2- اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج الأخيرة


الخبرة الطبية وأثرها في ثبوت النسب ونفيه في المنظور الاسلامي

تحدث الدكتور محمد التاويل في الأعداد السابقة عن أدلة عدم جواز اعتماد الخبرة لنفي الولد عن الزوج منها : أنه مخالف لكتاب الله ولقضائه صلى الله عليه وسلم ، ويواصل الحديث عن اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج في حلقة خامسة

الشبهة الثامنة دعوى الزوجية

من أغرب الشبه وأبعدها عن الصحة والقبول شرعا ومنطقا. وأخطرها أثرا وضررا على طهارة المجتمع ونظافة الأنساب : ما تبنته بعض القوانين وحكمت به بعض المحاكم العربية، ويدافع عنه البعض من اعتماد الخبرة الطبية والبصمة الوراثية في حالة ادعاء امرأة الزوجيةَ على رجل وهي حامل أو لها أطفال تدعي أن الحمل أو الأطفال من الرجل المدعى عليه بالزوجية وهو ينكر ولا بينة لها.

فإذا أثبتت نتائج الخبرة أن الحمل أو الأولاد من المدعى عليه بالزوجية أو امتنع من الخضوع للخبرة المطلوبة فإن المحكمة تحكم بثبوت الزوجية وثبوت النسب اعتمادا على نتائج الخبرة.

وهي شبهة في غاية الفساد والبطلان، وفي منتهى الخطورة على المجتمع والأنساب، كما قلنا. وهي شبهة يردها.

> أولا : أنها مخالفة للسنة النبوية  الثابتة من قوله وقضائه صلى الله عليه وسلم.

ففي حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم  قال : >لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه<.

ـ وفي رواية : >ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر<.

ـ وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم  قال في خطبته : >البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه<(رواه الترمذي 2/299).

ـ وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قضى أن اليمين على المدعى عليه رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ب 2/299.

فهذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها نصوص صريحة وعامة في أنه لا يقضى للمدعي بمجرد دعواه. وأنه لا يقضى له إلا ببينة شرعية حفاظا على حقوق الناس ودمائهم من جهة وردعا للمبطلين من الاستيلاء على أموال الناس بمجرد دعواهم.

وهؤلاء قضوا للمرأة بثبوت النكاح ولحوق الولد بالمدعى عليه بمجرد دعواها. ودون بينة شرعية. فخالفوا قوله صلى الله عليه وسلم  وقضاءه والحكمة من شريعته.

وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يقضي لمسلم على يهودي بمجرد دعواه. وطالبه بالبينة. وقضى باليمين على اليهودي رغم اعتراض المسلم المدعي بأن خصمه فاجر لا يبالي.

روى الترمذي وغيره عن وائل بن حجر عن أبيه قال : جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال الحضرمي : يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي : هي أرضي وفي يدي ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم  للحضرمي : ألك بينة؟ قال : لا، قال : فلك يمينه، قال : يا رسول الله، إن الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. قال : ليس لك منه إلا ذاك. 2/298

وفي حديث آخر أنه قال له : شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذاك. وهو نص آخر في أنه لا يقضى للمدعي إلا ببينة، ودليل آخر على بطلان هذا الرأي. لأنه إذا ثبت هذا في الأموال فالنكاح والنسب أولى وأحرى أن لا يقضى لمدعيهما إلا ببينة شرعية. وهؤلاء أثبتوا النكاح والنسب بمجرد دعوى المرأة.

ولا يمكن اعتبار الحمل والأولاد وثبوتُ أنهما من نطفة المدعى عليه بينةً كافية في الموضوع كما يمكن أن يدعي ذلك مروجو هذه الشبهة وأنصارها ومتبنُّوها.

لأن الخبرة الطبية أو البصمة الوراثية وإن أمكن أن تثبت الأبوة الطبيعية للحمل والأطفال المتنازع فيهم، فإنها لن تستطيع أبدا إثبات أن النطفة المتخلَّق منها الحمل والأطفال هي من نكاح مضى على عقده ستة أشهر على الأقل ليكون الحمل والأطفال شرعيين لا حقين بالمدعى عليه.

وبالتالي هي شهادة ناقصة وغير تامة لا يجوز الحكم بها لاحتمال أن يكون الحمل والأطفال من زنا المدعى عليه بالمرأة التي تدعي الزوجية. ومن القواعد أنه لا يجوز الحكم بمشكوك فيه كما يقال : ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال.

