{ فَعَسَى اللَّه أن يَاتِيَ بِالفَتْح أو أمْرٍ من عنْدِه فيُصْبِحُوا على ما أسَرُّوا في أنْفُسهم نادِمين}(المائدة : 52)
هذه الآية نزلت في المنافقين لفَضْح نواياهم ومُضْمَراتهم، فهُمْ -في الظاهر- مع المسلمين يُصلُّون بصلاتهم، ويحضرون مساجدهم، ولكنهم -في الباطن- مع أعداء الملة والدين :
> يحبونهم محبة خالصة من أعماق قلوبهم
> ويحبون ظهورَهم، وظهور كفرهم على الإسلام
> فهؤلاء المنافقون لم يُظهروا الإسلام إلا اتقاءً لمقاطعتهم، وحرصاً على حياتهم.
> أمّا هُم -في الحقيقة- فأفَاعٍ وعقَاربُ في داخل الصّفِّ ا لمسلم، ينقلون أخباره للعَدُوِّ، ويتآمرون مع العدو على المسلمين، ويثبِّطون هِمَمَ المسلمين، ما وجدُوا إلى ذلك سبيلا.
> فهؤلاء لا إيمان لهم بالإسلام، ولا ثقة لهم في الإسلام وربِّ الإسلام، ولا يعرفون معرفة سطحيّةً أو يقينيّةً أن الإسلام حق، وأن هذا الحق سينتصر… ولا يعرفون أن العمل للآخرة هو حجَرُ الزاوية في هذا الدين، ولا يعرفون أن ربَّ هذا الدين لا تغلبه قوة مهما كانت، وأن ربّ هذا الدين يعلم السِّرَّ وأخفى، ويعلم ظواهرهم وبواطنهم ودقائق أسرارهم. فهم يظنون أن ربّ الإسلام كجميع الأصنام المُخترعَة يستطيعون أن يُغْرُوها بالرُّشى والقُربات، كما يستطيعون أن يخدعوها بمظاهر العبادات.
فهؤلاء هم شر الخلق على المستوى الشخصي، وعلى المستوى السياسي والاجتماعي، وعلى المستوى الإنساني، على المستوى الشخصي لا كيان لهم ولا شخصية، وعلى المستوى السياسي، والاجتماعي، لا رأي لهم ولا ابتكار، وعلى المستوى الانساني لا يقدمون للإنسانية أية فائدة في أي ميدان، فهم يهْرِفون بما لا يعرفون، وينهقون بما لا يفقهون، ويعظم ضررُهم أكبر إذا اقتعَدُوا مقاعد المسؤولية وأصبحوا يسخِّرون الإنسان لمصالحهم ومآربهم، ويبطشون البطشات الكبرى بمَن أعرض وتولى، ولكنهم وقود الابتلاءات والامتحانات لتمييز الخبيث من الطيب، وتمييز الجاد من العابث، وصاحب المبدإ من صاحب المصلحة، وتمييز الرّباني المنتمي لربه حقا، والترابي المنتمي للتراب وإنسان التراب.
فالمنافقون في مقعد المسؤولية ليس لهم هدف إصلاحِيٌّ بالقطع وبالنظرة الإسلامية فهم كما قال الله تعالى فيهم {وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ ليُفْسِد فِيها ويُهْلِك الحَرثَ والنّسْل واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَاد}(البقرة : 205).
والفساد الذي لا يحبه الله تعالى عامٌّ وكثير، ولكن رسول الله وضع أيْديَ المسلمين على رؤوسه، فقال : >كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهن :
< ما ظهرت الفاحشة في قوم يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم.
< وما منع قوم الزكاة إلا مُنِعُوا القطر منالسماء ولولا البهائم لم يُمْطِرُوا.
< وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخِذوا بالسّنِين وشدة المؤنة وجَوْر السلطان.
< ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط الله عليهم عدوهم فاسْتَنْفَدَ بعض ما في أيديهم.
< وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيهم إلا جعل الله بأسهم بينهم<(رواه أحمد وابن ماجة).
وإذا كانت عقارب النفاق -في العصر النبوي- مفضوحة بالوحي، مسحوقة بفراسة المؤمنين، فإنها أخرجت أشواكها، ورفعت رؤوسها بعد انقطاع الوحي وخمود شوكة الفراسة، ومع ذلك بقيت منافقة -تظهر الإسلام وتبطن الحقد على الإسلام- أما في عصرنا هذا فقد تبرّج كفرها، وتوقَّحَ عداؤها للإسلام والمسلمين إلى درجة أن أصبح انحيازُها للكفر عياناً بياناً، ومحاربتها للإسلام نهاراً جهاراً، وتطليقها للإسلام طلاقاً باتّاً، بدون حياءٍ من الله تعالى، ولا خوفٍ من الشعوب الإسلامية، ركبت في سفينة النظام الكفري العالمي وانطلقت لا تنظر من ورائها إلى ماضٍ وتاريخ وحضارة، ولا تتطلع إلى مستقبل رسالي أخروي خالد دائم.
