دخول الدّعوة مرحلة التحدي – إسلام عمر بن الخطاب (2/1)


اعتزاز المسلمين بإسلام عمر

قال ابن إسحاق : ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يُدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله ، وردّهما النجاشيُّ بما يكرهون، وأسلم عمرُ بن الخطَّاب، وكان رجلاً ذا شَكيمة لا يُرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحابُ رسولِ الله  وبحمْزة حتى عازُّوا قريشا -غلبوهم-، وكان عبدُ الله بن مسعود يقول: ما كنَّا نقدر على أن نصلي عند الكعبة، حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة، وصليَّنا معه، وكان إسلام عمر  بعد خروج مَنْ خرج من أصحاب رسول الله  إلى الحبشة.

وقال عبد الله : إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة.

حديث أم عبد الله عن اسلام عمر

قال ابن إسحاق بسنده : عن أمِّ عبد الله بنت أبي حَثْمة، قالت:

والله إنَّا لنترحَّل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامرٌ -زوجها- في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطَّاب حتى وقف عليَّ -وهو على شركه- قالت : وكنَّا نلقى منه البلاء أذىً لنا وشدَّة علينا : فقال: إنه لَلاِنطلاق يا أم عبد الله. قالت : فقلت : نعم والله، لنخرجنَّ في أرض الله،  آذيتمونا وقَهَرتمونا، حتى يجعل الله مخرجا فقال : صَحِبكم الله، ورأيت له رِقَّة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحْزنه -فيما أرى- خروجنا. قالت : فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له : يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفا ورقتَّه وحُزْنه علينا. قال : أطمعت في إسلامه؟ قلت : نعم؛ قال : فلا يُسلم الذي رأيت حتى يُسلم حمار الخطَّاب -يأسًا منه-، لما كان يُرى منْ غِلْظته وقَسْوته على الإسلام.

حديث آخر عن إسلام عمر

قال ابن إسحاق : وكان إسلامُ عمر فيما بلغني أنَّ أختَه فاطمة بنت الخطَّاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نُفيل، وكانت قد أسلمتْ وأسلم بعلُها سعيد بن زيد، وهما مُستخفيان بإسلامهما من عُمر، وكان نُعيم بن عبد الله النحَّام -رجل من قومه-، قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خبَّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطَّاب يُقرئها القرآن، فخرج عمرُ يوما متوشِّحا سيفه يريد رسولَ الله  ورهطا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصَّفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله  عمُّه حمزةُ بن عبد المطلب، وأبو بكر ابن أبي قُحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، ممن كان أقام مع رسول الله  بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نُعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عُمر؟ فقال : أريد محمداً هذا الصابئ، الذي فرَّق أمر قُرَيش وسفَّه أحلامها وعاب دِينَها، وسبَّ آلهتها فأقتُله؛ فقال له نُعيم: والله لقد غرَّتك نفسك من نَفسِك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتُقيم أمرهم؟ قال : وأي أهل بيتي؟ قال : ختَنُك وابن عمِّك سعيد ابن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما؛ قال : فرجع عمرُ عامداً إلى أخته وختنه، وعندَهُما خبَّاب بن الأرث معه صحيفةٌ، فيها: {طه} يقرئهما إيَّاها، فلما سمعوا حسّ عمر، تغيَّب خبَّاب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمةُ بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمِعَ عمرُ حين دنا  إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال : ما هذه الهَينمةُ التي سمعتُ؟ قالا له : ما سمعت شيئاً؛ قال : بلى والله، لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بخنته سعيد بن زيد؛ فقامت إليه أختُه فاطمة بنت الخطَّاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجَّها؛ فلما فعل ذلك قالت أختُه وختنه : نعم قد أسلمنا وآمنَّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندِم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سَمِعْتُكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبا؛ فلما قال ذلك، قالت له أخته : إنَّا نخْشاك عليها؛ قال : لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردَّنها -إذا قرأها- إليها؛ فلما قال ذلك، طمعتْ في إسلامه، فقالت له : يا أخي، إنك نجس، على شرْكك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصَّحيفة، وفيها : {طه} فقرأها؛ فلما قرأ منها صدراً قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبَّاب خرج إليه، فقال له : يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خَصَّك بدعْوة نبيِّه، فاني سمعته أمس وهو يقول : >اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكَم بن هشام، أو بعُمر بن الخطَّاب< فاللهَ اللهَ يا عمر. فقال له عند ذلك عمر : فدلَّني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسْلم؛ فقال له خبَّاب : هو في بيت عند الصَّفا، معه فيه نَفَر من أصحابه، فأخذ عمرُ سيفه فتوشَّحه، ثم عمد إلى رسول الله  وأصحابه، فضرب عليهم الباب؛ فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله ، فنظر من خلل الباب فرآه متوشِّحاً السيف، فرجع إلى رسول الله ، وهو فَزِع فقال : يارسول الله، هذا عمرُ بنُ الخطاب متوشِّحا السيف؛ فقال حمزة بن عبد المطلب : فأذنْ له فان كان جاء يريد خَيْراً بَذَلَناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه؛ فقال رسول الله   : ائْذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسولُ الله  حتى لَقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزته، أو بمجمع ردائه ثم جَبَذه به جبذةً شديدة، وقال : ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزل الله بك قارعةً فقال عُمر : يا رسول الله جِئْتك لأُومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال : فكبر رسول الله  تكبيرةً عَرف أهلُ البيت من أصحاب رسولِ الله  أن عمر قد أسلم.

