القـرآن والإنـسـان


بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}(الكهف: 10) ، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علما. اللهم افتح لنا أبواب الرحمة، وأنطقنا بالحكمة، واجعلنا من الراشدين، فضلا منك ونعمة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}(لأعراف: 43). {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(الأنعام:1).  {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}(الكهف:1).  الحمد لله الذي {له الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ }(القصص: 70)  سبحانه سبحانه. لا إله إلا هو.

موضوع هذا الدرس : “القرآن والإنسان”، وهذا العنوان في حد ذاته يشعر بوضوح، أن هناك علاقة بين هذا القرآن وهذا الإنسان، وأن الذي هو في البؤرة هو هذه العلاقة، فما هو هذا الإنسان؟ وما هو هذا القرآن؟

طبيعة الإنسان ووظيفته

أ- الطبيعة :

الذي يخبرنا بالحق في ذلك، هو من خلق هذا الإنسان، فهو العليم الخبير به {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك:14)

طبيعة هذا الإنسان، أنه مخلوق من طين وروح، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(سورة ص : 71)، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا االإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}(المؤمنون:12) فأصلنا جميعا من الطين، إلا أن الله تعالى نفخ فيه من روحه،  فتكوّن أبونا آدم عليه السلام، ثم تكوّن من سلالته هذا الإنسان، الذي صار بتلك النفخة خلقا آخر، كما أشارت الآية {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر}(المؤمنون: 14) وذلك بعد مرحلة النطفة، والعلقة، والمضغة المخلقة وغير المخلقة، وبعد أن أُرسِل إليه الملك،  فنفخ فيه الروح؛ إذ ذاك نصير خلقا آخر، مغايرا كل المغايرة لما كان عليه الحال قبل ، مخالفا كل المخالفة للأصل الطيني.

بهذه النفخة الربانية نصير خلقا آخر، تتلاحم جزئياتنا؛ لتكون هذا الكائن، وخصائص هذا الكائن، بكل ما تعطيه الروح لهذا الكائن من مظاهر الحياة، وخصائص الحياة.

وإذن فهذا الإنسان ليس من طين فقط، وليس من روح فقط، إن طبيعته مزدوجة، تخلقت من انسجام هذين العنصرين، وتركبهما بطريقة خاصة، أعطت هذا الإنسان كل الخصائص التي له.

ب- الوظيفة :

وبهذه الطبيعة المزدوجة استخلفه الله عز وجل في الأرض، قال جل من قائل : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة:30) فقبل أن يخلق آدم، حددت الوظيفة التي له في الأرض ((خليفة))، وحدد المكان الذي سيمارس فيه هذه الوظيفة ((الأرض))، وكل ذلك جعلاً من الله تعالى، ومادة {الجعل} عموما في القرآن الكريم، تتجه إلى إرساء، وتنظيم الشأن العام الكوني، قال تعالى في أول سورة بعد الفاتحة : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}(البقرة: 21- 22) هو الذي جعل لنا الأرض فراشا، ممهدة لنا تمهيدا، كما يمهد الفراش، وهو الذي جعل إبراهيم عليه السلام إماما للناس، وهو الذي جعل البيت مثابة للناس، وهو الذي جعل وجعل سبحانه، ومن ذلك جعل آدم خليفة،  وجعل ذريته من بعده تتوارث هذه الوظيفة، يخلف بعضها بعضا {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}(الأنعام: 133).

ج- من مستلزمات الاستخلاف تسخير المخلوقات للمستخْلف :

فالإنسان مستخلف في الأرض ، وطبيعة الخلافة تقتضي أن هناك مستخلفا له، وأن هناك عهدا وميثاقا لهذه الخلافة ، وأن هناك ما تتجلى فيه هذه الخلافة، وذلك هو الشطر الثاني المحدد لطبيعة المهمة  في هذه الخلافة، وهي: العبادة  {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)

