{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم}
20- تصور القرآن الكريم لجميع أحوال الناس
إن فعل (يئس) في القرآن يفيد انقطاع الأمل والرجاء كما هو الشأن بالنسبة لهذه الآية، ويأتي بمعنى علم، كمثل قوله تعالى:”أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا”،
وهذا بداية حديث عن عدة لصنف خاص من النساء، والحديث كما تلاحظون، هو حديث عن الطلاق وتوابعه، وهو موضوع السورة، ففي هذه الآية يذكر الله عز وجل صنفا من النساء، وهن اللواتي يئسن من المحيض، فلم يعد لهن فيه طمع، لأن المرأة لها عادة شهرية، فإذا بلغت سنا معينة انقطع عنها ذلك، وقد تكون في سن الستين أو الخامسة والخمسين، أو غير ذلك،لأن هذا الأمر يختلف بحسب بعض المؤثرات، كطبيعة المرأة وجسمها وبنيتها، وطبيعة البلاد التي تعيش فيها واختلاف درجات الحرارة بها، فكلما ارتفعت درجة الحرارة إلا وكان سن البلوغ مبكرا، وكذلك سن اليأس، وكلما كانت البلاد شديدة الرطوبة والبرودة إلا وتأخر سن البلوغ واليأس عند المرأة، ولهذا تجد الغربيين يمنعون تزويج الفتاة قبل سن السادسة عشرة، ويريدون أن يعمموا هذه القاعدة على باقي الدول، ويتجاهلون أن الفتاة يمكنها أن تحيض في بعض البلدان كالهند مثلا وباكستان في سن جد مبكرة قد لا تتعدى سبع سنوات بسبب تأثير عوامل الطبيعة، وإذا حصل هذا فهل تبقى الفتاة بدون زواج حتى تصل السن القانونية الـتي حددها الغربيون، وربما يئست المرأة في سن مبكرة جدا فتفوت عنها فرص الزواج والإنجاب إذا تعمم هذا الأمر على جميع البلدان.
ومعرفتنا لهذه الحقيقة هي التي تجعلنا نفهم لماذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة لم تتعد التسع سنوات، وأما الذين ينكرون عليه هذا الفعل فقد غابت عنهم هذهالحقيقة.
ولذلك فإن سن اليأس غير مضبوطة، وغير محددة، وإنما تختلف باختلاف الأشخاص والأماكن، كسن الحيض، وكسن البلوغ عند الرجال، وقد وجد من الصحابة من كان الفرق بينه وبين أبيه عشر سنوات فقط، كعبد الله بن عمرو بن العاص الذي يصغر أباه عمرو بن العاص بعشر سنوات، وهذا يعني أن الوالد قد تزوج وهو ابن عشر سنوات.
وبخصوص العادة الشهرية، فإن المرأة قد يكون حيضها عاديا ومنتظما، وتسمى المرأة المعتادة، وقد يكون حيضها غير منتظم ويقع لها خلل واضطراب وشك في دورتها الشهرية فتسمى مرتابة.
حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفتي بأن المرأة المرتابة يمكنها أن تنتظر حيضها إلى غاية تسعة أشهر حتى تتأكد إن كان هناك حمل، وإذا لم يكن هناك حمل تعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر لتكون عدتها سنة كاملة، وهذا هو الرأي الذي قال به مالك في شأن المرأة المرتابة، وهذا هو الذي يفتي به الأئمة، فإذا ابتدأت في تسعة أشهر وانتظرت ثلاثة أو أربعة أشهر- مثلا- ثم اعتراها الحيض فتعتبر كل ما سبق قـُرْءًا (حيضا)، وتبدأ عدتها من جديد إلى تسعة أشهر، فإن اعتراها بعد ذلك حيض ثانٍ، تعتبره الحيض الثاني، وتبدأ في العدِّ مرة ثالثة إلى تسعة أشهر، كل ذلك الاحتياط لحفظ الأنساب، أما اليائسة تماماً فعدتها ثلاثة أشهر.
هذه أحكام الله تعالى وهذا شرعه سبحانه في قضية العدة، وهو من الفقه الإسلامي الذي ينبغي للمسلمين أن يكونوا على علم به متأكدين منه، لأنه من القضايا التي تتعلق بالأنساب والأحساب، {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}، فالمرأة إذا انقطع رجاؤها في الحيض فمات زوجها أو طلقت، يكون لديها ثلاثة أشهر مثلما تنتظر صاحبة القروء، ولكنها ليست مثل صاحبة القروء لأنها لا تستطيع أن تعدَّ إلا بالأشهر.
وأما المرأة إذا أصبحت يعتريها الشك ولم تعرف حالتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإذا انتهت تسعة أشهر بدأت بثلاثة أشهر، ويكمل حينئذ حسابها وعدتها سنة كاملة، وهذا أيضا من فهم كتاب الله، ومن فهم قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}.
وفي قوله: {واللائي لم يحضن}، فمعناه أن هذا الحكم الذي هو ثلاثة أشهر كما أنه يصدق على المرأة التي يئست من المحيض لتقدم سنها، كذلك يصدق على المرأة التي لم تحض، أي طـُلـّقت ولم تر الحيض بعد، فحينئذ لا يمكن أن تحتكم إلى الحيض لأن الله تعالى يقول: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، وهذه ليس لها قروء فهي تشبه المرأة اليائس التي تقدم بها السن، والحل أن تعتد ثلاثة أشهر.
وقد يتساءل البعض كما تساءل غيرهم عن سبب تطرق كتاب الله عز وجل إلى حالة المرأة التي لم تحض، وظنوا أن الإسلام يبيح للفتاة أن تتزوج قبل أن تصل مرحلة البلوغ، وقد يؤدي بها الأمر إلى أن تطلق قبل ذلك، ووجدوها فرصة لتمرير خطابهم والتعبير عن استنكارهم لمثل هذه الأفعال الشنيعة التي يتجسد من خلالها ممارسة العنف ضد المرأة .
ونحن بدورنا نعتبر تزويج الفتاة في سن مبكرة جدا قبل أن تصل مرحلة البلوغ شططا كبيرا وتعسفا على المرأة، والقرآن لا يشير إلى هذا الأمر تماما، وإنما يتحدث عن الحالات الطبيعية والعادية من النساء، وهو في نفس الوقت يعطي حلولا لحالات استثنائية خارجة عن القاعدة العامة، فرب امرأة قد تبلغ من عمرها سنا متقدمة وهي لم تحض بعد، وهذا ما يثبت شمولية الإسلام وواقعية الفقه الإسلامي الذي تطرق إلى حالات شاذة من النساء والرجال ما كانت تعرف من قبل، وعرفنا من خلال كتب الفقه عيوبا في الجنسين يُردّ بها الزواج، عرفنا عيوبا لولا أن الفقهاء ذكروها لما عرفناها، “كالإخصاء” و”الإفضاء” و”الرتق” و”القَرَن”، وهذه عبارات فسرها الفقهاء وأوضحوها.
ولهذا فإن القرآن يتصور جميع أحوال النساءبما فيهن أحوال النساء اللائي لم يحضن في وقت طبيعي رغم تقدمهن في السن، ولا يعني بذلك أن تكون المرأة صغيرة لم تبلغ مرحلة الحيض بعد.
د. مصطفى بنحمزة
- رئيس المجلس العلمي المحلي بوجدة