فعَلام المعركة قائمة بين الفئة المؤمنة الموعودة والفئة المنافقة المتولية عن الإسلام؟!
- أليس على تحكيم كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ؟!
- أليس على الفساد الكبير المتفشي في العقائد والأموال والأعراض والأسر والبيوت؟!
- أليس على السياسات الهوجاء التي لا عقل لها ولا منطق؟!
- أليس على الاقتصاد ا لمتدهور؟! أليس على التجهيل المخطط للدين؟!
- أليس على الفساد الأخلاقي الكبير المتفشي في الرؤوس الكبيرة؟!
- أليس على الاستبداد المنكور شرعا وعقلا وعرفا؟!
- أليس على الديمقراطية المزيّفة؟!
إننا وصلنا في أوضاعنا الحالية إلى ما دُونَ السّقْطة الكبرى الذي حَذَّرنا رسول الله من الوصول إليها، واستعاذ بالله تعالى من أن ندركها، ولكن -مع الأسف- أدركناها وتعديناها وهبطنا تحتها.
فما سبب ذلك؟
السبَبُ أن قمم المسؤولية في الشعوب الإسلامية سواء كانت سياسية أو فكرية أو اجتماعية أو أسرية.. أعتلاها أناس كافرون بالقيم، كافرون بدين الأخلاق والقيم، كافرون بالفضيلة والعزة والكرامة، كافرون بالحرية والشورى والنصيحة، كافرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كافرون بحقوق الإنسان وحقوق البيئة والحيوان، كافرون بالركوع والسجود لله والتسبيح لله، مؤمنون بالبطن والفرج والجَيْب، ومؤمنون بالتضرع والخشوع للكافر الذي يعرف كيف يُذلُّهم ويُخْزيهم!!!
إذا كان المنافقون السابقون جَرُّوا الشعوب سابقا إلى تضييع المسلمين في الأندلس، والفلبين والشيشان وأرمينيا وكزاخستان وعديد من الدول الإفريقية والآسيوية فإن المسلمين اليوم يُبادون ويُسلخون عن أوطانهم في الهند والعراق والصومال وأفغانستان وفلسطين، ولا دمعة تُراق إلا دموع التماسيح، ولا دَم يراق إلا دماء اليتامى والضعفاء والركع السجود، ولا مؤتمرات تُعْقَد إلا مؤتمرات الخنوع والاستسلام.
إن المسلمين الذين يعيشون تحت حِراب المنافقين قبل حِراب الكافرين يعيشون في صناديق وعُلب بشرية حديدّية وحجريّة مجوّعين مُعطشين ومحرومين من كل أنواع الحياة الكريمة، بل ومطارَدين من البُوم والغِربان وصُقور العلم الانبطاحي، حتى لا يُسمع للعلماء الأصلاء صوت، ولا يُرفع للدعاة الصادقين ذكرٌ.
فمن لهؤلاء؟!
لهم الله عز وجل وحده، الذي وعَد الصابرين المحتسبين {بالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِه} وتوعَّد المنافقين بالهزيمة والبوار، والعار والشنار {فَيُصْبِحُوا عَلَى ما أسَرُّوا في أنْفُسِهِم نَادِمِين} كيف سيكون الفتح؟! ومتى يكون؟! لا ندري، إنما المعروف دائما -عبْر السنن الربانية- أن الفتح ليس انتصاراً فقط، ولكنه فتح لأبواب الدّعوة الإسلامية حتى تَسْتنْقذ الإنسانية من الدّمار المحيط بها من كل جانب : دمار الأعراض، ودمار الأخلاق، ودمار الأموال، ودمار الأنفس، ودمار الحضَارة، ودمار الكرامة، ودمار المبادئ..
ولكن ذلك لا يتم -في سنة الله تعالى الابتلائية- إلا بالوصول إلى هذه الدرجة من الصبر والثبات {أم حَسِبتُم أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّة ولَمَّا يَاتِكُم مَثَلُ الذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَسَّتْهُم البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرّسُول والذِينَ آمنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّه؟} فيجيئهم الجواب من عالم الغيب والشهادة {ألاَ إنَّ نَصْر اللَّهِ قَريبٌ}(البقرة : 214).
أو هذه الدّرجة {حتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أنَّهُم قد كُذِّبُوا جَاءَهُم نَصْرُنا فنُنْجِي من نَشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِين}(يوسف : 110).
فالنصر آتٍ لا محالة، والفتحُ آتٍ لا شك فيه لكن الثمن غالٍ، أغْلَى مما وصل إليه الصابرون المحتسبون، لأن الطائفة الظاهرة على الحق، والقائمة بالحق مرشحة لتأسيس حضارة عالمية على أنقاض حضارة الجهل والبهتان، وهذه الرسالة بهذا الشكل تحتاج إلى تكوين خاص، وإلى طراز خاص من الدّعاة، وإلى صنف مختار من الجندية الربانية.
{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإنّ جُنْدَنا لهُمُ الغَالِبُون}(الصافات : 173).