لم أخلقهم لشيء آخر، كل الكائنات خلقت لغيرها، وكلها خلقت لهذا الإنسان؛ كثير من الأشياء خلقت للنبات، والنبات خلق للحيوان، والحيوان والنبات والجماد، وكل ما في هذا الكون سُخر للإنسان، وخُلق للإنسان، وهذا الإنسان إنما خلق لله عز وجل، خلق لعبادة الله سبحانه وتعالى {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(لقمان: 20) {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}(الجاثية : 12) {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}(البقرة: 29)  ((خلق لكم))، ((سخر لكم))، ((جعل لكم))، الكل في هذا الكون أُعد للإنسان، حتى الشمس والقمر {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(ابراهيم:33- 34)

د- من مستلزمات التسخير العبدية لله :

هذا يدل على أن موقع هذا الإنسان عند الله كبير وعظيم جدا في هذا الكون ، وحسبنا أنه خليفة، وأن وظيفته في هذه الخلافة، أن يعبد الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}(الذاريات:56- 57)

خلافا لما يشتغل به بنو آدم ويهتمون، كلا ثم كلا، إني أريدهم لي لا لغيري، وطلبت منهم أن يعبدوني لا أن يعبدوا غيري، وسخرت لهم تيسيرا لذلك غيري، الملائكة أنفسهم مكلفون بأمور في هذا الكون، بها يتم حفظ نظامه العام، وذلك الكون، إنما أعد ليخدم هذه الأرض، التي أعدت هي نفسها؛ لتستقبل الإنسان.

فالمركزية في هذا الكون المنظور حتى الساعة، هي: للأرض، والمركزية في هذه الأرض هي: للإنسان، وهذا الإنسان ذو طبيعة خاصة، وذو وظيفة خاصة، وذو رسالة خاصة، وذلك هو شأنه، فما شان القرآن؟

طبيعة القرآن ووظيفته

أ- الطبيعة :

يقول الله جل وعلا : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}(الشورى: 52).

ويقول جل من قائل : {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(المائدة: 15- 16).

الطبيعة الأولى للقرآن : أنه روح، هذا القرآن إذن أول خصائصه، مما يجلي طبيعته، أنه روح من أمر الله، وهو نفس التعبير الذي عبر به القرآن عن الروح التي نعرفها {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}(الاسراء:85).

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}(الشورى: من الآية52). {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}(غافر:15).

القرآن روح من أمر الله، وخاصية الروح أنها تمنح  كل خصائص الحياة للكيان، فهو روح حين تحل في الإنسان الفرد تمنحه الحياة بعد الموت، فيصير بها خلقا أخر.

وهو روح حين تحل في جمع من الناس، يصيرون جسدا واحدا، وأمة واحدة. وما صارت هذه الأمة: أمة الإسلام ،خير أمة أخرجت للناس، إلا بحلول روح القرآن في أفرادها جميعا، وفي كيانها العام جميعا، >مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<(متفق عليه) وما صنعت هذه الأمة ما صنعته في التاريخ، إلا حين حلت في أفرادها روح القرآن، وحلت في مجموعها روح القرآن.

الطبيعة الثانية للقرآن : أنه نور {جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}(الشورى: 52). {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ}(المائدة:15) {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}(لأعراف:157) .

هذه طبيعته، أنه  نور من نور الله، و{الله نور السماوات والأرض}(النور : 35)، ولا نور لأحد إلا من نوره {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(النور: 40) وشأن النور أن يعطي الأمان، وأن يوضح الرؤية، وأن يبرز الأشياء على حقيقتها.

بواسطة النور، نرى الأشياء بأحجامها الطبيعية، وألوانها الطبيعية. مع النور يكون الأمن والأمان، ومع الظلمة تكون الرهبة والخوف. مع النور يكون الوضوح،  ومع الظلمة يكون الغموض. مع النور تُعرَف الحقائق،  ومع الظلمة تُطمس الحقائق.

إن هذا القرآن نور للقلوب، ونور للعيون، ونور للألسنة، ونور للجوارح، ونور للفرد، ونور للأسرة، ونور للجماعة، ونور للأمة، ونور للبشرية. حين يحضر تحضر كل خصائص النور ومزايا النور، وحين يغيب تحضر كل مصائب الظلام وأخطار الظلام. ولا سبيل إلى حضوره والانتفاع به إلا باتباع رضوانه {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام… }(المائدة : 15- 16).

