رمضان أعظم مائدة ربانية تتولى تنقية المؤمن وتقويته وترقيته


بمناسبة شهر رمضان المعظم وفي إطار النشاط الدعوي للمجلس العلمي المحلي بفاس احتضنت القاعة الكبرى بالمجلس ندوة حول أحكام الصيام وفضائله وكانت من تسيير العلامة عبد الحي عمور رئيس المجلس وبمشاركة العلماء الأفاضل : الدكتور الشاهد البوشيخي والدكتور محمد أبياط والدكتور عبد الحميد العلمي، وذلك يوم الجمعة 6 رمضان 1427 الموافق 29 شتنبر 2006، وقد تابعت جريدة المحجة في هذا العدد هذه الندوة وتنشر كلمتي الدكتور الشاهد البوشيخي والدكتور محمد أبياط على أمل أن تنشر ما تبقى من النشاط في فرصة لاحقة إن شاء الله تعالى

كلمة الدكتور الشاهد البوشيخي

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على محمد وآله ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما، اللهم افتح لنا أبواب الرحمة وأنطقنا بالحكمة واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله,

أيها الأحبة :

موضوع هذه الكلمة بسيط لأنها مجرد مشاركات صغيرة خصوصا و قد أكرمنا الله وإياكم بالاستماع إلى كتاب الله عز وجل في هذا المسجد المجاور بتلك التلاوة المباركة جزى الله هؤلاء الشباب الذين هم بمثابة فواكه متنوعة كلها طيبة وإننا لنحمد الله تعالى كثيرا على هذه النعمة فإننا نرجع إلى 20 سنة أو 30 سنة كنا لا نكاد نجد مسجدا نستمتع بتلاوة القرآن فيه، وما زلنا نذكر أن عددا من الأصدقاء كانوا يحجون من نقط متعددة في المدينة إلى مسجد بعينه. أما اليوم وبحمد الله تعالى تكاد المساجد كلها تتنعم بهذا الخير العميم زادنا الله من فضله .

رمضان أعظم مائدة ربانية

تتنزل من السماء

أقول بعد هذا، الله أمرنا سبحانه عز وجل بتدبر كتابه {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} تدبُّر كتاب الله عز وجل واجبٌ وهو منطلق الخير,، أسرار القرآن لن ينفذ إليها إلا بالتدبر، كأسرار هذا الكون لن ينفذ إليها إلا من خلال التفكر {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}.

انطلاقا من هنا أقول : ما هو رمضان؟ فالسنة مكونة من 12 شهرا {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر في كتاب الله يوم خلق السماوات و الأرض} شهرٌ واحدٌ منها اسمه رمضان، وهذه الشهور ربطها الله بالنظام القمري، لتتم الدورة في نحو 33 سنة حيث يعود كل شهر إلى مكانه الأول، معنى ذلك أن هذا الشهر يأتي مرة واحدة في السنة، ولكن في كل مرة يأتي في وقت غير الوقت الذي جاء فيه من قبل.

على مدى سنة يزورنا حين يزورنا، في صورة مائدة أنزلها الله سبحانه من السماء فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين، فالذي ينتبه إلى أنها مائدة فعلا فإنه يُقبل عليها بنَهَمٍ وهي تسير بتؤدة وبنظام  معين، أوائل رمضان ليست كأواسطه و أواسطه ليست كأواخره. فهو يسير بمثابة إسراء و عروج إلى رضوان الله سبحانه عز و جل، كلما اتجه إلى خاتمته استدعى من العبد أن يجتهد  في عبادته، أن يجتهد في العبادة أكثر، و يأخذ من المائدة أقصى ما يستطيع لأنها تزداد امتلاء كلما اتجهت إلى الأخير حتى تأتيك العشر الأواخر فإذا بها مليئة بأعظم ما يتصور، وهو عمر الإنسان بكامله يأتيه  في ليلة واحدة : ليلة القدر {ليلة القدر خير من ألف شهر} بمعنى أنها أكثر من ثمانين سنة. ليلة واحدة إن أدركها العبد وقامها إيمانا و احتسابا فإنه يكتسب حياة أكثر من حياته، يعني هو لن يعيش أكثر من 80 سنة، بينما في ليلة واحدة يأخذ أجرا أكثر من 80 سنة، وكلما تدرج في العشر الأواخر ليالي العتق التي فيها لله كل ليلة عتقاء من النار.

