ذكر قوة عمر في الإسلام وجلده
قال ابن إسحاق : بسنده عن ابن عمر، قال : لما أسلم أبي عمرُ قال : أي قرَيش أنْقَلُ للحديث؟ فقيل له : جميل بن معمر الجُمحي. قال فغدا عليه. قال عبد الله بن عُمر : فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غُلام أعقِل كلَّ ما رأيت، حتى جاءه، فقال له : أعلمتَ يا جميلُ أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال : فوالله ما راجعه حتى قام يجرّ رداءه واتَّبعه عمر، واتبعتُ أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صَرخَ بأعلى صوته : يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، أَلاَ إن عمر بن الخطاب قد صبأ. قال : ويقول عمر من خلفه : كََذَبَ، ولكني قد أسلمتُ، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عَبده ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يُقاتلهم ويُقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال وطَلِِح(1)، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول : افْعَلُوا ما بَدا لَكُم، فأحْلِفُ بالله أن لو قد كنَّا ثلاث مئة رجلٍ لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا؛ قال : فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخٌ من قريش، عليه حُلَّة حِِبَْرة(2)، وقميص مُوَشَّى، حتى وقف عليهم، فقال : ما شأنُكم؟ قالوا : صَبا عمر؛ فقال : فمَهْ(3)، رجلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عديّ بن كعب يُسلمون لكم صاحبَهم هكذا؟! خلُّوا عن الرجل. قال : فوالله لكأنما كانوا ثوبا كُشِط عنه. قال : فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة : يا أبت، من الرجل الذي زجر القومَ عنك بمكة يوم أسْلمت، وهم يُقاتلونك؟ فقال : ذاك أي بُنَّى، العاصُ بن وائل السهمي.
قال ابن إسحاق : بسنده عن بعض آل عُمر، قال : قال عمر : لما أسلمتُ تلك الليلةَ، تذكَّرت أيّ أهلِ مكة أشد لرسول الله عداوةً حتى آتيه فأُخبره أني قد أسلمتُ؛ قال : قلت : أبو جهل -وكان عمر لحنْتَمَة(4) بنت هشام بن المُغيرة- قال : فأقبلت حين أصبحتُ حتى ضربتُ عليه بابه. قال : فخرج إليَّ أبو جهل، فقال : مرحبا وأهلاً بابن أختي، ما جاء بك؟ قال: جئتُ لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدّقت بما جاء به؛ قال فضرب الباب في وجهي وقال : قبَّحك الله، وقبَّحَ ما جئْتَ به.
——
1- طَلح : أعْيَا.
2- حُلّة : نوع من برود اليمن.
3- مَهْ : اسكتوا عنه، وكُفّوا.
4- ألحنْتَمة : أخْت أبي جهل. أي أن عمر كان يقول لأبي جهل : “خالي”.
الفــوائــد :
1) القرآن هو ر وح الأمة وحِرمانها منه أكبر جريمة تُرتكب في حقها :
إن إسلام عمر ] كان بسبب سماعه للقرآن العظيم، سواء سمعه من أخته وزوجها، أو قرأه من الصحيفة التي كانت عند أخته وزوجها، حيث قرأ {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..} أو سمعه من رسول الله حين كان يصلي به بالكعبة، حيث كان يقرأ سورة الحاقة، فزلزلت كيانه، ثم تبع رسول الله فأسلم، كيفما كان الأمر، فالقرآن هو الذي فتح قلبه، ونوّر بصيرته، وقاده للْحقّ من أعماق نفسه بدون تردُّدٍ ولا تلَجْلجٍ. وهذا ليس أثر القرآن في عُمَر وحده وإنّما هو أثر القرآن في العَرب جميعا، حتى الذين كانوا أعداءَه، فعندما سمعوه بقلب سليم، وفطرة صافية خروا له سُجّداً يبكون ويبنون حضارة فريدة في التاريخ.
فأيُّ جَريمة ارتكبها المستعمر عندما أدخل للبلاد المستعمرة التعليم المدَني الذي لا رُوح فيه، وأي جريمة يرتكبها المغزوُّون بالاستعمار عندما يَحْرمون أبناء المسلمين من حفظ القرآن، ودراسته، وفهْمه، وتطبيقه بالمدارس والثانويات والكليات والمعاهد، حيث تنشأ أجيال جاهلة بالإسلام، جاهلة بالقرآن، جاهلة بالرسالة والوظيفة المنوطة بالأمة الإسلامية، جاهلة بحضارتها، وتاريخها، وفتوحاتها جاهلة بعلمائها، جاهلة بتراثها، جاهلة بمنهج تفكيرها، ومنهج حياتها، لا تعرف إلا التبعيةالذليلة للمستعمر الذي غرس أنياب ومخالب الكفر في أحشائها، إنها جريمةٌ ما بعْدها جريمةٌ، جريمة إزهاق روح الأمة، وإهالة التراب عليها، فعسى أن يتدارك الله عزو جل بلطفه قادتنا ومفكرينا ليعيدوا للأمة رُوحها وبنيانها.