هذان الأمران يجليان، بإيجاز وتركيز، طبيعة هذا القرآن : أنه روح من أمر الله، وأنه نور من الله جل جلاله.

ب- الوظيفة :

فما وظيفة هذا القرآن بناء على تلك الطبيعة؟ إنها باختصار “الهداية”، قال جل جلاله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(الاسراء: 9). هذه الكلمة الجامعة تحدد وظيفة القرآن الجامعة؛ ولذلك كان هذا الدعاء الوحيد الفريد الذي ندعو به الله جل وعلا في سورة الفاتحة كل يوم سبع عشرة مرة إجباريا، وإلا لاتصح صلاتنا : {اهدنا الصراط المستقيم..} ماذا نطلب من الله تعالى في هذا الدعاء الوحيد الفريد؟ نطلب الهداية. كل ما قبلها في الفاتحة مقدمة لها، وكل ما بعدها تفصيل لها. أما الدعاء الوحيد المستمر، والطلب الوحيد المتكرر، إنما هو شيء واحد وحيد، هو الهداية، فأين الجواب عن هذا الطلب؟ ذلك ما نجده أول ما ندخل إلى سورة البقرة، أوَّلِ سورة بعد الفاتحة التي هي بمثابة المقدمة لهذا الكتاب العظيم : {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}(البقرة:  1- 2)، كأن الله تعالى يقول لنا : أنتم تطلبون الهداية؟ تفضلوا، ها هو الكتاب أمامكم، فيه ما تريدون، هو محض هدى، على الوقف على “لا ريب فيه” وهو يتضمن الهدى على الوقف على “لاريب”، لكن لمن هو هداية؟ لمن اتقى، للمتقين، لمن اتبع رضوانه {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رضوانه}(المائدة: 16) أما الذي لم يتبع رضوانه فلن يهتدي {جَزَاءً وِفَاقاً}(النبأ:26).

ذلك بأنك إذا سألت عن مكان بعينه، فرُسِم لك الطريق إليه بدقة من خبير، بكل التفصيلات، ثم لم تتبع أنت ذلك الرسم، وذلك الإرشاد، وسرت بعكسه، هل ستصل إلى المقصود؟ كلا ثم كلا. لن يحصل لك المقصود إلا بالاتباع، أي بالتقوى، {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}(البقرة:2).

فالقرآن من حيث هو دلالة وإرشاد هو هدى للناس جميعا, ولكن لا يهتدي وينتفع به إلا المتبعون المتقون {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }(البقرة: 185). {فإما ياتينكم مني هدى فمَن اتّبع هُداي فلا يضِلّ ولا يشقى ومَن أعرَض عن ذِكري فإنّ لهُ معيشةً ضنكاً}(طه : 120- 122).

وظيفة القرآن الهدى والإرشاد إلى كل ما فيه صلاح العباد، آمرا بما ينفع داعيا إليه، ناهيا عما يضر محذرا منه.  فما من خير إلا ودلنا عليه القرآن، وبينه لنا رسول الله ، وما من شر إلا ونهانا عنه القرآن، وبينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنه محض هدى، فهل يطلب الهدى في غيره؟ كلا ثم كلا {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}(البقرة: 120) بالحصر, فلا هدى للإنسان في غير القرآن، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله.

فلنفقه هذه الحقيقة الضخمة الواضحة الصريحة الصحيحة.

هذا القرآن هو الهدى، وهو الميزان لكل هدى، حتى هدى العقل الذي أودعه الله في بني آدم، حين {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(طـه: 50) إذ لا يمكن الاستفادة من ذلك إلا إذا وزن بميزان القرآن الذي هو الهدى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف:103- 104).

ذلكم كان عن طبيعة الإنسان والقرآن.

فماذا عن علاقة القرآن بالإنسان؟

علاقة القرآن بالإنسان

ما أسهل أن نتصور تلك العلاقة بعد أن عرفنا الطبيعتين: طبيعة الإنسان وطبيعة القرآن، وعرفنا الوظيفتين : وظيفة الإنسان ووظيفة القرآن.

