مفهوم التقوى في القرآن والحديث


نوقشت برحاب كلية الآداب بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة في موضوع :  مفهوم التقوى في القرآن والحديث.   وقد كانت هذه الرسالة من إعداد الطالب محمد البوزي وتحت إشراف د. الشاهد البوشيخي وقد ناقشها الأساتذة : عبد الحميد العلمي، إدريس حنفي، فريد الأنصاري ومحمد الأزهري، وقد حاز الطالب درجة الدكتوراه بميزة مشرف جداً.

الإطار العام لموضوع البحث

مما لا شك فيه أن ما أصاب المسلمين في عهدنا الحاضر من الضعف والتفرقة والانهزام، وما شاع في أوساطهم من الانحراف والرذيلة والإجرام، سببه ضعف إيمانهم وجهل عامتهم بحقيقة دينهم الإسلام، وهجرهم لكتاب ربهم الذي هو عصمة لم تمسك به،  وقوة ومنعة لمن اعتصم به، كما لا يخفى أيضا أن من أسباب هجر القرآن وعدم الاهتداء بهديه هو سوء فهم ألفاظه ومعانيه، وعدم معرفة حقائقه ومقتضيات شرعه، فضلا عن عدم تحكيمه والاحتكام إليه، لذاك بات من أولويات إصلاح أحوال المسلمين المتردية، العمل على إحلال كتاب الله وشرعه مكانتهما اللائقة بهما في حياة المسلمين، وذلك بدءا بتحديد الاهتمام بالقرآن تلاوة وفهما وتدبرا وعملا، وتحكيما، إذ صار فرضا -كما يقول أستاذنا الشاهد البوشيخي- : “تسوية الانسان في الأمة وتعديله من جديد، وصار فرضا إحلال القرآن فيها ونفخ روحه من جديد، لتعود كما بدأت خير أمة أخرجت للناس.. ولا سبيل إلى  شيء من ذلك بغير تجديد فهم الأمة للقرآن… ولن يتجدد فهم الأمة للقرآن حتى  يتجدد فه مصطلحات القرآن مفاهيم ونسقا، ذلك بأن الوحي قرآنا وسنة، مجموعة من المفاهيم، إذا حصلت حصلت كليات الدين،وإذا لم تفقه لم يفقه الدين… ولإعادة الأمور إلى نصابها لا بد من إعادة مفاهيم الوحي بعد تحصيلها، إلى مواقعها وأحجامها، وإلا استمر تشوه الدين، وازداد فساد المسلمين…”(1).

وفي إطار تصحيح المفاهيم القرآنية والإسهام في التوعية بأهمية التقوى في حياة المسلمين يأتي موضوع هذا البحث، وهو (دراسة مفهوم التقوى في القرآن الكريم والحديث الشريف)، وعليه فإشكالية البحث أو قضيته الكبرى هي : تحديد هذا المفهوم ودراسته دراسة مصطلحية، وتفسير قضاياه تفسيرا موضوعيا، وذلك بتتبع أبعاده وقضاياه واستقراء كل مؤشراته، ومساربه في النصوص، وتبين وبيان موقع التقوى من المفاهيم القرآنية المرتبطة بها والمتعالقة معها، وأثرها في المجالات الشرعية التي وردت فيها).

ومعلوم أن كلمة التقوى كلمة لطيفة، خفيفة في اللسان ثقيلة في الميزان، فما أكثر تردادها على مسامع الناس وما أقل آثارها في سلوكهم ومعاملاتهم! وهذا أمر لا يستغربه من فهم مقتضى الكلمة وما انطوى عليه لفظها، كما لا يستعظمه من خير ثقل ألفاظ الوحي بصفة عامة، أليست (التقوى) من ألفاظ الكتاب العزيزالذي قال فيه رب العزة : {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}(المزمل : 5).

