رسول الله كغيره من الرسل المنصورين والمؤيّدين بمختلف الجنود :
لم يكن الرسول بدعاً من الرسل في تدخُّل مختلف قوى الكون لنصرة دين الله ورسله، فنوح \ نُصر بالمياه المتفجرة من الأرض والمتدفقة من السماء، وموسى \ نُصر بالبحر المغرق لفرعون وجنده، فلا عجب أن نجد الأسد والحمار والأرْوَى وأوراق الشجر والحية والعقرب وغير ذلك في خدمة رسول الله ورسالته {فكُلاًّ أخَذْنَا بِذَنْبِه فَمِنْهُم من أَرْسَلْنا علَيْه حاصِباً ومنْهُم من أخذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنْهُم منْ خَسَفْنَا بِهِ الارْض ومِنْهم من أغْرَقْنا ومَا كَان اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولَكِن كَانُوا أنْفُسَهُم يَظْلِمُون}(العنكبوت : 40).
وكما يُنصر الرسل بمختلف قوى الكون نجد أن الله تعالى يؤيدهم بمختلف الآيات، فقد أخرج أحمد وابن أبي شيبة والدارمي وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله قال : دفعنا مع رسول الله إلى حائط بني النجار، فإذا فيه جمَل لا يدخل الحائط أحدٌ إلا شد عليه، فأتاه فدعاه واضِعاً مشفره في الأرض حتى برك بين يديه، فقال >هَاتُوا خِطَاماً< ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت وقال : >مَا بَيْن السّماءِ والأرْضِ إلاّ يعْلمُ أنِّي رسولُ الله إلاَّ عَاصِي الجِنِّ والإِنْس<(1).
وعن أبي سعيد الخدري قال : عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقْعَى الذِّئبُ على ذَنَبِه، فقال : (ألا تَتّقِي الله، تنزع مني رزقا ساقه الله عز وجل إليَّ؟؟) فقال الراعي : يا عجباً! ذئب مَقْعِيٌ على ذنَبِه يُكَلِّمني بكلام الإنس؟؟
فقال الذئب : (ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟! محمد بِيَثْرِبْ يُخْبِر الناس بأنباء ما قد سبق) قال : فأقبل الراعي يَسُوق غنمه حتى دخل المدينة فزوى إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله فأخبره. فأمَرَ رسُول الله فنودي : الصلاةُ جامعة، ثم خرج، فقال للأعرابي : أخْبِرْهم، فأخْبرهم، فقال رسول الله : >صَدق والذي نَفْسُ مُحمّدٍ بِيَدِه، لا تَقوم السّاعَةُ حَتّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإنْس، ويُكَلِّم الرجلَ عذَبةُ سَوْطِه وشِرَاك نَعْله، ويُخْبر فَخذه ما أحْدث أهْلُه بعْدَه<(2).
وهذا التأييد ثبت بطرق صحيحة في الصحاح قال : >إنِّي لأعْرِفُ حجراً بمكَّة كان يُسَلِّم عليَّ قَبْل أن أبْعَث إنِّي لأعْرِفُه الآن<(3).
المستفادات
لذة الشعور بالعيش في كنف الله لا تعدلها لذة :
إن الله تعالى كان يُسلِّي محمداً وصحبَه بالكثير من قصص الأنبياء، والكثير من مصارع المتكبرين، والكثير من بشريات الفوز بالجنة ونعيمها، والكثير من بشريات الظهور، ولكن في قول الله تعالى : {إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِين} تسلية خاصة، ولذة خاصة، يشعر بها الوجدان، ولا يستطيع التعبيرَ عنها اللسانُ.
فمعنى أن يقول الله عز وجل بجلالة قدْره، وفيض رعايته {إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِين}؟؟! معناه :
أ- أنك يا محمد -ومن معك- بكمال عبوديتكم، وكمال طاعتكم، وكمال جنديتكم، وكمال استجابتكم لأمرنا.. تحت مراقبتنا ورعايتنا، لا نغفل عن شيء يقع لكم، وإنما أمرنا يمشي وفق الحكمة العالية في تصريف أمور الكون، وترتيب النتائج على الأسباب.
فهذا على عرار قول الله تعالى : {فاصْبِر لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأعْيُنِنا}.
وما دُمْت يا محمد ومن معك بأعيننا، فتَفرّغ لدعوتك ورسالتك، ولا تهتمّ أبداً بأعدائك فقد كفيناك أمرهم كله.
وياليت المسلمين يهتمون بأن يكونوا عباداً مخلصين صادقين، ويكلون أمر خصومهم للقهّار الجبار، فذلك أعظم فقه ينبغي أن يأخذه المومنون من هذه الآية العظيمة -إنا كفيناك- لأن الخطر الأكبر دخل على المسلمين من إغفال التوكل الأعظم المتجلي في البذْل الأعظم، والتفرغ الأتم.
ب- إن قول الله تعالي لرسوله ومن معه {إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِين} بصيغة الماضي لم يكن إلا وهو يعلم أن أتباع محمد لَوْ أمِرُوا ببَذْل المهج والأرواح في سبيل الدّفاع عن نبيهم وفدائه لما تأخر أي واحد في القتال دونه ولو كان الصّدام مع الآباء والأبناء والإخوة، ولكن الله عز وجل شاء ألاّ يفجِّر الصراع بين العشائر قبل الأوان من جهة، ومن جهة أخرى أراد أن يعطي رسالة مفتوحة للمومنين من جهة بأن ربهم معهم، وللكافرين من جهة أخرى بأن هذا الدين له ربٌّ يحميه، وأن هذا الرسول له ربُّ يحميه، وأن هؤلاء المومنين لهم ربٌّ يحميهم.