وأهم ما يُمثِّل تلك العلاقة ثلاث :

1- علاقة الروح بالجسد}(الحياة والموت) :

قال الله عز وجل : {أوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}(الأنعام: 122). أومن كان ميتا فأحييناه، الإنسان بدون قرآن ميت، حتى تحل فيه روح القرآن، وبالقرآن يتم إحياء الإنسان، فأول علاقة بين القرآن والإنسان هي علاقة الروح بالجسد، ذلك بأن الإنسان كما تقدم، مكون من عنصرين: طين وروح، والعنصر الطيني مسيَّر من  العنصر  الروحي، فهو الذي يقود الإنسان إلى الخير، أو يقوده إلى الشر {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس:7- 100)

هذه الروح هي التي تقود الإنسان إلى المسجد، أو تقوده إلى الحانة، هذه الروح هي التي تزين له الخير، أو تزين له الشر، هذه الروح بم تتغذى؟  نحن نغذي أجسامنا عادة كل يوم ثلاث مرات، فماذا نغذي؟ نغذي العنصر الطيني، أما العنصر الروحي، فإنما يُغذى بغذاء من جنسه هو الوحي، الوحي فقط هو الذي يغذي الأرواح، وإنما يكون في الكلام ضرب من غذاء الأرواح على قدر ما فيه من روح القرآن، وهدى القرآن. قد نتأثر بكلام رباني غير القرآن، وغير السنة البيان، وما ذلك إلا لما فيه من ذلك الأصل، الذي هو روح من أمر الله ونور من الله؛ بسبب ذلك كان ذلك، هذه هي الحقيقة.

ولنعرف خطورة غيبة هذا الغذاء الروحي، يكفي أن ننظر في تشريع الصلاة : لماذا أوجبها الله تعالى في اليوم خمس مرات؟. لم يوجب علينا، أن نفطر في الصباح ، ولم يوجب علينا أن نتغذى، ولم يوجب علينا أن نتعشى، ولكن أوجب علينا أن نصلي صلاة الصبح، وأوجب علينا أن نصلي صلاة الظهر، وأوجب علينا أن نصلي صلاة العصر، وكذا صلاة المغرب، وصلاة العشاء، وكل ذلك في أوقات معينة {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}(النساء: 103) لمه؟ لأن العنصر الروحي في الإنسان يحتاج ضرورة إلى التزود بالطاقة خمس مرات في اليوم، وبذلك الترتيب، وإلا لم تبق فيه طاقة، وصار مهددا بالانطفاء والموت. الجوع الديني في الإنسان أكبر من الجوع الطيني، بدليل هذا التشريع، وعبر الصلاة يتم التزود، فنحن نقف بين يدي المولى جل وعلا لنتزود ونستمد من أسمائه الحسنى المعاني الحسنى : نستمد من اسمه العليم العلم، ومن اسمه الحكيم الحكمة، ومن اسمه النور النور… وهكذا. إذا لم يقع اتصال، لا يقع استمداد ولا إمداد، تماما كما نُدخِل القابس (بريز)  للاتصال بالدائرة الكهربائية لتزويد بطارية ما بالطاقة، عندما لا يكون اتصال وتزويد، فإن الطاقة القديمة تستهلك، والجهاز يتعطل عن العمل، كذلك الأمر في هذا الإنسان. ألا ما أشبهنا بهاتف محمول تحتاج بطاريته إلى شحن مستمر، وبصورة منظمة منتظمة، كما شرع الله عز وجل، وهو الخبير بنا، العليم  بما يصلح لنا ويصلحنا.

وعليه، فأي ضرر وأي خطر يتهدد البشرية حين لا تصلي لربها، وأي ضرر وأي خطر يلحق الفرد حين لا يصلي الصلاة التي شرع الله،  وأمر بها الله، بشروطها وحقوقها  وعلى رأسها الذكر {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}(طـه:14)

ذلكم الذكر هو الذي به يحدث الاتصال، فإذا كان هناك سهو {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}(الماعون: 4- 5).

سواء كان هذا السهو عنها جملة، أو عن بعضها فيها؛ إذ يوجد الشبح ولا توجد الروح، وإنما روح الصلاة الذكر {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}(طـه: 14) ? لا لذكر سواي، لا للغفلة عني، فبذلك الذكر فقط يحدث الاتصال، وبالاتصال يحدث التزود بالطاقة حقا.

