علاج النشوز
قد تعرضْنا سابقاً لبعْض أسباب النشوز، وبيَّنَّا أن هناك نُشوزاً معَلَّلاً أي معْروف العِلّة، وأن هناك نشوزاً غير معْروف العلَّة، أي لمْ يقَع الإفْصَاحُ عنها، ولرُبّما كانت العِلَّة خافية على المرأة الناشِز ذاتها لكونها علةً نفسيَّةً باطنيّة تُدْركُها المرأة وتُحِسُّها، ولكنها لا تقدر على تعْليلها.
أما النشوزُ الظاهِرُ فعلاجُه إزالةُ عِلَّتِه -إنْ أمْكن- بتدَخُّلٍ طبِّيٍّ، أو أُسَريٍّ، أو قضائيٍّ، أو بتشاوُرٍ وتفاهُمٍ وُدِّي بيْن الزوج والزّوجة في حِرْصٍ تام على الأسرة.
أما النشوزُ المجْهُول العِلّة، والخفيُّ الأسْباب، والذي لا يحْتاج إلى استِئْصَالِ عِلَّةٍ ظاهِرَة، أو إِزَالةِ ضَرَرٍ بالغ بالمرأة، فهذا النشُوزُ هو الذي فوَّضَ الله تعالى فيه الأمْر للرَّجُل لعِلاجِه، بصفته -قوّاما ورئيس الأسرة- فقال تعالى {واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ : فَعِظُوهُنَّ، واهْجُرُوهُنّ في المَضَاجِع، واضْرِبُوهُنّ. فَإِنْ أطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً. إنّ اللّه كان عَلِيّاً كَبِيراَ}(النساء : 34).
هذا العلاج لا يخرُج عن دائرة عَمُودَي الأسْرة : الزّوج والزّوجة. الأَوَّلُ بصِفَتِه مبادِراً للإنقاذ من الغَرق الذي بدَأَتْ بعضُ بوادِرِه تلوحُ في الأفق، والعَمُودُ الثاني بصفته مشاركاً أساسيّاً في تكْوين الأسْرة يَعْنيه إنقَاذُها شرعِيّاً وخُلُقيا وأدبِيّاً ومسْؤوليّةً مُوجِبَةً الاسْتِجَابَة لمبادرة الزَّوْجِ في دَائرة المَوَدَّة والرَّحْمة وإحْسَانِ العِشْرة المُتبادَلة.
وهذا العلاجُ المرسوم هو مطلُوبٌ قَبْل استِفْحَال الدَّاء، واسْتِحْكام العداء، أي مطلوبٌ الشّرُوع فيه عند الخَوْف مِن وُقُوعِه، وعِنْد تَوقُّعِه قبْل وُقوعِه، لأن العلاج سيكون أسْهَلَ عن طريق العِلاج بالوقاية من الدّاء قَبل حصوله. حيث تكون روابطُ الوُدِّ مازالَتْ قائمةً، ومشَاعِرُ الاحْترام والتقدير مازالتْ سارِيًّة بين الطرفَيْن. وكُلُّ ذلك يُساعِد على حَصْر المُشْكل أو المشاكل وتدَارُك الأمْر قَبْل انْفِلات الزِّمام، ودُخول العَصَبيّات والاعْتِبارات التي حاربَها الإسْلام، لأنها تتغذَّى من الأهواء والأوْهام، والتقاليد التي نشأتْ مع هَوانِ الإنسان -رجلاً وامْرأة- وتبِعَها هوانُ المرْأة وارتكاسُها في وضعية أحطّ من وضعية الجاهلية.
خطوات العلاج
1) أوَّل خُطوة هي الوعْظُ. والوعْظ يشْمَلُ:
أ- التخْويف من عقوبة الله تعالى دنيا وأخرى عند التفريط في مسؤولية رعاية البيْتِ والأولاد والزوجة، فالمرأة داخلة في عموم قوله تعالى {يَاأَيُّها الذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُم وأهْلِيكُم نَاراً وَقُودُها النّاسُ والحِجَارةُ}(التحريم : 6). فزوجُها من أهلها، وأولادُهامن أهْلها، والمرأة داخلة في المسؤولية بصريح الحديث الصحيح الذي يقول : >والمَرْأَة رَاعِيّة في بَيْتِ زَوْجِها ومسْؤُولةٌ عن رَعِيّتِها< فالتذكير بالمسؤولية أمام الله تعالى في كل وقْت، مع الْتِزام الزوج بهذه المسؤولية أيضا عَملاً، وقُدوة، وخلقاً، وأدباً عالياً مع الله عز وجل ومع الزوجة والأولاد على أنهم أمانة مصونة واجبٌ.
