قضى الأمر، ولاراد لقضاء الله، ورجعت النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا، طويت صفحة مشرقة من حياة امرأة، أوقفت حياتها على خدمة بلدها منذ نعومة أظفارها إلى آخر لحظة في حياتها.
والإنسان مهما عاش فهو إلى ربه راجع.
والدنيا كما قال سيد العارفين بالله الحسن البصري : >الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث أحلام<.
وما الناس إلا ظاعن ابن ظاعن
وثاوٍ قريح العين يبكي لراحل
والمهم، هو كيف عاش هذا الإنسان في هذه العاجلة، وكيف أمضى عمره فيها، وفيما قضاه، وما الذي قدمه لحياته ومعاده..
ذلك هو سر الحياة، وذلك هو المغزى من وجودنا بها، ولذلك نساءل يوم المعاد عن هذا العمر، وفيما صرفناه، فما خلقنا عبثا : {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون}(المومنون : 115).
وما كل الناس يدركون فلسفة الحياة
ولكن هناك الافذاذ الذين منّ الله عليهم بنعمة الادراك، إدراك فلسفة الحياة.. ومن هؤلاء فقيرتنا الغالية السيدة مالكة الفاسية التي منّ الله عليها بإدراك جوهر الحياة، فعملت وجاهدت، وأعطت بغير حساب…
هي لم تعترف قط بما يسمى >استراحة المحارب< فاستراحتها الحقيقية كانت في العمل المتواصل، وهذا سر عظمتها.
أتأمل حياتها، فإذا نحن أمام شبكة من ميادين الكفاح : وطني، تعليمي، اصلاحي، اجتماعي، خيري، وقد تركت بصمات قوية في كل هذه الميادين..
واليوم، بمناسبة رحيلها، أعود إلى الذكريات البعيدة والقريبة أستنطقها وأستنجد بها علّني أجد بعض العزاء على رحيل رفيقة العمر، الأخت التي يصح أن يقال فيها : ربّ أخٍ لك لم تلده أمك..
ولأنه يوجد، ولله الحمد، ثلة من الرجال رفقاء السلاح مع الفقيدة في مرحلتها النضالية ضد المستعمر الفرنسي،فهم أولى بالحديث عن تلك الفترة من حياتها، فليس من سمع كمن رأي…
وهذا لا يعني أنني لست على إطلاع واسع بتلك الفترة، فكثيرا ما حدثتني عنها، ولكنني أكرر، أن من شاركوها المرحلة هم أدرى بتفاصيلها وجزئياتها، وأتمنى أن يفعلوا تنويرا للأجيال الحالية واللاحقة..
أما حديثي عن الراحلة الغالية فلن يكون إلا ذكريات شخصية وحميمية وانطباعات وارتسامات علقت بالذاكرة، فأيقظتها هذه المناسبة..
وقبل ذلك، أنتقل، للحظات، إلى الزمن الجميل، إلى الأعوام الأولى من استقلال المغرب، فأتحدث عن ظروف لقائي بالراحلة لأول مرحة..
ترجع معرفتي بالفقيدة إلى أيام الصبا الأولى، إلى الأيام التي كنت أتلمس فيها طريقي إلى عالم الكتابة.
وبحكم دراستنا -في تطوان المحروسة- وفق المناهج التعليمية المصرية، وبحكم إقبالي، شخصيا، على قراءة المجلات المصرية التي كانت ترد على تطوان مثل مجلة الهلال، والمصور، وآخر ساعة، ومجلة الكتاب، ومجلة الثقافة وغيرها، فقد عرفنا، ونحن طالبات الشيء الكثير عن المرأة المصرية الجامعية المثقفة، وكانت بنت الشاطئ (د. عائشة عبد الرحمان) وسهير القلماوي، وأمينة السعيد، ونعْمات فؤاد، ومنى زيادة وغيرهن يمثلن لنا النموذج الأمثل، ولشدة إعجابنا بهن، كما نقبل على كتاباتهن وقراءتها بشغف، أملاً في أن نصل يوما إلى مستواهن.
وكنت أشعر بالحيرة من فراغ الساحة المغربية من أمثال أولئك المصريات الرائدات، فلم يحدثنا أحد عن وجود امرأة مغربية كا تبة، وتأتي الفرصة على يد الأستاذ ابراهيم الإلغى.
فقد وجدت في مكتبته -بعد اقتراني به- جملة من الصحف والمجلات التي كانت تصدر في المنطقة السلطانية (هكذا كانت تسمى المنطقة الواقعة تحت النفوذ الفرسني).