والتقوى من الألفاظ الثقيلة الوزن الغنية الدلالة والتي يحتاج العلم بها لدقة النظر، فرغم أن الكلمة مألوفة لدى عموم المسلمين، تتردد كثيرا على مسامعهم في الخطب والمواعظ إلا أن  ما يلاحظ من قلة أثر التقوى في سلوك الناس ومعاملاتهم، يدل إما على عدم استيعاب معنى هذه الكلمة أو على صعوبة الامتثال لمقتضاها، أو هما معا، والحديث عن التقوى في الكتاب العزيز واسع وطويل، فآياتها مبثوثة في معظم سوره، المكية منها والمدنية، حتى صارت ظلال التقوى بمثابة خيوط من النور تربط مواضيع القرآن، وتنتظم حقائق الاسلام والإيمان، وكأنها من الناحية العملية بمثابة ماء الحياة كالدم يسري في عروق التكاليف والواجبات، وبدونها تصير الأعمال والعبادات أشباحا وأجسادا بلا حياة.

وقد تبين من خلال الدراسة أن مفهوم التقوى في القرآن والحديث مفهوم واسع وعميق، مفهوم ذو أبعاد معرفية شرعية، ونفسية شعورية، وأخلاقية اجتماعية،  مفهوم يرتكز على الإيمان ويمتد ليشمل كل مجالات العمل الصالح في الاسلام، وبذلك تعددت قضايا المفهوم (المصطلح) ومجالاته، ولأجل تبين وبيان الحقائق المذكورة وغيرها، وُلد هذا البحث وترعرع في حضن منهج علمي رصين، وتحت إشراف ورعاية أستاذ الأساتذة، المربي الحكيم الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله وأثابه.

دوافع الاختيار والأهداف المرجوة منه

أما دوافع اختيار الموضوع فيمكن إجمالها في دافعين اثنين وما يتصل بهما :

أولهما : دافع علمي، أو بالأحرى تعلُّمي وهو الرغبة في الاستفادة والاستزادة من الدراسات العليا وخاصة في جانب المستجدات العلمية والمنهجية، التي تنهض بالعلوم الشرعية وبالتراث الإسلامي عامة، وقد كان بحمد لله وفضله (مشروع المعجم التاريخي للمصطلحات العلمية) الذي تأسس من أجله معهد الدراسات المصطلحية بهذه الكلية تحت إشراف أستاذنا الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله ووفقه، أهم مشروع يخدم هذا الجانب، ولقد كان القصد من انخراط الباحث في هذا المشروع هو التمكن من منهج الدراسة المصطلحية وممارسته وتطبيقه على المفاهيم القرآنية، مما يمكن من الفهم السليم لألفاظ الكتاب المبين، والعلم بقواعد تفسيره وفق منهج علمي رصين.

ثانيهما : دافع تربوي دعوي يتجلى في رغبة الباحث وتطلعه للإسهام في تقديم خدمة تربوية علمية لطلبة القرآن والعلوم الشرعية، خاصة في مجال تفسير آيات الكتاب المبين وتدبرها، ومن ثمة الإسهام في الدعوة إلى الاعتصام بكتاب الله الحبل المتين، وإحلال قيمه وأحكامه مكانتها في حياة المسلمين.

المنهج المعتمد في تناول البحث

المنهج المعتمد في البحث هو منهج الدراسة المصطلحية كما صاغه أستاذنا الدكتور البوشيخي، وتبناه معهد الدراسات المصطلحية، وهو منهج وصفي تحليلي أساسا، يقومعلى الاستقراء والتحليل ثم التركيب، وذلك عبر خمس مراحل أساسية مترابطة اصطُلح على تسميتها بأركان الدراسة المصطلحية وهي : الدراسة الإحصائية ـ الدراسة المعجمية ـ الدراسة النصية ـ الدراسة المفهومية ـ العرض المصطلحي، ولكل ركن شروط وضوابط وحيثيات، وقد جاء تنزيل هذه الخطوات على موضوع البحث كالتالي :

> ـ في مجال الدراسة الإحصائية :

ـ ثم إحصاء ألفاظ التقوى في القرآن الكريم من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، اعتمادا على القراءة التتبعية للقرآن آية آية، ..

