عِلاجُ النُّشوزِ الرِّجالي
قال تعالى : {وإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزاً أوِ اعْراضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِما أن يَصَّالَحَا بَيْنَهُما صُلْحاً}(النساء : 128).
1) مفهوم النشوز الرِّجالي :
معناه :
> أن الرجُلَ يسْتَعْلي بنفْسِه عن المرأة التي ينفر منها، ويؤثرُ غيرَها عَلَيها إن كان متزوجاً بأخرى.
> أن الرجل يسْتعْلي ويرْتفع بنفسه عنها ولو بدون امْرأة أخرى إمّا لكونِه :
أ- يكْرهُ منها أشياءَ تدعُو لنفوره منها كالحديث الهابط، أو الفِكْر الهابط.
ب- أو ينفُر منها لكِبَر سِنِّها وذَهاب شبابها حيثُ أصبَحتْ لا تثيرُ فيه شهية، ولا توقِظ فيه حرَكَةً، فهي كالشَّبح المُحنَّط.
جـ- أو ينفر منها لدَمَامَتِها وقُبْح منظرها، فهي من اللّواتي تزدَريهِنّ العَيْنُ، وينْبُو عنهُنّ السَّمع والبصر والفؤاد والاهتمام بدَاهة وطبيعة.
2) معنى الإعْراضِ : الإعْراض أخَفُّ من النشوز، لأن النشوز نفورٌ وتباعُدٌ، والإعراض : الإشَاحَةُ بالوجْه، عَدَمُ تكليمها، عَدَمُ رَدِّ الجواب عن أسئلتها، عَدَم مؤانسَتها ومباسطتها.
3) النشوزٌ والإعراضُ ترجمةٌ لفتورٍ أو شرْخ بدآ يتَسَرّبان للعلاقة الزوجية الرضيَّة :
النشوز والإعراض عبارة عن فُتُورٍ يشبه المرضَ النَّفْسي الذي يُصاب به الرجل عندما تنكسر نفْسِيَّتُه، وتتهَدَّمُ هِمَّتُه عندما تُصْبح المرأة شبحاً مُحنَّطاً، أو غُولاً مُسَلَّطاً، أو رِجساً عَفِناً ووَسخاً مستقذَراً، أو جهلاً راكباً رأسَه لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر، أو رجُلَةً حمقاءَ ذات عصبيّة عمياء، تتنكَّر للأنوثة وتسعى لقِمَّة الصَّدَارة بسفالة ونذالة ونكارة وجهالة، أو عالمة مغرورة تتباهى بالجدال، وتفتخر بالمنصب والمركز والمال مغمضةً عينيْها عن حقوق الزوج والبيْت والأسْرة والأولاد، ضاربة عرض الحائط بآداب ربّاتِ الحجال.
كل هذا وبعضه يدفع الرّجل إلى نُشدان الاستقرار النفسي والعاطفي والجسدي والغريزي عند امرأة فيها حياةُ الأنوثة، ولُطف الأنوثة، وجَذْب الأنوثة، وانكسار الأنوثة، ومُتْعة المرأة الصالحة، حتى لا يشيخ قبل الأوان، ويمُوتَ بالأحزان والأشجان.
4) أسباب النزول تلقي الضوء على طرق العلاج :
وردتْ عدة روايات في نزول آية {وإن امرأة خافت…} هذه أهمّها :
أ- خشيت سودة رضي الله عنها أن يطلقها رسول الله ، فقالت : لا تُطَلِّقني، وأمْسِكني، واجْعل يومي منك لعائشة رضي الله عنها، ففعل، فنزلت : {فلا جُناح عليهما أن يصّالحا بينها صلحا..} فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز(1).
ب- روى ابن عُيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن رافِعَ بن خَدِيج كانت تحته خوْلة ابنة محمد بن مَسْلمة، فكَرِه منها إمّا كِبَراً، وإمّا غَيْرةً، فأراد أن يطلقها فقالت له : >لا تطلقني، واقسِم ْ لي ما شئت، فجرَتِ السنة بذلك، ونزلت {وإن امرأة خافتْ من بعْلِها..}(2).