إن علاقة هذا القرآن بهذا الكيان الذي هو الإنسان كعلاقة الروح بالجسد، فإذا لم تُغذَّ الروح التي في الجسد، بالروح التي في القرآن بانتظام، كما أمر الله تعالى، فإنها تموت. وأغلب البشرية للأسف اليوم أموات غير أحياء. قال  : >مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت)}(رواه البخاري). فـ{يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}(الأنفال : 24).

هذه العلاقة الأولى. أما العلاقة الثانية فهي :

2-  علاقة النور بالإبصار}(الرؤية والعمى) :

وهي التي تشير إليها آيات الوظيفة، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(المائدة:15- 16) القرآن نور، وبالنور نبصر، إذا ذهب النور، نصبح في ظلام دامس، فلا نبصر طريقا، ولا خطرا، ولا أي شيء. لنتصور أنه لم يبق نور، ليس فقط نور الكهرباء، لم يبق لا نجوم، ولا قمر، ولا أي شيء، وأصبح الظلام مطبقا، ما الذي يحدث ؟ الاضطراب الكامل، التخبط التام، الهلع والفزع، يصطدم هذا بهذا، ويدفع هذا هذا، وتحدث جلبة، ويحدث عراك، وتحدث عجائب وغرائب، ولن يهتدي الناس إلى سبيل، لمّا يعرفوا حتى الباب أين هو؟

فبالنور إذن تتم الرؤية، ويتم وضوح الرؤية. و حاجة الإنسان إلى هذه الرؤية الواضحة، كحاجته إلى الهواء والماء؛ لأننا جئنا من غيب، ونتجه إلى غيب. نحن الآن لا ندري شيئا من الغيب {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت}(لقمان : 34)، علاقتنا بالدقيقة القادمة أو بالدقائق القادمة لا نعرف عنها شيئا، نتواجه في كل لحظة مع الغيب، الغيب أمامنا يحجب رؤيتنا للمستقبل، ونحن في كل لحظة نخترق ظلامه اختراقا, شِئنا أم أبينا. فكيف إذن نتصرف في هذا الواقع بأمان واطمئنان؟ الله عز وجل أرشدنا بهذا النور إلى أن نتصرف تصرفا يكفل لنا أن نُحفَظ ونحن نخترق عالم الغيب : >احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك<(رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) ذلك بأن الغيب وإن كان مستورا عنا، فهو معلوم لله جل وعلا، فإذا تصرفنا كما أمر الله تعالى في كتابه وسنة رسوله ، حُفظنا بأمر الله من أمر الله.

فاللهم اجعل في قلوبنا نورا، وفي أبصارنا نورا، وفي أسماعنا نورا، ، وعن يميننا نورا، وعن يسارنا نورا، وتحتنا نورا، وأمامنا نورا، وخلفنا نورا، وفوقنا نورا، واجعل لنا نورا}(الدعاء بصيغة المفرد في صحيح البخاري).

أجل، إنه النور الربّاني، إذا صرنا وفق هداه ربحنا دنيانا وأخرانا، وإلا خسرناهما معا،  {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتواصوا بالحقّ وتواصَوا بالصّبر}(العصر: 1- 3) {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}(التين:1- 6) {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الزمر: 15)،  {كلاّ إذا دُكّت الأرض دكّا دكا وجاء ربك والملك صفّا صفّا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}(الفجر:23- 27).

فلا حياة إلا تلك الحياة : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}(الدخان:56) تلك هي الحياة حقا وصدقا، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الحَيوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:64) فيجب الاستيقاظ الاختياري قبل الاستيقاظ الاضطراري. فقد روي أن عليا كرم الله وجهه قال : >الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا<.

