5- النُّشوز : معناه، أسبابه
1- معنَى النُّشُوز :
أ- النشوز لغة : النَّشْزُ، والنشَزُ : المكانُ المرتفِع من الأرض، فكُلُّ تَلٍّ، أو ربْوة، أو كُدْية يُعْتبَرُ نَشَزاً، أي مرتفَعاً.
ونشزَ ينشُزُ نُشوزاً المرْءُ : أشْرَف على نشَزٍ من الأرْض، أي ْ أشْرف على أن يُصْبِحَ على أرضٍ مرتفِعة، ومرُورُه على أرضٍ مرتفعة معناه : أنَّهُ أضّحَى عالياً يُطِلُّ على السُّفوح من الأرض العالية.
ونشَزَتْ المرْأة بزوجها، وعلى زوجها، تنشِزٌ وتنشُز نُشوزاً : ارْتَفَعَتْ عليه، واسْتعْلَتْ، وأصبَحَتْ تنْظُر إليه من فوْق، ومن عَلُ كأَنَّها في جَبَلٍ وهو بالسفْحِ، يصْعُب عليه الصُّعودُ إلَيْها، والوصُولُ إليها إلا بكَدٍّ ومشقَّةٍ، نظراً للمسافة الصَّعْبة التي تفصِل بيْنهما.
ب- النشوزُ اصطلاحا : نشزَتْ المرأة على زوجها : اسْتَعْصَتْ عليه، وأصْبحتْ لا تطيعُه لا في أمْرٍ ولا في نَهْيٍ، فهيناشِزٌ أي خارجةٌ عن طبيعة العلاقَة الطيّبَة الطبيعيّة التي تكون بَيْن الزوجَيْن عادَةً، فهي في مسْلكها هذا كأنّها شَاذَّةٌ كشُذوذ الأرض المرتفعة وسط السّهول المتبسطة.
هذَا هو نُشوزُ المرْأة ظاهِراً، أما نشوزُها باطِناً فمعناه : أنَّها أبْعَضَتْهُ وكرِهِتْ عِشْرتَهُ، كرِهَتْ النَّظَر إليه، وكرهَتْ كَلامه، وكرهَت رائحتَه، وكَرِهتْ مرافقَته، بلْ كرِهَتْ الاتِّصال به في أمَسِّ وظائفِ الحياة الزوجِيّة التي يعْقُبها سكَنٌ وأُنْسٌ وانشراحٌ وهُدُوءُ أعْصاب ومشاعِر.
والاستكْبارُ عن الطاعة، والاستنْكَافُ من الاستجابة والتَّلْبيّة، والاستعْلاءُ عن المضْجَع والفراش، والتهرُّبُ خارج البَيْت، والتعَلُّل بالوظيف والمِهنة وأتعاب الأولاد، وأشغال البيْت والمطبخ… إلى غير ذلك من التعلُّلات كُلُّها مظَاهِر وقشور سطحيّة تُخْفي تحتها مكامِن الكراهية والبغضاء، ومكامِن الازدراء والاحتقار للرّباط الزوجيّ الذي وهَتْ عُرْوتُه، وضَعُفَ حَبْل مَودَّتِه بسَبَبِ خطإٍ في عقْده أوَّلَ مرَّة، أو بسبَبِ تنافُر أخْلاق وطباعٍ اكْتُشِفَتْ خِلال المعاشرة الطويلة، فلم تُحْسِنْ المرأةُ التكيُّف معها، ولمْ تطِق الصبر عليها.
2- أسبابُ النشوز :
إن أساب النشوز عديدة تتلخَّصُ في الشقاق والتنافر الذي يَحْدثُ بين الزوجَيْن نتيجة انعدام الانسجام، إلاّ أن هذا التنافر قد يكون مُعَلّلاً أحيانا بظواهر حقيقية تزيدُ الخَرْق اتساعاً، والبُغْض ضِراماً، وقد يكون مُعَللا بظواهِر غير حقيقية لمجرّد الدِّفاع ورَدِّ الإحراج أمام التساؤلات الكثيرة من العائلة والصديقات، فيكون الدفاع مجرّد التخلُّص من الإفصاح عن المسْكوتِ عنه الواضحِ في الشعور النافِر ويُمكن أن يكون مُبهَماً.