جـ- روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : الرجل تكون عنده المرأةُ ليْسَ بمستكثِر منها، يريد أن يفارقها، فتقول : >أجْعَلك مِن شأْني في حِلِّ، فنزلت هذه الآية.
د- ذكر أبو بكر بن أبي شَيْبَة بسنده عن علي بن أبي طالب ] : أن رجلاً سأَلَ عليّا عن هذه الآية فقال : >هي المرأة تكونُ عند الرُّجُلِ فتَنْبُو عيناه عنها، من دَمامَتها -قبْحها- أو فقرها، أو كِبَرها، أو سوء خُلُقها، وتكره فِراقَهُ، فإن وضعتْ له من مَهْرها شيئا حَلَّ لَهُ أن يَأخُذَ، وإن جَعَلتْ له من أيَّامها فَلاَ حرَج<.
5) الفقه المأخوذ من هذه الآية :
يؤخذ من الآية :
أ- أن الرجل يجوز له أن يتزوج بامرأة أصْغَر من التي أصبحتْ لا تطيق توفير متطلبات الحياة الزوجية لكِبَر سنها. قال ابن العربي : >في هذه الآية رَدٌّ على الرُّعْن الذين يَرَوْن أن الرّجُل إذا أخذ شَبابَ المرأة وأسنَّتْ لا ينبغي له أن يتبَدَّلَ بها، فالحمد لله الذي رفع حرَجا، وجعل من هذه الضَّيْقَة مخرجا(3).
ب- أن الرجل إذا تزوج الصُّغْرى ومَالَتْ نَفْسُه إليها مَيْلا طبيعيا فيه إيثارٌ لها على الكبرى لا حَرَج فِيه ولا إثم بشرط العَدْل في المأكل والمشرب والملبس والمبيت، فقد تزوج رافع بن خديج بفتاة شابة، وآثر الشابة على خولة بنت محمد بن مسْلَمة التي كانت كبِرتْ، فصالحَتْهُ على هذا الإيثار النفسي والمَيْلي، ورَضيَتْ بالعَدْل في المسائل المادية.
جـ- أن أنواع الصلح كلها مباحة، فالله تعالى ترك كل الأبواب مفتوحة، قال القرطبي : قال علماؤنا : يجوز في هذه النازلة بأن يُعطي الزوجُ على أن تصْبِرَ الزوجة، أو أن تُعْطِي الزوجة على أن يؤثر الزّوجٌ، أو على أن يُؤْثر ويتمسك بالعِصْمة أو يقع الصلح على الصّبْر والأَثرة من غير عطاءٍ، فهذا كله مباح.
وقد يجوز أن تُصالح إحْداهُن صاحبتَها عن يومها بشيْء تُؤدِّيه لها.
قالت عائشة رضي الله عنها : وجَدَ رسولُ الله في شيء فقالت لي صفية : >هَل لكِ أن تُرْضِي رسُولَ الله عنِّي ولكِ يوْمِي؟!< قالت عائشة : فلبستُ خِماراً كان عندي مصبوغاً بزَعْفران ونَضَحْتُه، ثم جئتُ فجلستُ إلى جنْب رسول الله ، فقال : >إِلَيْكِ عَنِّي فإِنَّهُ لَيْسَ بِيَوْمِكِ<، فقلت : ذلك فضل الله يوتيه من يشاء، وأخبرتُه الخبر، فرضِي عنها -صفية-(4).
ففي هذا الحديث دليلٌ على أن ترْك التسوية بيْن النساء وتفضِيلَ بعضِهِنّ على بعض لا يجوز إلا بإذْنِ المفضولة ورضاها. لأنّ صفية رضي الله عنها في هذا الحديث هي التي رضيت بالتنازُل عن يومها برضاها.