ب- التذكير بعاقبة الشقاق، وعاقبة الافتراق -إن كان هناك تفكير لدى الزوجة في الافتراق- سواءٌ على سُمْعتَيْهما أو عائلتيْهما، أو على الأولاد.
جـ- التذكير بجزائها عند الله تعالى إنْ صبَرَتْ على ما يمكِنُ أن تَعْتبرَه تقصيراً في حقِّها، فيعْترف بذلك، ويعِدُها بأنها سَوْف لنْ ترى شيئا يُؤْذِيها مِمَّا يُمْكِنُ أن تكون هي تَشْعُرُ به، وهُوَ لا يَشْعُر بذلك، فيكون ممّا يَصْدُر منه عن غير قصْدٍ. وما قيمَةُ الحياة الزوجيّة إذا لَمْ يكُنْ فيها تصابُر، وتبَادُل الاحْتمال والتحمُّل، وتبادُل الشُّكْر على النِّعَم الخفيّة التي أعطاها الله لَهُما من خلال الارتباط والتزاوُج، فكَمْ مِن المحاسِن هي موْجُودَة فعلا فيهما، ولَكن يُخْفِيها العِتابُ والتعاتُب، والجدَالُ والتجادُل، وإرخاءُ السَّمْع للعائلة أو الجيران أو الأقارب أو الأصدقاء والصديقات… وهكذا، وهكذا حتى تهدأ العواصِفُ وتمُرّ الزعازِعُ بسلام.
فهذه النصائح وغيرها نافعة بشرْط خُلُوصِ النيّة لله ربّ العالمين، وبشرط أن تكون الزّوجة تعْتَبر نفْسَها شريكا في مؤسَّسَة الأسْرة الصالحة، وليسَتْ نِدّاً في مَجَال العُقُوق والحُقُوق، أو خَصْماً في حَلَبة الصِّراعِ والافْتِخَار بالحسَب والنّسَب، أو بالمال والغِنَى، أو بالمنْصِب والسَّطْوة، أوْ إدْلاَل بالجمال وكمال الحُسْنِ الجَسَدِيّ الذي لا قيمة له في ميزان الله تعالى إذا لم يَصْحَبْهُ خُلُقٌ وشكر… أمْثَال هذه المرأة المُتَشَبِّعَة بهذه الأفكار لاينْفَعُ معها نصْح، ولا وعْظٌ، ولا تذْكير فهي تحتاج للخطوة الثانية.
2) الهجران في المَضْجَع : المضجَعُ هو المَكَان الذي تَصِلُ فيه المرأة إلى قِمَّةِ سُلْطانِها على الزّوج مهما كانتْ مكَانتُه، ومراكِزُه، وقُوّته، ومناصِبُه. فالمضجَعُ هو مكانُ القَهْر للرجُل، ومكَان لَيِّ كِبْريائه، ومكانُ تجْريده من كُلِّ هيْبة واعْتِبار.
والمرأة بفِطْرتِها تعْرِف هذا، وتذُوقُه وتُحِسُّه، وتشْعُر بِسِحْره ووقْعِه وامْتِدادِ أثَرِه وظلالِه على الحياة الزّوجيّة كُلِّها، فإنْ سعِدتْ المرأة في المضْجع وأسْعَدَتْ كانت الحياةُ كلُّها سعيدة -مهْما اعْتراها من شَظَفِ العيْش- وإن شقِيَتْ المرأة في المضْجَع وأشْقت امْتَدّ الشقَاءُ إلى مختلفِ جوانِب الحياة، وكان التبرُّم والشكْوَى من عِدّة جُزْئِيّات بسيطة، مع أن تلك الجزئيات المُشتكى منها هو مُجرَّد غِطاءٍ قِشريّ للشّقاء المضْجَعِي.