أ- نفور غيْر مُعَلَّل :
> عن عائشة رضي الله عنها قالت : >اشْتَريْتُ بَريرة، فاشْترط أهْلها ولاَءَها، فذكرتُ ذلك للنبي فقال : >أعْتِقِيها فإنّ الوَلاَءَ لمَنْ أعْطَى الوَرِق -الفضة-< فأعْتقتُها، فدعاها النبي ، فَخَيَّرها من زوْجها، فقــالت : لو أعطاني كذا وكذا ما ثبَتُّ عنده. فاختارتْ نفسها<(1).
وعن ابن عباس : أن زوج بريرة كان عبداً يُقال له >مُغيثُ<، كأني انظُرُ إليه يطوفُ خَلْفَها يَبْكي ودموعُه تَسيل على لحْيتِه، فقال النبي لابن عباس : >ألاَ تَعْجَبُ من حُبِّ مُغيثٍ بَريرة، ومِن بُغْضِ بَريرة مُغِيثاً؟!< فقال النبي : >لوْ رَاجَعْتِهِ< قالت : يا رسول الله تأمرني؟! قال : >إنّمَا أنَا أشْفَعُ< قالت: فلا حاج لي فيه.(2).
> عن ابن عباس رضي الله عنهما : >جَاءت امرأةُ ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي ، فقالت يا رسول الله، ما أنقَمُ على ثابت في دين ولا خُلُق، إلاّ أني أخافُ الكُفْرَ، وفي رواية : >ولكِنّى لا أُطِيقُه<، فقال رسول الله >فَتَرُدِّينَ علَيْهِحَدِيقَتَه< قالت نعم. فردَّتْ عليه، وأمره ففارقها<(3).
هذان مثالان واضحان للنفور أو البغض غير المُعَلّل.
ففِي المثال الأول عَبرت بريرة عن بُغضها لمغيث بقوْلها : >لوْ أعطاني كذا وكذا ما ثبتُّ عنده< وقولها : >فلا حاجة لي فيه< وهو كَلام يدُلُّ على مِقدار الشُّقّة التي صارت تُفرِّق بين الزوجَيْن، شقة لا تَنْجَبِرُ بترقيعها ومُسَكِّنات، لأن البُغْض حَلَّ مَحَلّ الوئام، ولا عِلاج لهذا البُغض وهذه الكراهة إلا بالانفصال والفراق الجميل.
وفي المثال الثاني كان التعبير عن هذا البغْض غير المعلل، يقول امرأة ثابت : >أخاف الكفر< أو >لا أُطِيقه< فأخاف الكفر معناها : تخاف من كفران العشرة الزوجية، وكفر انُها عصيانُ أوامر الله تعالى الذي أمر الزوجة بحفظ فراش الزوجية من الخيانة، وحفظ بيت الزوجية من العبث به، وحفظ أسرار الزوجية من الانفضاح.. إلى غير ذلك من أنواع الكفر الزوجي.
أما (لا أطيقه) فالجملة صريحة في انْسِداد القلب بالكليّة عن الأمل في العيش المشترك داخل هذا العش الزوجي، لأنه عُش أفضل منه الحبْسُ والسجن. فما معنى بقاء الحياة الزوجية على هذا الشكل؟!
ب- نفور معلل :
من تمام رحمة الله تعالى بالأمة، ومن تمام نعمته سبحانه عليها، ومن تمام الهداية، بل ومن تمام البيان النبوي للدين.. أن هيّأ الله تعالى نساء صادقات سليمات الفطرة لهذا الدين، لا يسْتحْيين أن يسْألْن عن دينهن في المسائل الداخلية الخاصة بالمرأة، والتي تتهرّب الكثير من النساء -عادة- من الافصاح عنها.
وهذا هو معنى قوْل عائشة الصديقية الفقيهة رضي الله عنها : >رحِم اللّه نِساء الأنصار لمْ يمْنَعْهُنّ الحَيَاءُ مِن أن يَسْألْن عن دِينِهِنّ< أو كما قالت.