حـ- إن النظر لأنواع الأسباب التي دمّرت المستهزئين تدل على أن الكون كله مجندٌ لتنفيذ أمر الله تعالى وحماية عباده، فالحمار أو البغل الذي يبرك بعدُوِّ الله على شبرقة ليقتله هو يخوض معركة، والأسد الذي يفتك بعتيبة، والحبل الذي يخنق حمالة الحطب، والأروى في الجبال تنطح عدوا لله، ألا يدل ذلك كله على أن الكون كله مسخر لخدمة الدين إذا وُجد حَمَلَةُ الدّين {وما يَعْلمُ جُنُودَ ربِّكَ إلا هُوَ}.
قصة استماع قريش للقرآن تَدُلُّ على قُوَّةِ أثَرِ القرآن في النفوس :
فقد استمعوا وتعاهدوا على ألا يرجعوا، ثم رجعوا، ورجَعُوا، فَصَمَتْ شخصيتهم، فهُمْ من جهة معْجَبُون مدْهوشون من القرآن : بلاغةً وفصاحةً، وإعجازاً على كل صعيد، وحقّاً مُدَوِّياً في القلوب.. ومن جهة أخرى لا يريدون الانخلاع عن أهوائهم ليستقيموا مع منهج القرآن ودعوته، وهم من جهة ثالثة لا يستطيعون الإتيان بمثله ليستطيعوا التحدِّيَ. فهم معانِدُون معانَدة المقْهور المغلوب، على عكس المسلمين المستجيبين، فإنهم مغلوبون أيضا مقهورون بقوة حق القران، ولكنهم استجابوا فاستراحوا، وآمنوا فاستكانوا واستقاموا فسعدوا وفازوا.
وكما كان للقرآن هذه القوةُ التأثيريَّة في نفوس المشركين، فإنه لحَدِّ الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مازال له هذا التأثير، وهذه الزلزلة في نفوس العلمانيين والمنافقين والملحدين والدنيويين، بحيث لم يجدوا وسيلة للتخلص من سحره إلا بحذفه من البرامج التعليمية والبرامج الإعلامية، والمشاريع الاجتماعية، حتى يُنْشِئوا جيلا لا علم له بالقرآن، ولا خبر له بعلم القرآن، ولا اهتمام له بدعوة القرآن، إذ بذلك يستطيعون قيادة الأجيال الجاهلة بالقرآن إلى أي وادٍ من الغي يريدون.
والرّدُّ الطبيعي على هذا المخطط هو العمل على تحفيظ الناشئة القرآن العظيم، وتعويدها على معاشرته والعيش في كنفه، فذلك هو الخير كله، والجهاد كله.
ليس من أسلم طوعا واختياراً كمن أسلم توقِّياً واضطراراً :
ذكر ابن إسحاق أن الجيران المعادين للرسول بمكة ماتوا على كفرهم، ولمْ يُسْلِم منهم إلا الحَكم بن أبي العاص، فمتى أسلم الحكم؟! أسلم بعد فتح مكة، فهو من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم، ومن الذين ملَأ الحِقْدُ قلوبهم على اختيار الله تعالى للرسول من بني هاشم، وإذا كان الكثير من الحاقدين و الحاقدات قد تنوَّرت قلوبهم، واستقامت سريرتهم، فهذا دَفَعَهُ حِقْدُه إلى أن يعوض ما فاته، ويُخطِّط لتوريث ذريّته الفوزَ بقيادة المسلمين حكما وسلطانا، فكان من نسله مروان بن الحَكم الذي تولى الحُكم بعد تَبَرُّؤِ ابْن يزيد بن معاوية من الخلافة ثم أورثها مروان إلى ابنه عبد الملك بن مروان الذي يُعْتبر المؤسِّسَ الثاني للدولة الأموية.
فعلى يد هؤلاء تحوَّلت الدّولة الإسلامية من دولة شوريّة إلى دولة قيصريّة أو كسرويّة، وسَبَبُ هذا أن هؤلاء لم يتربّوا التربية الإسلامية العميقة، ولم تتزَكَّ نفوسُهُم بالقدر الكافي الذي يجعل الإنسان يخْرُج من حَظِّ نفسه فيتمحَّض للإسلام الخالص.
لقد كا ن الحكم بن أبي العاص من المستهزئين بالرسول ، فكان يحاكيه في مشيته، أي يمشي مِن ورائه يُقَلِّد مشيته ليضحك الناس، ويخْلِجُ بأنفه، فنظر إليه الرسول ذات مرَّة، فقال له : >كَما أنْت< فعاش دائما يمشي تلك المشية، ويخلِجُ تلك الخلجة.
وعندما أسلم كان دائما يتجسس على الرسول حتى لقَّبَهُ بالوزغة التي تلتصق بالحيطان، وأخرجه من المدينة إلى الطائف، وقال : لا يساكنني في المدينة أبدا.
فالعبرة من هذا أن المسلمين لا ينبغي أن يتساهلوا مع أصحاب المصلحة الخاصة، فهؤلاء هم الذين يخرجون الإسلام عن صبغته ومنهجه ليصبح دينا بشرياً.
أ. الفضل الفلواتي
—-
1- الخصائص الكبرى للسيوطي 257/1 انظر التربية القيادية للأستاذ منير الغضبان 423/1
2- مجمع الزوائد للهيثمي 291/8، وقال فيه : رواه أحمد والبزار ورجال أحد أسنادي احمد رجال الصحيح، انظر التربية القيادية.
3- صحيح مسلم ج 4، حديث 277 ص : 1782.