فإذا قَهَر الرّجُل المرأة في المضْجَع بحُبِّه وتحَبُّبِه وتودُّدِه، ونظَافَتِه العالية في الجِسْم والثّوْب والفِراش، والفَم والأنف والإبْط والبَرَاجم، حتّى تتفتَّح الشّهِيةُ الفِراشية بدُون أن يكسِرها أو يعطبَها حاجِزٌ يُكْسر النّفس، ويُقَزِّزُ اللّقاء، وإذا قهر الرجُل المرأة بنكته وشرْحِه وانْشراحه بالكلام الطيّب التودُّدِي الذي يمْلأ النّفْس حُنُوّاً وشُعوراً بالجمال والكمال. وإذا قَهَر الرّجُل المرأة بِفِقْهِه الفِراشِيّ الباحِث في صَمْتٍ عن كُلّ أماكِن اللّذَّة والالْتِذَاذِ، وعن كُل أماكِن الاحْساس بجَمال اللحْظة، فيَعْمل بصَمْتٍ وصَبْرٍ ودون إحراجٍ على هزِّ الكِيان، وتحريك الإحساس، بكلِّ أنواعِ التّحْسيس لبَعْث الغافل من المشاعر، وإيقَاظ الكامِن من النّشْوة العَارمة الغامِرة، حتى يقَع التفاعُل والتكامل والتجاوُبُ والانسجام، ويصل الجميعُ إلى الذِّرْوة التي يعْقُبها هُبُوط في ارتياح وانشراح. ينشأ على إثْرها انْسِكابُ الرُّوح في الرّوح، وانصِبابُ السّكينَة والمودّة في سُوَيْداء القلبيْن. كما ينْشأ على إثْرها شعورُ المرأة باطنيّاً وظاهريّاً أنها مُتزوِّجَةٌ، وأنّها لابِسَةٌ زوْجَها في الحُضور والغياب، في اليقظة والمنام، في السّفر والحضَر. وأساسُ كُلّ هذ :، النجاحُ في الفراشِ والمضْجَع الذي يُساعِد عليه فِقْهٌ خَاصٌّ يُتَعَلَّم من التجربة البيْتِية، وصمتٌ خاصٌّ مُتَحَرّك يُساعِد المرأة على التّركيز في الثّواني الحيّة المُتفاعِلة.
إن كان الرّجُل في المضْجَع بهذه المثابة والمكانة، وكانت المرأة في المضجع بهذا الذّوبان والاستجابة كان هجْرانُها في مَضْجَعِها أقْسَى طَعْنةٍ جارحةٍ مُؤَثِّرة توَجَّهُ لأعَزِّ ما تُدِلُّ به المرأة على زوْجها في الفِراش، تجْعلُها تُراجِعُ الحساب سريعاً، وتعْملُ على تدَارُك الأمْر بالاعْتذار عنْ تقصير غير مقْصُودٍ، أو عنْ خطإٍ مُتعمَّد في لحظات غَضَبٍ وانْفعال ناتجٍ عن نقد لاذِعٍ من الزوج أو أُمَّه، أو ناتجٍ عن تَدْميرٍ للشّخْصيّة في حالات العَمل والمخالطة، أو ناتجٍ عن اكْتئابٍ أو حالةٍ مرَضِيّة… إلى غير ذلك من الظروف التي تجعل مِزَاج المرأة غير رَائِقٍ، فتَنِدُّ مِنْها فَلْتَاتٌ كلاميّة، وتصرفاتٌ هذَيَانِيّة غيرُ مقدّرة العواقب.
لماذاَ لا تصْبر المرْأة الساكنُ زوجُها في قلْبها على الهجران؟ لأنّ الزّوج قِطْعةٌ من كيانِها، وبِضْعٌ منها، ونفَسٌ من هَوَائها. فمِن هناك كان هذا العِلاج نافعاً لا ينْبغي أن يسْتَغِلَّهُ الرّجُلُ لإذْلالِها وإهْدارِ كرامَتِها، حَتّى لا ينْقَلِبَ العِلاج والدّواء إلى دَاءٍ وسُموم.