رمضان إذا نظرنا إليه بهذا الشكل على أنه هدية ربانية ومائدة جاءنا بها الله عز وجل  ويعطينا الفرص كل سنة لنتزود من هذا الزاد الرباني الهائل الذي يملأنا بالطاقة ملأًَ خياليا. إذا تعاملنا معه على هذا الأساس فرمضان لا يصبح شهرا عاديا بل يصبح شهرا منتظرا ينتظره العبد متى يأتي، لأن الخير الذي فيه ليس في غيره، كما أنه يصعب عليه أن يودعه، والعبد الصائم الصادق في شهر رمضان كلما  اقترب من نهايته بدأت الحسرة تدب من ناحيته لأنه سيرحل ولن يأتي إلا بعد عام، فهل سيدركه أولا يدركه، نسأل الله سبحانه أن نكون ممن يدركون رمضان ويصومونه كما يحب الله عز وجل أعواما مديدة بفضله تعالى.

فهذا جانب ينبغي أن نستحضره دائما لنذوق رمضان ونوفي هذا الشهر العظيم حقه، أي نستفيد نحن ولا تضيع لنا الفرصة فهي فرصة مارة كل لحظة فيها ينبغي أن تنتهز, هذا جانب.

هدف التقوى في رمضان يشمل : التنقيه والتقوية، والترقية

جانب ثان في رمضان يفهم بالتدبر هو أنه تدريب للمؤمن والمؤمنة تدريب لأهداف ثلاثة واضحة يجمعها الهدف القرآني المعلن المذكور {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ما التقوى؟.

التقوى اسم جامع لكل صور البر لكل الخير في هذا الدين نذكر من ذلك أهدافا ثلاثة كبيرة جداً تدخل ضمن دائرة التقوى هي : هدف التنقية، وهدف التقوية، وهدف الترقية، كيف؟.

أقول هذا التدريب في الإسلام كما تعلمون يريد من المسلم أن يكون قويا أمينا، >المؤمن القويُّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير< هذا المؤمن يَبْنِيه الإسلام بشعائره كلها، يبنيه بالفرائض والنوافل، >ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه….< فالعبد يصبح وليا لله، فكيف تكون وليا يحارب الله من حاربه، ويُوالي من ولاه، ويعادي من عاداه؟.

ذلك بطريق الفرائض أولا، >وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه< ثم بالتقرب بالنوافل بلا حد .

هذه الفرائض وهذه النوافل تبني المسلم الذي يصلح لحمْلِ الرسالة الإسلامية إلى العالم كله، المسلم الذي يصلح للشهادة على الناس، فهل يشهد على الناس الضعفاء؟! لن يشهد على الناس إلا الأقوياء، والإسلام يبني الأقوياء.

في رمضان هناك أشياء محرمة أصلا هل رمضان يتجه إلى هذه؟ لا لا لا، هذه أشياء خارج رمضان، ممنوعٌ أن تشرب الخمر ممنوع أن تزني…. هذه أشياء خارج رمضان، الآن ما هو حلال يحرم عليك من وقت إلى وقت، من طلوع الشمس إلى غروبها، الحلال يصبح حراما، وخصوصا الشهوتان الكبيرتان اللتان منهما يدخل الشيطان، لماذا هذا؟ ليصبح الإنسان قوي الإرادة لا يواجهفقط المحرمات بل يستطيع أن يتنازل عن بعض الحلال إرضاء لله عز وحل ويتدرب على الصبر عن الجوع والعطش ويتدرب كذلك على الصمت >وإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم< هذا تُقَوِّيهِ الإرادة لأن المؤمن يحتاج إلى هذا العزم، هذه القوة.

كيف يحبنا الله؟ >ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس< إذا لم يكن هذا الزهد في غير رمضان فلنتدرب عليه في رمضان ولذلك هذا التوسع في المآكل في الليل لا يناسب هذا المقصود لا يناسب الهدف من رمضان، غير مناسب أن نأكل كثيرا، غير مناسب أن ننوع الأطعمة و الأشربة، هذا ضد الهدف من رمضان.

ثم إنه في رمضان كما تعلمون كانت أهم الغزوات وأهم الفتوحات و أهم المعارك الإسلامية في تاريخ المسلمين في رمضان”و كان منا الصائم ومنا المفطر” كما ورد في الحديث الصحيح هناك من هم صائمون يقاتلون في سبيل الله صائمون يجاهدون في سبيل الله كيف يكون هذا؟يكون بهذه العزيمة القوية بهذه الإرادة العالية، فإذن رمضان مدرسة وسماه  شهر الصبر وتعلمون أن الصابرين هم الرأسُ عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة .

الصابرون يدخلون الجنة بغير حساب , الصابرون درجة عليا في المجاهدين {ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} هذه الدرجة يوصل إليها من خلال جهود وتدريبات، فرمضان كل سنة يأتي ليكون مدرسة للتدريب لجميع الأمة وهذا هدف آخر.

