2- اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج(1)
تحدث الدكتور محمد التاويل في الأعداد السابقة عن أدلة عدم جواز اعتماد الخبرة لنفي الولد عن الزوج منها: أنه مخالف لكتاب الله ولقضائه صلى الله عليه وسلم، ويواصل الحديث عن اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوجز.
كما قلنا وكما يعلم الجميع ويسمع فإن هناك أصواتاً تصرخ، وفتاوى تطبخ، ودعاوى ترفع ونقاشات تحتد. وجهات عديدة تحتج وتطالب باعتماد الخبرة الطبية أو ما يعرف بالبصمة الوراثية لإثبات النسب وإلحاق الولد بمن تخلق من نطفته خارج مؤسسة الزواج وخاصة إذا كانت هناك خطوبة سابقة أو دعوى زوجية مرفوعة.
وهي مطالب لا مبرر لها، وفتاوى لا مستند لها، ولا دليل عليها، ودعاوى لا حياء لمن يرفعها أو يدافع عنها، ثم هي خبرة لا حاجة إليها، ولا قيمة لها، ولا فائدة ترجى منها شرعا. لأنه إن كان هناك نكاح ثابت معلوم صحيح أو فاسد مختلف فيه، أو مجمع على فساده ولا يعلم الزوج بفساده فالولد لاحق بالزوج بقوة الشرع. ونص الحديث: “الولد للفراش” ولا سبيل لنفيه عنه إلا بلعان إجماعا كما سبق تقريره في المطلب الأول وإن لم يكن هناك نكاح ثابت معلوم، وإنما هناك مجرد خطوبة أو وعد بالزواج دون عقد أو مجرد دعوى الزوجية، أو اغتصاب أو زنا محض فإنه لا عبرة بنتائج الخبرة ولا التفات إليها، لأن أقصى ما تثبته أن هذا الولد المتنازع فيه تخلق من نطفة هذا الرجل الذي تدعي المرأة الحمل منه، وأنه هو الأب الطبيعي له، وهذا لا يثبت به نسب ولا يلحق به الولد في الإسلام، كما يدل على ذلك الإجماع الصحيح والسنة النبوية الشريفة.
أما الإجماع فقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن الزاني إذا اعترف أن هذا الولد ابنه من الزنا وصدقته أمه فإنه لا يلحق به الولد، التمهيد.
وإذا كان لا يلحق به مع اعترافه وتصديق أمه فكيف يلحق به بمجرد الخبرة وهو ينكره وينفيه ويتبرأ منه.
وأما السنة فإن هناك أحاديث كثيرة في الموضوع كلها تدل على أن ابن الزنا لا يلحق بالزاني ولو استلحقه، منها هذه الأحاديث:
الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها في قضائه صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة الذي ادعاه سعد بن أبي وقاص بالنيابة عن أخيه الذي أوصى بقبضه إليه فقضى به صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة وقال: “الولد للفراش وللعاهر الحجر”، والحديث سبقت الإشارة إليه والاستدلال به.
والحجة فيه من وجوه:
أولا: في قوله “الولد للفراش” هكذا بصيغة الحصر التي تفيد أن لا ولد إلا للفراش، وهو عام في كل ولد ولد، وأنه لا يلحق إلا بالفراش، وبالفراش وحده دون سواه.
ثانيا: في قوله: “وللعاهر الحجر” بصيغة الحصر أيضا التي تفيد أنه ليس للعاهر إلا الحجر، وهو كناية عن الخيبة والحرمان من الولد، أو كناية عن الرجم على الخلاف في المراد بالحَجَر، وهو يفيد الحرمان من الولد أيضا، لقاعدة أن الحَدَّ والنسبَ لا يجتمعان فإذا وجبَ رجمُه فإنه لا يلحقه الولد.