أمّا إذا كانت المرأة لا تُحِسُّ بأيّ مَيْل أو انْجِذاب للفراش فالهجران لا يؤدِّبُها ولكِنّه يُريحُها، فكم من رجال يشتكُون من هِجْران زوْجاتهم، ولا يدْرُون أن العِلّة فيهِم وليست في زوْجاتهم، بدليل أن بعْض الزوجات يلْجَأْن للخِيانة ليَرْوِين ظَمأَهُنّ الفِطْري والغريزي في غياب مراقبة الله تعالى، فكم من نساء أُصِبْن بالسّعار الجنسي في منتصَف العُمر أو أكثر فتمرَّدْن على الفراش الزوجي وأرْخصْن أنفُسهُن في وسخ وعفَن الفاحشة بافتضاح كامِلٍ، وتهافُت ذَليل، لأن الزواج في الأول لم يكن على أساسِ اختيار المرأة ذات الدِّين، فحينما مرَّتْ فترةٌ طويلة من الشعور بالحِرْمان الجنسي، وأدّتْ وظيفَتَها كآلة مُسخّرة، وأنتَجَتْ الأولاد مَلّتْ حَياة الأداة، وأرَادَتْ أن تَجِد ما حُرِمَتْ مِنْه طوالَ مُدّة الإمْتاع بدون اسْتمتاع.
وكم من نساءٍ ملِلْن الحياة الزوجية التي لا طَعْم لها ولا لذّة، فطالبْن بالطّلاق للتحرُّر من السِّجْن الزّوجي الكريه بدون أمَلٍ في الزواج أو رغْبة في الانحراف، وإنما تفَلُتٌ من قيود المذلةوالإهانة التي يصُبُّها -بعض الإخوانُ!! يا حَسْرة!!!- على الأخواتِ، في عصْر قرأت فيه المرأة حقوقها إسلاميّا ووضعيّا، وعرَفَتْ أنّ ما يُمارسُ عليْهن ليْس إسلاماً حقيقيّاً، وإنما هو الإسلام المورُوث عن عُصُور الحريم.
ولعلّ في هذا تنبيها لبعض الإخوان وبعض الرجال الذين يظنون أن تعْليف المرأة كالحيوان، وتزيينها كالدّمية هو قِمّة الرّجُولة، والذين يقضون وطَرَهُم من المرأة فيديرون ظهورهم لها نائمين ملء جُفُونِهم يَشْخُرون، تاركين المرأة تتقلب على جَمْر الحِرْمَان تنْدُب حظّها التعيس الذي قادها إلى فراش الجهل والأنانية.
ولا يتعلَّلُ الزوْجُ أو الزوجةُ بالزُّهْد في فراش المخْدَع نظراً لثقافة المرأة وعِظم عِلْمها، وكثرة اهتمامها بوظيفتها، ومنْصِبها العالي جدّاً جدّاً، فهذا كُلُّه هُراءٌ في هُراءٍ، فالرجُل حتّى وهو طبيبٌ ومُهندسٌ ووزيرٌ ورئيس ومع ذلك لا ينْسى ملاذَ الغريزة، ومَلْجَأَ الفِطرة. فالمرْأة كذلك تنامُ غريزتُها وقت الجِدِّ والعمل والتعلُّم والتعليم، ولكن الغريزة لا تمُوت، بل سُرعَان ما تسْتيقظُ لحظَة مجابَهَةِ الرجُولَة والفُحُولة التي تقْطُر أدباً وسُمُوّاً وإدْراكاً للدّواعي الفِطْريّة في أعْمق وأدَقِّ معانيها.
3) الضّرْبُ : هذا هُوَ العِلاجُ الأخير في سلسلة علاجات النشوز داخِلِيّاً، ولوْ لم يكُنْ لَه فائِدة في عِلاج بعْض الأصْناف من النِّسَاء اللواتي يغٌلِبُ عليْهِنّ الجَهْلُ وغلاظة الطَّبْع، وبلادَة الإحساس لمَا ذَكَرهُ اللّهُ. فبعضُ هؤلاء لا يعْرفْن قيمة الرجل إلا بالضرب والإيجاعِ، بلْ ويُمكن أن تُحِسَّ بالحُبِّ والميْل في ظِلّ الرّهب الكثير، وبعْض الرغب القليل، لأنهن لم يرزقْهُنّ الله فِقْهاً ولا فَهْماً في الحياة الزوجية الكريمة، وهذا النوع يكثر في البوادي والبيئات الجاهلة. فهؤلاء ينفَعُ فيهِن الضربُ، ويُفضِّلْنه على الطلاق والفراق.
أما رهيفاتُ الشعور، ورقيقات الإحساس والمثقفات والمتربيات في البيئات العلمية، والأخلاقية فإن الضرب يكسِّرُهن بدَل أن يُصْلِحَهُنّ خصوصاً في عصر العولمة ومدونات الأسر….
ذ.المفضل فلواتي