6) الحِفاظُ على تماسُك الأسرة هو الخطُّ العلاجِيُّ المرغَّب فيه :
إن الله تعالى جَعَل الفراق بين الزوجين آخِر العلاج في حالة النشوز الرجالي، أمّا قَبْل الوصول إلى آخر الدّواء فقد دعا إلى الصُّلح ورغب فيه ترغيبا شديداً قويا للحفاظ على تماسُك الأسْرة وإبقائها مترابطة في دائرة المودَّة الإيمانية التي سوف لا تُثْمِر إلا خيراً في الدنيا والأخرى.
ويظهر الحِرْصُ على التماسُك في الأسلوب القرآني الواعظ وعظاً فريداً يتجلى في :
أ- جَعَل الصُّلْحَ المُرْضِي للطرفَيْن كيفما اتفقا عليه منْزُوعَ الإِثْم، أي أن اللّه عز وجل يرضاه ويباركُه {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما}.
ب- أكَّد الصُّلح بالمَصْدر بقوله تعالى : {أنْ يَصّالَحَا بَيْنَهُما صُلْحاً} للإشارة إلى أن الصلح ينبغي أن يكون نفسيّاً تتطامَنُ له القلوب، وتصْفو به النفوس، ويحل به الوئام بدل الخصام، ولا يتم هذا إلا بالتنازُل الكبير من الطرفين أو من أطراف الأسرة ابتغاء الأجر والثواب.
جـ- أكّد أهمية الصّلح ثالثا بقوله تعالى {والصُّلْحُ خَيْر} أي أنمن تساهَلَ لا يَظن أنه مغبون أو مغلوب، بل سيعطيه الله عز وجل الخير أضعافاً مضاعفة لأن النفوس بطبيعتها عند الخصام تشح وتبخل بالتنازل عن الحقوق طلَباً للغلبة والانتصار، ناسياً ما يدَّخِرُه الله لعباده المتسامحين والمتساهلين من أجر وثواب.
د- أكَّد الله الصّلح أيضا بالدّعوة إلى الإحْسان الذي هو فوق المحاسبة والمشاحَّة ولكنه تنازل وتساهل ابتغاء مرضاة الله تعالى مهما تحمَّلَتْ بعض الأطراف من الجروح والتبعات، فإن ذلك لله وفي الله الخبير بطوايا النفوس ومضمراتها {وإِن تُحْسِنُوا وتَتَّقُوا فَإِنّ اللَّه كَانَ بِما تعْمَلُون خَبِيرا}.
وهكذا على المرأة أن تتطامن للعاصفة، وعلى الرجل أن يُقرِّب امرأته إليه ويترك شِماسَهُ وجموحَه وإعراضه ويتطامن لأهله متذكّراً قول الرسول >خَىْرُكُم خَيْرُكُمْ لِأَهْلِه وأنَا خَيْرُكُم لأَهْلِي< فيجب أن تعرف المرأة واقِعها إذا كانت كَبِرت وأسنَّتْ وتعترف بهذه الحقيقة في داخل نفسها، فيجب ألا تسُدَّ أمام الرجل -بدون حق- أبواب التمتَّع الحلال مكابرةً أو عِناداً أو تَصَابياً سخيفاً، ويجب على الرجل ألا يُذل زوجته ويهينها بعدما قََضَى معَها شطراً كبيراً من العُمر، فلا يُنقصها حقوقها المادية -حتى حقها في المبيت- طاعة لله تعالى وتطييباً للخاطر، فإن ذلك كله من الإحسان الذي لا يثمر إلا خيراً وبركة في الدنيا والأخرى.
فإذا استعصت حالات النفوس على العلاج، فالحل الأخير {وإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِن سَعَتِهِ}.
——
1- أخرجه الترمذي، انظر أحكام القرآن لابن العربي 353/5.
2- المرجع السابق.
3- أحكام القرآن 634/1.
4- الجامع لأحكام القرآن 355/5، والحديث أخرجه النسائي، وأحمد، والطبري.
ذ. المفضل فلواتي