وهذا تأكيد لما أفادته الجملة الأولى وأنه لا يلحق الولد إلا بالفراش، وهو عام في كل عاهر للقاعدة الأصولية أن المفرد المحلي بـ”أل”(1) يفيد العموم، فيشمل:
مَنْ عَاهَر بذاتِ زَوْج(2)، ومَنْ عَاهَر بمن لا زوْجَ لها، كما يشمل:
مَنْ استلحق ابنه من الزنا ومن نفاه وأنكره، الجميع لا يلحقُهُ الولد، وليس له من فِعْله وزناه إلا الخيبة والحرمان.
ثالثا: في قضائه صلى الله عليه وسلم بإلحاق الولد بِزَمْعة وإلغاء استلحاق عُتْبةَ له(3)، بالرغم مما رآه صلى الله عليه وسلم من شبهه بعتبة وعِلْمه بحملها منه في واقع الأمر كما قال ابن تيمية. مجموع الفتاوى الكبرى 137/32.
رابعاً: في تنبيهه صلى الله عليه وسلم على أن علَّة لحوق الولد بأبيه هي الفراش، وعلَّة انتفائه عن العاهر هي العهر للقاعدة الأصولية: أن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعِلّية ما منه الاشتقاق، وقاعدة أن التفريق بين حُكْمَيْن بوصْفين يدل على عِلَّية الوصْفَيْن للحُكْمين.
ومن القواعد: أن العلة يلزم من وجودها وجود الحكم، ومن عدمها عدمُه، وهي تقتضي عَدَمَ لحوق ولد الزنا بالزاني من وجهين:
- لانتفاء الفراش الذي هو عِلَّة لحوق الولد بالزوج، والعلة يلزم من عدمها عدم الحكم.
- لوجود العُهر الذي هو علة لانتفاء الولد عن الزاني، والعلة يلزم من وجودها وجودُ الحكم.
الحديث الثاني: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قام رجل فقال: يا رسول الله إن فلاناً ابْني(4) عاهرت(5) بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا دَعْوَة في الإسلام، ذهَبَ أمرُ الجاهلية الولدُ للفراشِ وللعاهر الحجر” (رواه أبو داود معالم السنن 241/3).
والحجة فيه من وجوه عدة: الأربعة الأولى في الحديث الأول، وزاد هذا على ما قبله بما يلي:
- إبطالُ استلحاق الزاني نَفْسِه لولده من الزنا عكس الحديث الأول فإن الاستلحاق كان فيه بالنيابة وبوصية من الزاني لأخيه لا مِنْه مباشرة، كما هنا: “إن فلانًا ابْني عاهَرْتُ بأمه”.
- إعلان هذا الحكم كقاعدة عامة في كل حالة حالة، “لا دَِعْوَة في الإسلام” هكذا بصيغة العموم الصريح، لقاعدة النكرة في سياق النفي للعموم نصا إن بُنِيَت على الفتح، بينما الحديث السابق يشوبه احتمال أنها قضية عَيْن، وأنها تختص بحالة اجتماع الزنا والفراش فيغلب الفراش على الزنا -الحلال على الحرام- وهذه النافذة التي يحاول البعضُ التسرُّب منها، والمناداة بجواز استلحاق ولد الزنا إذا كانت أمّه غير متزوجة إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: “لا دعوة في الإسلام هكذا بصيغة العموم يُغلق هذا النافذة ويُخرص تلك الألسنة كما أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: “وللعاهر الحجر” بصيغة العموم مع مراعاة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب يزيد ذلك الإغلاق إحكاما ويقطع تلك الألسنة، ويُسَفَّه الناطقين بها.
- كما أن قوله في هذا الحديث: “ذَهَبَ أمرُ الجاهلية” إعلان آخر ببطلان ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى وما يتمناه البعض ويدعو إليه من إثبات الأنساب بالنُّطَف، وإلحاق الأبناء بالزُّناة هو في نفس الوقت تقرير لشرع جديد يعتمد الفراش، والفراش وحده في ثبوت الأنساب ولحوق الأولاد بالآباء.
