من الفقه الدعوي الإسلامي المغيب: بناء ا لقاعدة الصلبة أساس بناء مجتمع سليم 1


مقدمة :

لقد كانت حياة الرسول  رسالة كلها، تتمثل فيها معالم الرسالة ومفاهيمها لتكون التجسيد الحي الذي يتحرك، فيجد الناس الرسالة في صورة إنسان، لذلك لابد للداعية من ملاحقة هذه التجربة -ومنها الهجرة- بمواقفها وخطواتها ومراحلها ليستفيد منها في تجربته المعاصرة، وقد نجد في حدث الهجرة ما قد يغنينا في بعض جوانب العمل الاسلامي المعاصر

المرحلة السرية والانطلاق السليم :

لقد بدأ الرسول  دعوته سراً، ولم يكن ذلك بسبب خوفه على نفسه لأنه كان يعلم أنه رسول الله إلى الناس حينما نزل عليه قوله تعالى : {يا أيها المدثر قم فأنذر} وكان متيقنا من حماية الله تعالى له وعصمته من الناس.

وقد عمد  إلى نشر دعوته وعرضها خاصة على من يرجح استجابته لها وإيمانه بها، وفي ذلك درس بليغ للدعاة من بعده لمراعاة واقع الدعوة والظروف المحيطة بها أخذاً بمشروعية الحيطة والحذر، وما يقره العقل السليم.

>إن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماماً، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبياً<(سعيد رمضان البوطي : فقه السيرة ص 59).

وفي ذلك ترسيخ لمبدأ المرونة في كيفية الدعوة تكتماً وجهراً، ليناً وقوة، حسب ما تقتضيه ظروف الدعاة.

ولقد >استهدفت -هذه المرحلة- إيجاد قاعدة متماسكة ولو صغيرة ينطلق منها العمل بقوة حتى لا يزول بسبب أي ضغط مفاجىء<(1) قاعدة تستطيع تحمل الأعباء والتكاليف الأولى للدعوة الجديدة، حيث بدأ الاضطهاد القرشي الكافر للمسلمين، اضطهاداً وضعهم أمــام خيارين :

أولهما الخضوع لضغط الكافر وخروجهم عن دينهم أو الهجرة، وثانيهما هو الموقف الطبيعي لقوة الإيمان وثباته وعمقه إذ >لا يمكن لهؤلاء الذين ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا الطريق الحق وانفتحوا على النور المتدفق من قلب الرسالة على الحياة أن يتراجعوا عن ذلك أو ينحرفوا عنه أو يستسلموا إلى أي اضطهاد أو إغراء<(2) لأن الرسول المعلم جمع شتات القلوب والأفكار بعدما كانت مبعثرة، وصاغها صياغة توحيدية تستصغر كل العراقيل والصعوبات >أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهرباتي أو يمرر عليها مغناطيس.. ماذا يحدث في كيانها؟ يحدث -كما يقول علم الفزياء- أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين، فتصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل وتصبح طاقة محركة بعد أن كانت ساكنة لا تتحرك ولا تحرك<(3).

شبيه بذلك ما حدث للنخبة الأولى التي رباها الرسول  حين عرفت  عقيدة التوحيد وحددت وجهتها بكل وضوح نحو “لا إله إلا الله محمد رسول الله” بعد أن كانت مبعثرة مشتتة على آلهة شتى وتحت ضغط الشهوات والتي جاء الإيمان ليجليها لتصبح طاقة متحركة ومحركة : إنها القاعدة الصلبة التي تأسست الدولة الإسلامية على كاهلها لاحقاً.

فـي رحـاب الهجـرة :

كان الموقف الطبيعي للقاعدة الصلبة المضطهدة هو الصمود حتى تتمكن من ولوج أرض أخرى تتنفس فيها نسائم حرية يترعرع فيها إيمانهما وتمتد الدعوة إلى فضاءات بشرية وجغرافية جديدة بهدف بناء قاعدة إقليمية -بعد بناء القاعدة الصلبة- للإسلام لأن مكة لم تكن صالحة للانطلاق كقاعدة إلى العالم نظراً لقاعدة الشرك والطغيان القوة المضادة التي كانت متمركزة هناك والتي لم تستطع الجماعة الإسلامية القليلة العدد والعدة لمواجهتها من الداخل، فكان لابد من البحث عن أرض جديدة تحتضن الدعوة الوليدة وتحشد فيها القوة المُقاوِمَة المتطلعة إلى أفق أوسع للدعوة، بعد 13 سنة من استغلال مركز مكة الديني والثقافي والتجاري من لدن الرسول القائد  الذي عمل على الوصول إلى هدف >إيجاد القاعدة القوية للمجتمع الإسلامي الجديد من أجل الانطلاقة الإسلامية نحو العالم، حتى إذا استكملت الخطة مراحلها ووصلت إلى هدفها كانت الهجرة من مكة<(4).

والملاحظ أن جل من استجاب للدعوة والهجرة من الأوائل كان من الفقراء والأرقاء وهذه الظاهرة ثمرة طبيعية لدعوة الأنبياء في مراحلها الأولي مثل ما وقع مع قوم نوح الذين قالو له {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}(هود : 27) والسر في ذلك أن حقيقة هذا الدين الذي بعث به عامة أنبيائه ورسله إنما هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده وهي حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين وحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين، وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين والمستذلين والمستعبدين، فيكون رد الفعل أمام الدعوة إلى الإسلام لله وحده هو المكابرة والعناد من أولئك المتألهين والمتحكمين والإذعان والاستجابة من هؤلاءالمستضعفين<(5).