> ثانيا : أنها مخالفة للإجماع الصحيح : أنه لا يُقضي لأحد إلا ببينة ولو كان المدعي أتقى الناس والمدعى عليه أفجر الناس. قال الترمذي بعد روايته حديثي ابن عباس وعمرو بن شعيب السابقين : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  وغيرهم : أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.

فهذا إجماع الصحابة ومن بعدهم ومن القواعد أن خرق الإجماع حرام لا يجوز وأنه حجة.

وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم  فرسا من أعرابي، فأنكر الأعرابي البيع، ولم يقض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم  إلا بعد شهادة خزيمة للرسول صلى الله عليه وسلم  وهو الرسول المعصوم.

وإذا كان لم يقض للرسول صلى الله عليه وسلم  بدعواه البيع على أعرابي فكيف يصح لأحد القول بالحكم لامرأة بمجرد دعواها بقطع النظر عن صلاحها وفسادها ودون بينة.

> ثالثا : أن هذا مخالف للإجماع على أن النسب لا يثبت بمجرد دعوى المرأة كما قال ابن المنذر وغيره.

كما أنها مخالفة لاتفاق الفقهاء على أن النكاح والنسب لا يثبتان إلا بشهادة رجلين عدلين.

ومخالفة لما نص عليه فقهاؤنا المالكية من أن النكاح لا يثبت ولا يلزم بإقرار الزوج إذا ادعته الزوجة (النوازل الصغرى 2/2)

وإذا كان لا يثبت النكاح بدعوى الزوجية مع إقرار الزوج فكيف يصح الحكم بثبوته ولزومه له وهو ينكره وينفيه.

> رابعا : أنها مخالفة للقواعد الأصولية المتفق عليها، أن السبب والعلة يلزم من عدمهما العدم. وذلك أن النكاح هو سبب وعلة لحوق الولد بالزوج وثبوت نسبه إليه كما يدل على ذلك حديث : >الولد للفراش وللعاهر الحجر<. والفراش هنا غير موجود وغير ثابت شرعا وحسا، والقاعدة أن السبب والعلة يلزم من عدمهما العدم.

وهؤلاء قلبوا الأوضاع، وجعلوا وجود الولد دليلا على وجود النكاح، وهو غير صحيح، لأن الولد قد يكون من زنا. وقد يكون من نكاح، ومن القواعد الأصولية والمنطقية أنه لا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص، وأن الاعم لا إشعار له بأخص معين. وأن ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال.

> خامسا : أنها مخالفة للقاعدة الفقهية القائلة : إنه لا يوجد الفرع والأصل غير موجود. وذلك أن لحوق الولد وثبوت النسب فرع عن ثبوت النكاح، وثمرة من ثماره. فإذا لم يثبت النكاح لم يثبت النسب لا متناع وجود فرع وأصله منعدم.

> سادسا :  وهو الأخطر والأشر أن العمل بهذا القول والحكم بمقتضاه يؤدي إلى الفساد، ويفتح باب الفجور على مصراعيه، ويشجع الزنا، لأنه ما من زانية تحمل من الزنا إلا وفي إمكانها رفع دعوى الزوجية على من أحبلها من الزنا وهي متأكدة وواثقة من أن نتائج الخبرة ستكون لصالحها وتؤكد صحة دعواها، وتحقق لها مكاسب لم تكن تحلم بها تتمثل في :

ـ نفي التهمة عنها، وتبييض سيرتها أمام الأهل والأصدقاء والمجتمع والرأي العام.

ـ نجاتها من حد الزنا الواجب تنفيذه في حقها بسبب ظهور الحمل والولادة من غير نكاح ثابت وزواج معروف، كما قال عمر رضي  الله عنه فيما رواه البخاري وغيره منه أنه قال : والرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحمل والاعتراف.

ـ ظفرها بزوج يعز الحصول عليه في مجتمع يفوق فيه عدد العوانس سبعة ملايين بالإضافة إلى المطلقات والأرامل. وفي وسط يتسم رجاله وشبابه بالعزوف عن الزواج والاكتفاء بالحرام.

ـ تأمين وضعية حملها وأطفالها. وضمان إلحاقهم بأب معروف، والاعتراف  لهم بنسب ثابت يتمتعون معه بجميع الحقوق الواجبة للأبناء على الآباء، وحمايتهم مما كان يهددهم من التشرد والضياع، والعار الدائم إن لم تسرع إليهم الأيادي الآثمة بالخنق والشنق، والرمي في الأزقة والشوارع وقمامة الأزبال كما يقع كثيرا.