والأستاذ الإلغى كما هو معروف حلّ بتطوان لاجئا قادما إليها من ا لرباط، نتيجة بطش المستعمر الفرنسي بالوطنيين الأحرار. نفيا وسجنا، أواخر الثلاثينيات.
وجريا على عادتي، أخذت أتصفح تلك الصحف، وكأن عوالم جديدة فتحت أمامي لمعرفة وطني الشاسع الأطراف، فلم يكن لي المام كاف بأخبار تلك المنطقة، بل هو النزر القليل لا يسمن ولا يغني من جوع..
وأثناء قراءتي لهذه الصحف، عثرت على مقالات منشورة في مجلة رسالة المغرب” بتوقيع “باحثة الحاضرة” واستغربت فأنا لا أعرف إلا توقيعا واحدا لكاتبة مصرية رائدة اسمها عائشة حفني ناصف باسم “باحثة البادية” (1886/- 1935).
سألت الأستاذ الإلغي عن هذه الباحثة الحضرية، فإذا به يعرف أخبارها معرفة دقيقة، وقدم لي نبذة رائعة عن حياتها وعن أسرتها الفاسية الكريمة.
إنها مالكة الفاسية!
هذه الباحثة أثارت فضولي، وددت لو عرفتها، فهي تكتب بأسلوب عربي مبين، وتتناول موضوعات اجتماعية شائكة (بالنسبة لتلك الفترة) وتستنهض همم الفتيات للاقبال على التعليم، وكسر قيود الرجعية والتخلف
أعجبت بما كتبت، وسرني ما كتبت!
أعجبت بها قبل أن نلتقي، ولا غرو، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا.
وتمنيت لو تسمح الأيام بلقائها..
ولكن أمنيتي كانت بعيدة المنال، فالتواصل بين المنطقتين السلطانية والخليفية يكاد يكون مستحيلا، والستار الحديدي بينهما لا يخترقه إلا ذو حظ عظيم..
إذن، عليّ أن أكتفي بالتمني، وما كل ما يتمنى المرء يدركه…
ولكن الأيام، وبسرعة، أتت بما لم يخطر على البال.
فلقد اشتعلت الثورة وقامت القيامة بعد نفي الملك محمد الخامس، فأذعن المستعمر الجائر مرغما لمطالب الوطن فتحقق الاستقلال، وأزيلت الحواجز، فيعلن محمد ابن يوسف (محمد الخامس) بعد أهوال ونفي وعودة مظفرة، بزوغ فجر الحرية والاستقلال، في يوم مشهود، لم يسبق له مثيل في تاريخ المغرب!
وكم أتمنى أن يقام في هذه الساحة نصب تذكاري يخلد ذلك الإعلان التاريخي المجيد!.
ثم بعد حين، جاءت زيارته التارخية إلى تطوان.
وعبَر الحدود، حدود عرباوة، ومعه موكبه المكون من الأمراء والوزراء والعلماء والأعيان والمثقفين..
وفي الحدود، وقد انهارت الى غير رجعة، رقص الجميع على دفات الدفوف، ابتهاجا بذلك اليوم التاريخي الأغر الذي جمع الله فيه الشمل : الشمال والجنوب.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا يلاقيا
وقد سجلت عدسات المصورين مشاهد رائعة عن تلك الفرحة، ومن بين الصور، صورة نادرة لمحمد الخامس، وهو يضرب على الدف مبتهجا ومشاركا شعبه في ذلك العيد الوطني الكبير. ومنتشيا مع شعبه بذلك النصر العظيم.
وبالمناسبة أذكر أننا في تطوان كنا نردد، بعد اجتياز الملك لحدود عرباوة، مقطعا يقول : “دُوزْ، دُوزْ، عرباوة رَجْعَتْ قهوة!” وفي تطوان كان المقام الملكي وصحبه.
وكان من بين الوزراء استاذنا محمد الفاسي وبصحبته زوجته الفاضلة مالكة الفاسية.
هنا ستتحقق أمنيتي وبكيفية لم أكن أنتظرها.
فقد أقام الاتحاد النسائي التطواني سهرة ثقافية على شرف السيدة مالكة الفاسية، وذلك في المدرسة الخيرية للبنات..
واستدعيت لحضور هذه السهرة، لمجالسة ومرافقة الضيفة ا لكريمة.
ولم أكن لأتردد، أو أفوت الفرصة، فقد تحققت الأمنية -بفضل الله- التي داعبت خيالي زمنا.
وهكذا كنت في استقبالها بباب المدرسة مع ثلة من السيدات، أخذت مكاني بجانبها، وأنا لا أصدق نفسي!
دة. آمينة اللوه