3- علاقة الماء بالأرض (الخصوبة والجدب) :

العلاقة الثالثة : علاقة الماء بالأرض. وأحسن بيان لها بيان رسول الله  في حديث الهدى المشهور الذي ذكر أول الدرس : >إن مَثَلَ مَا بَعَثَنِي الله(عز وجل) بِهِ من الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غيث أَصَابَ أرضا فَكَانَ مِنْهَا طائفة طيبةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنبتت الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِير،َ وَكَان مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَت الماء فنفع الله بها الناس فَشربوا  منها وسَقَوْا ورَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طائفة أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله عز وجل، وَنَفَعَهُ بمَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الهدى والعلم، فَعَلِمَ وَعَلَّم،َ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ<(متفق عليه واللفظ لمسلم).

هذا الحديث في غاية الوضوح في بيان وجه من وجوه العلاقة بين القرآن والإنسان، إذا كانت العلاقة الأولى: تقوم بوظيفة الإحياء، والعلاقة الثانية: تقوم بوظيفة الإبصار، فإن هذه العلاقة تقوم بوظيفة  التخصِيب، إذ بها يُحدِث الإنسان فعله الحضاري النافع.

ذلك بأن الوحي (الهدى والعلم) الذي أوتيه محمد  إسعاداً للناس ورحمة للعالمين، مثله كمثل الماء النازل من السماء إغاثة للناس، بعد اشتداد الحاجة إليه نشرا للرحمة في الأرض. كما قال تعالى : {وهُو الذِي ينزّل الغيث من بعد ما قنطُوا وينشُر رحمته وهو الولي الحميد}(الشورى : 26).

فكما أنه لا خصوبة في أي أرض بغير ماء، بل لا حياة {وجَعَلنا مِن المَاء كُلّ شيء حي}(الأنبياء : 30) فكذلك لا هداية في أي قلب، بل لا حياة بغير قرآن. ولن تستفيد أرض من ماء ما لم تقبله ، ولن يستفيد قلب من قرآن ما لم يقبله {قُل هو للذِين آمنُوا هُدى وشِفاء والذين لا يومنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك يٌنادون من مكان بعيد}(فصلت : 43). فإذا لم تُنبِت الأراضي السِّبخَة الملساء التي لا تقبل أن يستقر بها الماء وهي القيعان، فإن العيب فيها وليس في الماء، وكذلك حال قلب الإنسان عند عدم الإيمان بالقرآن.

إن القرآن غيث عام ورحمة شاملة، والناس في استقبالها طوائف ثلاثة :

1) طائفة طيبة، قبلت الماء ، أي سمحت له بأن يتخلل كيانها، وأن ينفذ إلى أعماقها ليحدث الأثر المطلوب، كما قال تعالى : {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأَنبَتَت من كُلِّ زوجٍ بهِيج}(الحج:5)

هي طائفة استقبلت هدى الله  ووعته، وعملت به، ثم أرسلته، وبلغته، وعلَّمته؛ تعلمته بجميع معاني التعلم، وعلمته بجميع معاني التعليم، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها خير كثير للبلاد والعباد. فهي أفضل الطوائف.

2) (طائفة) أجادب صُلبة لا ينفذ إلى باطنها الماء، فما قبلت الماء، لكن أمسكته، فاستفاد الناس من مائها، وإن لم تستفد هي منه. فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وهذا النوع من الحاملين للعلم، وإن كان غير منتفع فهو نافع.

3) طائفة قيعان سَبخَةٌ ملساء، لا يستقر فيها الماء، إذا نزل عليها الماء لا تمسكه كالطائفة الثانية، بَلهَ أن تنبت كالطائفة الأولى، فهي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، وهذه لا تنفع ولا تنتفع. فهي أسوأ الطوائف.

هذه الأنواع الثلاثة. ما السر في أحوالها الصالحة والطالحة.

إنه الفقه في دين الله تعالى أو عدمه. الفقه في دين الله تعالى هو سر التفعيل، وسر العطاء، قال  : >من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين<(متفق عليه) وقال أيضا : >الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا<(رواه البخاري) الفقيه في الدين منتفع نافع، الفقيه في الدين عالم عامل معلّم للناس الخير؛ إذ الرسالة مستمرة، والأمة شاهدة على الناس، وهذه الشهادة لا تتيسر بغير التعلم والتعليم معا، >إنما العلم بالتعلم< كما في الحديث الصحيح}(صحيح الجامع للألباني)، ولا بد لمن تعلم أن يُعلم لتتواصل الأمانة، وتتواصل الشهادة، حتى قيام الساعة، فذلك مثل من فقه في دين الله فعَلِم وعَلَّم، أما من لم يقبل هدى الله، فمن أين له فقه الدين، حتى ينتظر منه الخير الكثير أو القليل؟.