هذه المكاسب وغيرها التي يحققها هذا الحكم للزانية وأولادها من شأنها أن تُشجع على الزنا وتفريخ أبناء الزنا، وتفتح أبواب الفساد على مصراعيه في أمن وأمان ودون خوف ولا لوم، كما أنها من شأنها أن تغري حتى بعض العفيفات وتدفعهن إلى تجربة حظهن والمغامرة بشرفهن ما دامت النتائج محمودة العواقب مضمونة النتائج بقوة القانون وسلطة القضاء. وفي ذلك خطر خطير جدا على الأمة في دينها وأخلاقها وأعراضها وأنسابها ومعلوم أن سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الاسلامية التي يجب مراعاتها عند استنباط الأحكام وتشريعها. وهي تقتضي رفض هذا التوجه وشجبه لما يجره على الأمة والفرد والمجتمع من أنواع الفساد. كما تقتضي في نفس الوقت وجوب التمسك بما جاءت به الشريعة الاسلامية  والفقه الإسلامي في هذه الحالة من :

1- عدم سماع دعوى الزوجية إلا ببينة شرعية : عدلين أو ما يقوم مقامهما

2- إقامة الحد على مدعية الزوجية دون بينة إذا كانت حاملا أو لها أولاد لا أب لهم كما قال عمررضي الله عنه

3- اعتبار أولادها أبناء غير شرعيين مقطوعي النسب استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم  : الولد  للفراش وللعاهر الحجر.

4- عدم الالتفات إلى نتائج الخبرة الطبية والبصمة الوراثية في مثل هذه الحالة وعدم اللجوء إليها أصلا، لأنها لن تستطيع إثبات أن هذا الحمل أو هؤلاء الأطفال من نكاح شرعي، وإنما أقصى ما تفيده أنهم من نطفة المدعى عليه بالزوجية، وهو غير كاف لأن الأنساب في الإسلا م منوطة بالفراش، لا بالنطف وهذا هو السر في تجاهل الشريعة لإسلامية والفقه الاسلامي لهذه الوسيلة وعدم اعتمادها في إثبات النسب ونفيه، لأنها غير دقيقة، ولا تستطيع تحديد نوع العلاقة الجنسية التي تخلق منها الطفل. هل هي النكاح أم السفاح

وهذا هو السر الذي غاب عن دعاة الخبرة والبصمة الوراثية ولم يهتدوا، لا ما زعمه البعض من تخلف الطب وضعفه عند نشأة الفقه، حين نزول القرآن وتكوين السنة وبداية تدوين الفقه مما دفع بعضهم إلى القول في إعجاب الجاهل : إن البصمة الوراثية تلعب دورا مهما في واقعنا المعاصر في إثبات ونفي النسب، وأنه يجري تطبيقها الآن في معظم الدول المتقدمة كأحد الاختبارات الأساسية في إثبات أو نفي نسب الابن لأبيه. وقول بعض آخر أن البشرية تلقت ميلاد وسيلة إثبات جديدة لم تكن تعرفها من قبل ولم يدر هؤلاء :

- أن النسب في الاسلام تابع للفراش لا للنطف وأن الدول التي سماها بالمتقدمة دول غير اسلامية.

- أن الفقه الاسلامي في مسائل الفروع يكتفي بالظن ويحكم بالظاهر ولا يبحث عن الباطن كما قال صلى الله عليه وسلم  : >هلا شققت على قلبه<.

- وأن الفقه الاسلامي قرر الرجوع إلى الطب منذ نشأته الأولى ولم ينتظر تطوره ولا تقدمه. ولكن في حدود القضايا التي يقبل فيها رأي الطبيب من عبادات وغيرها.

أما في هذه الحالة إثبات النسب ونفيه فلا كلام  فيه للطب ولا  للطبيب ـ والكلمة فيه لله ولرسوله الذي لخصه حديث : >الولد للفراش واللعاهر الحجر< وحديث : >لا دعوة في الاسلام، ذهب أمر الجاهلية< وغيرهما من الأحاديث السابقة.

وخاصة حديث عائشة رضي الله عنها في إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من إلحاق الأبناء  بالآباء تبعا للنطف واعتمادا على القيافة خبرة ذلك العصر.

فإن هذه الأحاديث لا تدع مجالا للشك في بطلان الاعتماد على الخبرة الطبية والبصمة الوراثية في إثبات النسب ونفيه.

{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر}.

{وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم} صدق الله العظيم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>