ـ التصنيف الاولي لألفاظ التقوى ما بين الدلالتين اللغوية والاصطلاحية، بعد الرجوع للتفاسير والتأكد من دلالة مشتقات التقوى اللغوية أو الاصطلاحية..

ـ فالتصنيف النهائي لألفاظ المصطلح بمختلف صيغه ومشتقاته الفعلية والاسمية، ووضعها في جداول خاصة.

ـ إحصاء الأحاديث النبوية الصحيحة التي ورد فيها لفظ التقوى  أو أحد مشتقاتها، وذلك من خلال الكتب الصحاح وبعض كتب التخريج وخاصة كتب الشيخ الألباني، صحاح السنن، والسلسلة الصحيحة، وصحيح الجامع الصغير والأدب المفرد وغيرها.

> ـ في مجال الدراسة المعجمية :

ـ الرجوع إلى المعاجم اللغوية والاصطلاحية المتوفرة، وترتيبها ترتيبا زمنيا، وتدوين المادة المعجمية التي  تهم مصطلح التقوى  في هذه المعاجم، من حيث الاشتقاق الصرفي ومن حيث الدلالتين، اللغوية والاصطلاحية المستفادة من الشروح والاستشهادات وغيرها.

ـ تسجيل تعاريف التقوى الواردة في أهم تفاسير القرآن الكريم، وفي بعض كتب التراث المهتمة بالتقوى.

ـ تصنيف التعاريف المسجلة، بعد دراسة مقارنة لها لتمييز المعاد منها والجديد الذي أفاد تطورا دلاليا لمفهو التقوى، خاصة ما ورد في الشواهد الشعرية الجاهلية، وقد اعطت هذه الدراسة المقارنة نتائج وملحوظات مهمة ذكرت في مكانها من البحث.

>ـ في مجال الدراسة النصية :

ـ بعد تدوينأهم ما ورد لدى المفسرين في شأن التقوى ـ عبر سور القرآن الكريم ـ تم تهيئ جدول(3) لكل مشتق من مشتقات لفظ التقوى يمكن من تجميع معطيات تحليل النصوص وفق متطلبات التحليل والدراسة النصية التي تمكن من معرفة السياق، وموقع المصطلح المشتق في الجملة، ومعناه الخاص، ثم علاقاته بغيره من المفاهيم في النص، ثم ضمائمه..الخ

ونفس الجدول استعمل في دراسة مشتقات لفظ التقوى في الأحاديث مع إيراد مقام الورود أو الموضوع العام مقابل السياق بالنسبة لنصوص القرآن.

>ـ في مجال الدراسة المفهومية، في هذا المجال تم استخلاص :

أولا : ما يتعلق بكل مشتق على  حدة من حيث توفر كل العناصر السابقة في جدول الدراسة أو بعضها في الدراسة النصية.

وثانيا : ما يتعلق بخصوصيات المشتقات الفعلية، وخصوصيات المشتقات الإسمية، وذلك في القرآن والحديث معا.

وثالثا : عناصر التعريف المقترح للمفهوم.

>ـ العرض المصطلحي :

في هذه المرحلة تم عرض كل الخلاصات والنتائج المتوصل إليها سواء كانت نتائج الدراسة المصطلحية، المرحلية أو كانت نتائج دراسة القضايا بالتفصيل.

——

1- القرآن الكريم والدراسة المصطلحة لشيخنا الدكتور الشاهد البوشيخي، سلسلة دراسات مصطلحية رقم : 4 مطبعة أنفو برانت فاس 2003 ص : 18-19

2- سورة المزمل أية : 5

3- وهو قول ثقيل : لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه، كما قال الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير ج 29 ص : 261.

4- الجداول استعملت في مرحلة الدراسة ولم تعرض في البحث لكثرتها ونسبية معطياتها.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>