الحديث الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا مُسَاعَاةَ في الإسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادَّعى ولدًا من غير رَشْدة فلا يَرِثُ ولا يورث” (رواه أبو داود معالم السنن 235/9).
المساعاة: الزنا سُمِّي بذلك لأنه كان نوعا من السعاية يسعى به الإِمَاءُ لأسيادهن(6)، والحديث نصٌّ صريح في نفي التوارث بين الزاني وولده من الزنا، وهو دليل على نفي النسب باللزوم لأنه يلزم من انتفاء التوارث انتفاء النسب.
والحديث مرة أخرى صريح في إبطال استلحاق ابن الزنا، لقوله: “ومن ادعى ولدا من غير رشده فلا يرث ولا يورث”.
وهو مثل الحديث قبله يشكِّل إعلانا عاما بنهاية ما كان عليه أهلُ الجاهلية وبدايةِ عهد جديد لا مكان فيه للعهارة وأبناء العهارة.
الحديث الرابع: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أيما رجل عاهر بحرَّة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث” (رواه الترمذي 290/3) وفي رواية “من عاهر بحرة أو أمة”. (رواه ابن ماجة صحيح ابن ماجة 119/2).
والحديث نص آخر صريح في نفي نسب ابن الزنا من أبيه الزاني، ونصٌّ في عدم التوارث بينهما، وهو نتيجة لعدم لحوقه به وقَطْع نسبه منه.
والحديث عام في كل زان يشمل : مَنْ اعترف بزناه واستلحق ولده منه، ومَن أنكره ونفاه كما يشمل: كُلَّ زانية كانت ذاتَ زوج أَوْلاَ زَوْجَ لها، عملا بقاعدة: النكرةُ في سياق الشرط لِلْعموم.
الحديث الخامس: حديث عمرو بن شعيب أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: إن لي ولدًا من أمٍّ فلان من زنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ويحكَ، إنه لا عهر في الإسلام، الولد للفراش، وللعاهر الأَثْلَبُ(7)” (رواه سعيد بن منصور في سننه 78/2) وهو نص صريح في بطلان استلحاق ابن الزنا، ونص في عدم لحوقه به بالأَوْلَى والأَحْرى، وهو مثل الحديث الأول في وجوه الدلالات على عدم لحوق أبناء الزنا بالزناة وبطلان استلحاقهم.
الحديث السادس: حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استُلحِق بعد أبيه الذي يُدْعَى له ادعاه وورثته فقضى: أن مَنْ كان من أمة يَمْلِكُها يوم أصابَهَا فقد لحق بمن استلحِق، وليس له مِمَّا قُسم قبله من الميراث شيء، وما أدْرَك من ميراثٍ لم يُقْسَمْ فله نَصِيبُه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يُدْعى له أنكره فإن كان من أَمَةٍ لم يَمْلِكها أو من حُرَّةٍ عَاهَرَ بها فإنه لا يلحق ولا يورث.
وإن كان الذي يُدْعَى له وهو ادعاه فهو ولَدُ زَنْية من حُرَّة كانت أوْ أَمَة (معالم السنن 235/3).
وهو نص صريح أيضا في عدم لحوق ابن الزنا وبطلان استلحاقه أيضا لقوله: “فإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عَاهَرَ بها فإنه لا يلحق ولا يرث، وإن كان الذي يُدْعَى له وهو ادعاه فهو ولد زينة من حرة كانت أو أمة”.
الحديث السابع: حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري وغيره في أنواع نكاح الجاهلية والذي جاء فيه أن أهل الجاهلية كانوا يلحقون أبناء الزنا بآبائهم من الزنا بتعيين الزانية له في بعض الأنواع. وبإِلْحَاق القافة له في نوع آخر حتى جاء الإسلام فأبطل الإسلام تلك الأنكحة المعروفة إلا النكاح الذي عليه الناس.