وعليه، فإن المخصِّب لهذا المعدن البشري ، ولهذا الصلصال، إنما هو هذا القرآن، هو الذي يخصّبه، فيحدث الفعل الحضاري الصالح، من جنس  ما أحدثه رسول الله ، وأحدثه الصحابة رضوان الله عليهم من بعده، و أحدثه الجيل الراشد الذي حمل النور في الكرة الأرضية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، في ظرف قياسي لم تعرفه أمة من الأمم قط.

خــاتـمــة

وأخيرا ما الذي يجب على هذه الأمة الآن لكي تتوب من هجر القرآن؟ إننا نحتاج إلى توبة نصوح، ولا سيما في جبهة التعليم؛ ذلك بأن التعليم هو: الذي ينزل الغيث أو ينزل القحط،  ويسجله في قلوب الأطفال، وقلوب الشباب، وقبل التعليم توجد الأسرة، ومع التعليم يوجد الإعلام. فالمعلمون الكبار للخير أو للشر مؤسسات ثلاث:

1) مؤسسة الأسرة: لقول الرسول  : >كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه…<(رواه البخاري) والفطرة هي الإسلام، لقول الله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(الروم:30) ولقول الله عز وجل في الحديث القدسي : >خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم…<(رواه مسلم).

لماذا الأبوان؛ لأن الاحتكاك الأول بهما؛ فإذا قام الأبوان بوظيفتهما في غرس روح القرآن، وفي غرس نور القرآن، وفي غرس هداية القرآن، فإن شوطا كبيرا سيقطع في اتجاه إعادة الأمة إلى التاريخ، وإلى الرشد والعطاء الحضاري.

2) مؤسسة التعليم : لأن التعليم يتلقى الطفل في سن مبكرة، ويحدث التأثير فيه بطرق متعددة، بطريق القدوة الذي هو الأستاذ أو الأستاذة، وبطريق الوسائل والوسائط السمعية والبصرية، وبطرائق المعلومات التي يقدمها له، وبطرائق وطرائق… كل ذلك يدفع في اتجاه واحد هو: جعل هذا المتعلم قد خزن فيه وأعد لما ينفع الناس ويمكث في الأرض، أو خزن فيه وأعد لما يضر الناس ويفسد الأرض، وهذه حقيقة تثير تساؤلا ضخما، عن رسالة التعليم ووظيفة التعليم في الأمة اليوم، ما هي تلك الرسالة؟ وما هي تلك الوظيفة؟ ما نوعية الخريج الذي ينبغي أن يصنعه التعليم في الأمة اليوم، التعليم معمل، فأي إنتاج ينتج؟ وأي خريج يُخرِّج؟ لابد أن نتساءل عن هذه النقطة، ولا بد أن نتعاون على جعل التعليم مؤسسة لتربية وتكوين الخريج الذي أصله ثابت ورأسه في السماء يوتي أكله كل حين بإذن ربه.

3) مؤسسة الإعلام : الإعلام اليوم أصبحت له وسائل لا تستأذن أحدا، ولا تقبل محاصرة أو تحديداً، أصبحت تدخل إلى عمق البيت، وتدخل إلى عمق المدرسة، وتكتسح الشوارع، وتكتسح المؤسسات… هذا الإعلام ما رسالته الحقيقية أيضا؟ إن رسالته : أن يعلم الناس الخير، إن رسالته أن يعلّم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، إن رسالته التمكين لروح القرآن ونور القرآن وهدى القرآن لإنقاذ هذا الإنسان.

ولو يعلم الإعلاميون كم أعد الله لهم من الأجر حين يحسنون تعميم الخير لطاروا من الفرح، فالله الله في الأمة أيها الإعلاميون. وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

والحمد لله رب العالمين.

د. الشاهد البوشيخي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>