وينزل قوله تعالى {فاصدع بما تومر وأعرض عن المشركين}(الحجر : 94) فما كان منه  إلا أن صدع بأمر دعوته بعدما فشا ذكرها بمكة، وبدأت قريش تتحدث عن الدين الجديد وبطبيعة الحال كان رد الفعل من قريش الإعراض، والمحاربة لأنهم لم يستسيغوا تخليهم عن استكبارهم لصالح إله واحد أحد نظرا لارتباطهم بآلهة ورثوها عن آبائهم. {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون}(المائدة : 104) كما أن تقاليدهم وعقلياتهم المتخلفة كانت سبباً في صدودهم، ذلك أن “التقاليد هي مجموعة من الطفيليات التي تنبت تلقائيا وسط الحقول الفكرية للمجتمع، فهي الحشائش الضارة التي لابد من اجتثاثها وتنقية سبيل التفكير السليم عنها<(6).

ثم تشتد معاداة قريش للرسول  وأصحابه، الذين تجرعوا ألواناً من العذاب والإيذاء ولم يثنهم ذلك عن المضي قدماً في التحمل من أجل رفع راية الدين الجديد.

وإذا تأملنا ذلك فإننا نجد بصمات التربية على التمسك بالإسلام وسلك السبل الشاقة إليه واقتحام العقبات التي تحول دون الوصول إلى بناء المجتمع الإسلامي، وبذل المال والـمُهج الذي يشعر المسلم فيه بلذة الألم الموصل إلى إقامة الإسلام في النفس والمجتمع، وفي ذلك أيضاً تأكيد على أن >ما يلاقيه الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدون في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي سنة إلهية في الكون منذ فجر التاريخ<(7) إن ما عاناه الرسول  وصحبه رضوان الله عليهم إنما هو قدر الرسالات في كل مكان وزمان وهو بداية كل فجر جديد من بين الآلام والدموع، بل والضعف -أحيانا-، وقيمة الضعف لدى المؤمنين أنها تجدد لهم الإحساس بالحاجة إلى الله في عمق شعورهم المتوتر ليواصلوا رسالتهم في خشوع ومحبة ولذة، لأنه  لم يجمع صحبه -منذ البداية- على الإيمان من خلال الوعود المعسولة الكاذبةكما يفعل الكثيرون من أصحاب الدعوات السياسية، إنه تجسيد للصدق في أحسن وأروع صوره، الصدق الذي كان جسراً وصل المسلمون عبره إلى المدينة قادمين إليها من مكة مركز الشرك والظلم.

و>ما كادت الأمور تستقر بالمدينة حتى أنشأ الرسول  للمسلمين سوقاً ليستغنوا عن سوق اليهود، وشرع بأمر الله سنة الإخاء، فكل مهاجري جعل له أخاً أنصارياً، وجعل هذه الأخوة أعمق من أخوة النسب حيث كانوا يتوارثون بها، وحض الناس على الكرم والسخاء والإيثار، وصادف ذلك نفوساً ما عرف التاريخ أشرف منها ولا أرقى بعد الرسل، فكان من آثار ذلك الشيء العجيب<(8)، >إننا نفهم من دلالتها المؤاخاة وهي طريقة عملية لتوثيق العلاقات بين أتباع الدين الجديد.. وربما استطعنا أن نحقق الكثير من النجاح في اتباع هذا الأسلوب في مرحلتنا الحاضرة، كما استطاع المسلمون في عصور الإسلام الأولى أن يحققوا -من خلاله- النجاح الكبير في علاقاتهم الروحية والعملية<(9)، كما عمل النبي  على بناء المسجد لتحقيق معنى العبادة الشامل، بما في ذلك الصلاة والحرب التي تدفع العدوان وتهاجمه، والسلم الذي ينشر الخير والرخاء، والجدال والحوار الموصل إلى الحق ورد الباطل والتعارف بين الناس القاصد للتعاون والتكافل، أي أن التركيز كان على المسجد لدوره الريادي في كل شؤون الحياة الاسلامية الجديدة، ولذلك فمن العمل الإسلامي المعاصر تجديد دور المسجد وإخراجه من حالة الجمود التي يعيشها اليوم.

د. محمد البنعيادي

——————-

1- محمد حسين فضل الله خطوات على طريق سلام 465.

2- فضل الله 468.

3- محمد قطب : كيف ندعو الناس؟ ص 80.

4- فضل الله ص 472.

5- البوطي ص 60.

6- البوطي ص 66.

7- البوطي ص 67.

8- الرسول  سعيد حوى ص 220.

9- سعيد حوى 498.


اترك رداً على زكية برواين إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “من الفقه الدعوي الإسلامي المغيب: بناء ا لقاعدة الصلبة أساس بناء مجتمع سليم

  • زكية برواين

    سفينة الدعوة الراشدة لكي تبحر بخطى ثابتة وثمرة ، تحتاج إلى مجتمع يرحب ، ومركب يحمل ، وقاعدة صلبة تسند ، و ملاك ذلك كله ؛ إحياء فقه تربوي متين ، أساسه بناء زمرة القلب الواحد ….اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى…..