فهذه الأحاديث كلها نصوص صريحة في أن ولد الزنا لا يلحق بالزاني قهراً عليه بقوة القضاء كما كان عليه الأمرُ في الجاهلية، ولا يصحُّ استلحاقه بإرادته واختياره وهو أمر مجمعٌ عليه بين علماء الأمة.
والأحاديث كما رأينا جاءت في شكل قواعد عامة وأحكام كلية: “لا عهر في الإسلام”، “لا دعوة في الإسلام”، “لا مساعاة في الإسلام”، “أيما رجل عاهر بحرة أو أمة” وهو ما جعل جميع الفقهاء يعمِّمون الحكم. ولا يفرقون بين:
زان يُنكر جريمته، ويُنكر ولده منها.
وبين زانٍ يعترف بزناه ويُقر بولده منه.
ولا بين زانية ذات زوج حملت من الزنا.
وبين زانية لا زوج لها حملت من خاطبها أو غاصبها أو ممن عاشرها.
الجميعُ سَوَاءٌ في الحكم: (ابن الزنا لا يُلْحَق ولا يُسْتَلْحق).
قال في التمهيد 190/8: (أجمعت الأمة على عدم لحوق ولد الزنا واستلحاقه).
إلا أنه بالرغم من هذه الأحاديث الكثيرة في عددها، الواضحة في دلالتها، والمؤيدة بإجماع الأمة عليها، فإنا نسمع بين الحين والحين من يجادل في الأمر بغيْر علم ويحاول التشكيك فيها. وتجاوزَها والالتفافَ عليها أو معارضتها بشُبَهٍ باطلة وتبريرات فاسدة.
وهكذا نسمع من يستدل لإلحاق أبناء الزنا بابائهم بالقرآن، ومن يستدل بالسنة النبوية، ومن يستدل بقضاء عُمر من الصحابة ومَن يستدل بالشُّبهة، ومن يستدل بتشوف الشارع للنسب وإنقاذ طفل لا ذنْبَ له فيما وقع، وبما يُنْسب لبعض الفقهاء في ذلك، شبه عدةٌ وهدف واحد، وهو:
محاولة تضليل الناس واقناعهم بالفكرة والضغط على المسؤولين لتبني الفكرة وتقنينها وإيهام الجميع أن لها سندًا شرعيا، وأصلا في الكتاب والسنة، والفقه الإسلامي بالإضافة إلى ما تتضمنه من تحقيق مصلحة لطفل بريء لا ذنب له.
هذه مرافعاتُ المدافعين عن أبناء الزنا لذلك نرى من الواجب تتبعَ هذه الشبه واحدةً واحدةً ومناقشتها وإظهار زَيْفها وبطلانَها حتى لا ينخدع الناس بها، وبعناوينها وعناوين أصحابها والقائلين بها.
وهذه مداخلاتهم ومؤازرتهم للزانيات في مطالبهن بحق أولادهن في المساواة بالأبناء الشرعيين في النسب وإن كان ملوثا.
1- المُحلّى بـ”أل”: المقترن بأل كالعَيْن، والكتاب، والعاهر تُطلق على كُلّ من أباحَتْ نَفْسَها لغير الزوج الشرعي.
2- عاهر بذات زوج: زنَى بالمتزوجة، وعاهرَ بمن لا زَوْجَ لها: أي زنَى بغير المتزوجة.
3- لأن زمعة هو سيد الجارية، أما عُتبة فكان زانياً.
4- أي من الزنا.
5- عاهرتُ: زنَيْت.
6- أي أن الأمة تختارُ فَحْلا جيِّداً لتحْمِل منه ولداً نجيباً ذكيا سيداً فتُلحقُه بسيّدها خِدْمةً لَهُ.
7- الأثلبُ: التراب والحِجارة، مثل: وللعاهر الحجر.