فتفرَق أصحاب رسول الله  من مكانهم، وقد عَزّوا في أنفسهم حين أسلم عمرُ مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيَمْنعان رسول الله  وينْتصفون بهما من عدوّهم فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمرَ بن الخطَّاب حين أسلم.

رواية عطاء ومجاهد عن إسلام عمر

قال ابن إسحاق بسنده : عن عطاء، ومجاهد، أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه، أنه كان يقول : كنت للإسلام مُباعداً، وكنت صاحب خَمْر في الجاهلية، أحبُّها وأشر بها، وكان لنا مجلسٌ يجتمع فيه رجال من قُريش بالحزْوَرة(1)،قال : فخرجت ليلةً أُريد جُلسائي أولئك في مَجْلسهم ذلك، قال : فجئتهم فلم أجدْ فيه منهم أحداً قال فقلت : لو أني جئتُ فلانا الخمَّار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلِّي أجدُ عنده خمراً فأشرب منها. قال : فخرجتُ فجِئْته فلم أجدْه  قال : فقلت :فلو أني جئت الكعبة فطُفْت بها سبعاً أو سبعين. قال : فجئتُ المسجدَ أُريد أن أطوف بالكعبة، فاذا رسول الله  قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مُصلاه بين الرُّكنين : الركن الأسود، والركن اليماني. قال : فقلت حين رأيته، والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول! قال فقلت لئن دنوت منه أستمع منه لأروِّعنَّه؛ فجئت من قِبَل الحجْرِ فدخلت تحت ثيابها، فجعلتُ أمشي رويداً، ورسولُ الله  قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قِبلته مُسْتَقْبِله، ما بيني وبينه إلا ثيابُ الكعبة. قال : فلما سمعتُ القرآن رقَّ له قلبي، فبكيتُ ودخلني الإسلام، فلم أزلْ قائما في مكاني ذلك، حتى قضى رسولُ الله   صلاتَه، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكانت طريقَه، حتى يجْزع(2) المَسْعى، ثُم يَسْلُك بين دار عبَّاس بن عبد المطلب، وبين دار ابن أزْهر بن عبد عَوْف الزهري، ثم على دار الأخنس بن شَريق، حتى يدخل بيتَه. فتبعتُه حتى إذا دخل بين دار عبَّاس، ودار ابن أزْهر أدركتُه؛ فلما سمع رسول الله  حسّي عرفني، فظن رسول الله  أني إنما تَبِعْته لأُوذيه فنَهمني(3)، ثم قال : ما جاء بك يا بن الخطَّاب هذه الساعةَ؟ قال : قلت : جئت لأُومن بالله وبرسوله، وبما جاء  من عند الله؛ قال : فحمدَ اللَّهَ رسولُ الله ، ثم قال قَد هداك الله يا عمر، ثم مَسح صَدْري، ودعا لي بالثَّبات، ثم انصرفتُ عن رسول الله ، ودخل رسول الله  بيتَه(4).

قال ابن إسحاق والله أعلم أي ذلك كان.

ذ. المفضل الفلواتي

———-

1- الحَزْوَرة : كانت سوق مكة، وقد دخلتْ في المسجد لما زيد فيه، وفي الحديث : وقف النبي  بالحزورة، فقال : يا بطحاء مكة، ما أطيبكِ من بلدة وأجبكِ إليَّ!! لولاً أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك.

2- يجزع المسعى : يقطع المسعى، المقصود به المسعى بين الصفا والمروة.

3- فنهمني : زجرني.

4- وهناك رواية أخرى في  إسلامه عنه يقول فيها : دخلت المسجد فقمتُ خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلتُ أتعجب من تأليف القرآن، قال : قلت : هذا والله شاعر، فقرأ {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر} قال : قلت : كاهن علم ما في نفسي، فقال : {ولا بقول كاهن} إلى آخر  السورة، فوقع الإسلام في قلبي.