبد الله جلوسا -وهو مضطجع بيننا- فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن، إن قاصا عند أبواب كندة يقص، ويزعم : أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المومنين منها كهيئة الزكام، فقال عبد الله وجلس -وهو غضبان- : يا أيها الناس، اتقوا الله، مَنْ عَلِم منكم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل : الله أعلم، فإنه أعْلَمُ لأحدكم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم. فإن الله تعالى قال لنبيه : {قُلْ ما أسْألُكُم عليْه من أجرٍ وما أناَ من المُتَكَلِّفين}(سورة ص) وإن رسول الله لما رأى من الناس إدْبـاراً قال : “اللهمَّ سَبْعٌ كسَبْعِِ يُوسف”(1).
وفي رواية للبخاري : أن رسول الله لما رأى قريشا استعصَوْا عليه، قال : “اللّهُمّ أَعِنِّي عَلَيْهِم بسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُف” فأخذتهم السَّنَةُ -المجاعة- حتى حصّتْ كل شيء، حتى أكلوا الجُلودَ والميتة وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال : أي مُحمّدُ، إن قومك قد هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا، ثم قال : “تَعُودُوا بعْدَ هَذا” ثم قرأ : {فارْتَقِبْ يَوْم تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مبِين يَغْشَى النّاس هَذَا عَذَابٌ ألِيمٌ ربَّنَا اكْشِف عنّا العَذاب إنّا مومِنون أنَّى لهُم الذِّكْرَى وقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثمَّ تَوَلّوْا عنْه وقالُوا : مُعَلّمٌ مجْنون إنا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُم عائِدُون} وفي رواية أخرى للبخاري : فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله عز وجل {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنّا مُنْتَقِمُون}(الدخان) يعني : يوْمَ بَدْرٍ(2).
بعض المفسرين يرون أن آية الدخان ستكون يوم القيامة، وذلك مقطوع به، إلا أن المحدثين وكتاب السيرة يذكرون أنها وقعت لقريش في الدنيا تأديبا لهم على ما فعلوه بالرسول والمسلمين ليذوقوا مِثل ماذاقه المسلمون من البلاء والجوع حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر في الحصار والمقاطعة، خصوصاً وأن المفسرين والمحدثين شِبْهُ مُجْمِعين على أن البطشة الكبرى هي ما وقع لهم يوم بدر، حَيْثُ خرجوا بأنفسهم إلى مصارعهم التي قادتهم إلى جهنم، وفي جهنم -نسأل الله السلامة- أنواع من العذاب، من ذلك العذاب بالدخان، فتكون بدر، أو البطشة الكبرى هي مفتاح الدخول لهذا العذاب، فالدخان والقحط معجزةٌ وتحدٍّ لإظهار باطلهم وعَجْز آلهتهم، والدعاء والاستسقاء رحْمةٌ من الله الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين، ليقودهم إلى خيرَيْ الدنيا والآخرة(1).
قال السهيلي : فإن قيل : كيف قال أبو طالب : وأبيض يستسقي الغمام.. ولم يره قط استسقى، وإنما كانت اسْتِسْقَاءاتُهُ بالمدينة؟! فالجواب :
أن أبا طالب قد شاهد من ذلك أيضا في حياة عبد المطلب مادَلَّهُ على ما قال. ثم روى بسنده أن قريشا أقحَلتْ فجاءوا إلى شَيْبة الحمد -عبد المطلب- يشكون ما ألمّ بهم، فقام عبد المطلب فاعضد ابن ابنه محمداً فرفعه على عاتقه -وهو يومئذ غلام قَدْ أيْفَعَ- ثم قال : “اللَّهُمَّ سَادَّ الخلَّةِ، وكَاشِف الكُرْبة، أنْتَ عَالِم غير مُعَلَّم ومسؤولٌ غير مُبخَّل، وهذِه عُبَدَاؤُك وإمَاؤُكَ بعذِراتِ حرَمِكَ يَشْكُون إِلَيْكَ سَنَتَهُمْ، فاسْمَعَنّ اللَّهُمّ وأمْطِرَنَّ علَيْنا، غَيْثاً مُريعاً مُغْدِقاَ “فما رامُوا البيت حتى انفَجرتِ السّماء بمائها، وكظّ الوادي بثجيجه”.
أقول : الأنسب بقول الرسول “لَوْ أدْرَكَ أبو طالب هذا اليوم لسَرَّهُ” أن يكون الغيثُ الذي نزل رحمة ومعجزة نزل على المعاندين من قريش وما حولها، لأن أبا طالب كان يسرُّه أن يرى ابن أخيه محمداً صادقاً مصدِّقاً منصوراً من الله تعالى، وسببا لكل خير ولو للحاسدين والحاقدين عليه. أما أن يكون قال ذلك بالمدينة والإسلام منتصر، والتصديق به منتشر، والأنصار كثيرون فيظهر أنه بعيد، لأن أبا طالب لو أدرك ابن أخيه -وهو منتصر- لسُرَّ بفتوحاته وانتصاراته وانتشار دينه أكثر من سُروره بنزول المطر.
ولهذا فقول الرسول >لَوْ أدْرَك أبو طالبِ هذا اليومَ لسَرّه< يناسب أيام اشتداد الأزمة بين الرسول وقريش، لأنها أيام إثبات صدق الرسول فيما يخبر به عن الله من نبوته، وهي أيضا إثبات وإقامة للحجة على المكذبين، وذلك كله يسُرُّ أبا طالب لو رأى ذلك وإن لم يومن به.
وقد ذكر الدكتور محمد أبو شهبة أن أبا سفيان في ناس من قومه هم الذين جاءوا إلى الرسول فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم، فكشف الله عنهم ما هم فيه (1).
ولا يمكن أن تكون القصة على هذا الشكل إلا وقومه معادون له وهذا في مكة، وليس مناسباً أن يكون بالمدينة.
—–
1- الأساس في السنة : 267/1.
1- الأساس في السنة : 275/1 بتصرف.
1- مسلم : كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب الدخان.
2- البخاري : كتاب التفسير، انظر الأساس في السنة وفقهها 265/1 وما بعدها.
1- المجهول في القحْط والجدْب هو تاريخه، ولذلك لا نستطيع أن نقطع بشيء، إلا أن بعض الكتاب لمّح إلى أنه ربما كان أثناء المقاطعة، كسعيد حوى رحمه الله في كتابه : الأساس في السنة وفقهها، حيث جعل عُنْوان الكلام عن هذه الحادثة هو : “جزاء المقاطعة”.
وقد ذكر ابن هشام : أن أهل المدينة أقْحَطُوا، فاستسقى رسول الله فنزل المطر حتى أتى أهْلُ الضواحي يشْكون منه الغرق : فقال : “اللَّهُمَّ حَوَالَيْنا ولاَ عَلَيْنا” فقال : “لَوْ أدْرَكَ أبُو طَالِبٍ هَذَا اليَوْمَ لسَرَّهُ” فقال بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردتَّ قوله : وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بِوَحْهِهِ ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ للأرَامِلِ. قال : “أجل”.
1- السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة 387/1.