2) التحدي بالإسلام وبالحق هو إرْثٌ الأنبياء والصالحين :
> فهذا نو ح \ يقول لقومه : {يَا قَوْم إنْ كانَ كَبُر عَلىْكُم مقامِي وتَذْكِيرِي بآيَاتِ الله فعَلَى اللّه توَكَّلْت فأجْمِعُوا أمْرَكُم وشُرَكَاءَكُم ثمّ لا يَكُنْ أمْرُكُم عَليْكُم غُمَّة ثمّ اقْضُوا إليَّ ولا تُنْظِرون}(يونس : 71).
> وهذا هود \ يقول لقومه : {فكِيدُوني جَميعاً ثمّ لا تُنْظِرُون}(هود : 54).
> وهذا إبراهيم \ يقول لقومه : {أُفِّ لكُم ولِما تعْبُدُون من دُون الله أفَلاَ تعْقِلُون}(سورة الأنبياء).
> وهذا محمد \ يقول لقومه : {قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُم ثُمّ كِيدُون فلاَ تُنْظِرُون إنَّ وَلِيِّي اللّه الذي نزّل الكتاب وهُو يتَوَلَّى الصّالحِين}(الأعراف : 196).
وهذا رجل ياسين يقول لقومه : {ومَالِيَ لا أعْبُد الذِي فَطَرنِي وإِلَىْه تُرْجَعُون}(سورة يس).
وهكذا إذا كان الكثير من الصحابة والمستضعفين تحدّوا عتاة الكفر فهم على درب الأنبياء والصالحين ساروا ليتركوا لأجيالنا القُدوة حتى يستطيعوا تحَدِّيَ الطغيان العالمي الكافر الذي أناخ بكَلْكله على الديار الإسلامية وشعوبها.
3) لا تحَدِّي إلا عن طريق العلم بالحق والثبات عليه :
طريق الحق بيّنةٌ واضِحةٌ لا يحتاجُ الاهتداءُ إليها إلا إلى عَقْلٍ راشد، وقلْبٍ سليم، وعُمر بالرغم من قِشرة القساوة التي كان عليها اتجاه المسلمين قبل إسلامه كان يحمل معْدِنا نفيساً من مؤهِّلات الاهتداء، ومقوّمات الاستقامة على الطريق، فقشرة القساوة كانت بسَبَب الغفلة الموروثة، والجهالة المتأصِّلة تقليداً بدون دليل عقلي يستطيعالوقوفَ في وجْه عقيدة الإسلام وشريعته ومنهجه، ولذلك كانت استجابته سريعةً بمجرَّدِ ما سمع صوْتَ الحقّ يُجَلْجل في صدْره. وأمثال عُمر كثيرون في شعوبنا اللاهية وشعوب غيرنا الغافلة، فلا تحتاج إلا إلى من يعرف كيف يُوصِلُ إليْها الهُدَى بدليله ومنهجه، حتى يعرفُوا الحقّ عن طريق العلم اليقينيّ الذي لا شك فيه، ولا ارتياب، وبذلك اليقين يكتسب المسلم العالم ثقة بالله عالية، وتوكُّلاً عليه بدون مبالاة بالأصنام الجامدة، والأهواء البشرية الصانعة للفِتَن والالتواءات والمناورات.
فالعلم اليقينيّ بالحق أساس الثبات، وعُمر وجميعُ العَرب المومنون -على بساطة قراءتهم- كانوا أصْدَق الناس سلامة فِكْر، وقُوة عقْل، وأقوى الناس ذكاءً ونجابة.
فلا يمكنُ للأمة أن يرْجع إليها يقينها بأحقية دينها، وثقتها بالله، وتحدّيها بدينها كل الحضارات، بدون قرآن، فالقرآن هو الزادُ الكبير للعلم بالحق، والثبات عليه مهما كانت الظروف، وعُمَر كان خريج المدرسة القرآنية، والمدرسة النبوية التطبيقية للقرآن العظيم في أعلى وأحسن صور التطبيق.
أ.ذ. المفضل الفلواتي