انظروا من هذه الزاوية أيضا : أن الصلاة على سبيل المثال نتوحد فيها من حيث المضمون ولكن نختلف في الزمان والمكان، بينما في الصيام نختلف في المكان ولا ونختلف في الزمان ولا ينبغي أن نختلف، في الحج نتوحد في الزمان وفي المكان وفي المضمون فهناك النهاية, في الحج المسلمون المؤمنون جميعا في مكان واحد في زمان واحد في أعمال واحدة ولذلك كان بذلك المستوى .

رمضان مدرسة الصبر لتكوين الأقوياء الأمناء

فإذن أقول وأعود إلى رمضان لأقول إنه مدرسة للصبر مدرسة لتكوين الأقوياء الأمناء الذين يمكنك أن تأتمنهم على الأموال وعلى الأعراض ولا يمسونها بسوء , هذا مهم جدا الذين يُحَضَّرون للولاية، يُحَضَّرون للأمانة لحمل المسؤولية، فلا بد أن ننظر إلى رمضان من هذه الزاوية.

وإذاً هذه المدرسة تضرب على ثلاثة أمور، وتفسح لك الفرصة في ثلاثة أمور سميتها ب: التنقية، ثم التقوية، ثم الترقية.

أما التنقية فلقد جاءكم المطهر : من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (هذه فقط تكفي) رمضان وحده إذا صدق الإنسان فيه ربَّه، ووقف وقفة صحيحة مع مولاه فإنه يمكنه أن يفوز بالمغفرة الكاملة لما تقدم >غفر له ما تقدم من ذنبه< >رمضان إلى رمضان كفارة< هو في حد ذاته وطبيعته كفارة، والصلوات كفارات، على قاعدة إن الحسنات يذهبن السيئات , ولكن رمضان ليس شيئا عاديا، لا يكفر سنةً فقط، يمكن أن يكفر عمُرًا، هذا شيء مهم معناه إذا قلنا التنقية فهو التنقية فعلا، هذه طبيعة هذا الشهر.

وإذا قلنا التقوية الروحية فرأسُها الانتفاع بالقرآن، والتنور بالقرآن، هذا شهر القرآن هذا شهر الوحي وأعظمُ ما يُسْتقبَلُ به الوحْي هو الصيام، شكراً لله على نعمة القرآن تأمل يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى فيه موسى كيف نحتفل بهذه الحادثة؟ بصيام عاشوراء.

هذا الشهر نزل فيه الإنجيل والتوراة و الزبور و صحف إبراهيم, وفيه نزل القرآن الذي هو الكتاب الخاتم. هذا القرآن كان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله كل ليلة في رمضان، ويدارسه في كل ليلة حين يلقاه القرآن.

فإذن النبي  كان يجمع القرآن لفظا، وكان يجمعه مضمونا، كما نزل من عند رب العزة غَضًّا طريا يتولى جبريل عليه السلام إبلاغ الرسالة بكاملها لتحتل قَلْبَ رسول الله  بتمامها وكمالها .

فإذن معنى هذا أن الصوم إطارٌ لفهم القرآن، وأن قِلة الأكل وتقليل الشراب، وتقليل المؤثرات بصفة عامة إطار لفهم القرآن.

لماذا اختار سبحانه أن يرسل جبريل في هذا الشهر وفي كل ليلة يدارس رسول الله  القرآن في هذا الشهر بالتحديد، إذن هناك سرٌّ في هذا الإطار الذي هو الصوم، فهذه هي التقوية سواء التقوية الروحية أو التقوية الجسدية عن طريق الصبر، يعني تحمل الجوع وتحمل العطش وتحمل المتاعب وتحمل كل ما فيه تقوية للإرادة بصفة عامة.

فهو فعلا فيه تقوية، وفيه ترقية، لأنه إذا نظرنا إليه كيف يتطور إلى نهايته فعلا يجد المومن نفسه يرتقي في هذا الشهر، ويكون في وسطه ليس كما كان في أوله، ويكون في آخره كما ليس في وسطه، ويترقى بسبب القرآن، ويترقى بسبب الصوم نفسه، ويترقى بسبب التدرج الموجود في رمضان نفسه، لأنه عندما يصل العشر يشمِّرُ أكثر، كان رسول الله  إذا دخلت العشر أحيا الليل، أيقظ الأهل، وشد المئزر, ولم تبق فرصة في الليل لشيء.

فلنتعامل مع رمضان، ولنستقبلْه ولنَعِشْه، ولنُحْيه كما ينبغي ن يحيا إيمانيا. نسأل الله سبحانه أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه و يرضاه, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>