وقد حفظتْ السنة للمسلمين نصّاً صريحا في التصريح بالمسْكُوت عنه -عادة- بين النساء والرجال أمام الرسول الذي لم يظهر امتعاضا، أو نفوراً أو تقززاً -رغم استنكار البعض من السامعين الذين لو وجدوا الفرصة لأخرسوا المرأة-.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : >جَاءَت امرأةُ رِفاعة القُرظي رسُول الله ، وأنا جالسة، وعنده أبو بكر، فقالتْ : يا رسول الله، إني كنتُ تحْتَ رفاعةَ، فطلَّقَنِي، فبَتَّ(4) طَلاقي، فتزوجْتُ بعْدَه عبد الرحمان بن الزبير، وإنه والله ما معَهُ يا رسُول الله إلاّ مثْل الهُدْبة، وأخذَتْ هُدْبَةً(5) من جلبابها.
فسمع خالدُ بن سعيد قولها -وهو بالباب لم يُؤْذَنْ له- فقال خالدٌ : >يا أبَا بَكْر ألاَ تَنْهَى هَذِه عَمّا تجْهَرُ به عِنْد رسول الله؟!<(6) قالت عائشة : فلاَ واللّه مَا يَزيدُ رسولُ الله على التبسُّم فقال لها رسول الله : >لعَلَّكِ تُرِيدِين أنْ تَرْجِعى إلى رِفَاعة؟! لاَ. حَتّى يَذُوقَ(7) عُسَيْلَتَكِ وتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ< فصار سنةً بعْدَه<(8).
فالنشوز رفض تام للمعاشرةالزوجية التي جرّبتْها المرأة مع زوجها، فلم تطق البقاء على تلك الوتيرة التي عرفتها لأنها ملَّتْها وصارت تطلُب الخلاص منها بتعليل، أو بدون تعليل.
فقد يكون السّبَبُ :
> ذمامَة الرجل، وحقارته في عين زوجته لقُبْح منظره أو لسفالة أخلاقه.
> أو بُخْلَهُ الشديد، مع الوجْدِ، فهي تشعر معه بحرمان مما يتمتع به أمثالها من النساء.
> أو قُبْح معاشرته في الفراش، حيث لا يهتمُّ إلا بنفسه، ويُلغي الطرفَ الآخر من حسابه إلغاءً تامّاً.
> أو ضُعْفُ أدائه الجنسي لعَجْز أو عَطَب أو عطالة.
> أو اختلاف المرجعية، فهي تستقي من موارد الثقافة المتحلِّلَة، التي لا تعترف بطاعة أو قوامة، ولا تعترف بلعنة الله تعالى وسخطه، وهُو يستقي من موارد الإسلام.
> أو اختلاف الأوضاع الاجتماعية، فهي سليلة التمدن والتحضر، وهو سليل البداوة والأخلاق المائلة إلى الجفاف والجدية.
> أو اختلاف الوظائف، فهي طبيبة أوجندية أو شرطية تُلْزمها وظيفَتُها بالبيات خارج بيت الزوجية، وبالاستعداد للطوارئ في كل الأحوال، وهو أستاذ أو تاجر، أو بنّاء، أو صانع يشعر بالحرمان فينشز هو، وتبادله هي نفس النشوز لتفضيلها الوظائف الاجتماعية على الوظيفة البيتية والأسرية.
> أو كثرة التّقبيح، فالرسول قال >ولا تقبّح< وهو كثير التقبيح لطبخها، لكسوتها، لنظافتها للدار، لكلامها، لتفكيرها، لا يُعجبُه منها شيء. فتشعر بالاشمئزاز، والتبرُّم، إلى أن تصل إلى درجة الشعور بحقارة نفسها في عينها فتفضِّل الهروب للأمام، وترفض الحياة الزوجية جملة وتفصيلا، بل تكْره الرجال وتمقتهم.
وهذا كُلُّه ينبغي الاحتياطُ له في العَمَل على حُسْن اختيار المرأة للرجل الذي تقدِّره، وتحترمُه وتشعُر أمَامهُ المرأة بالقَهْر الرُّجولي، والقَهر الخُلُقي، والقَهْر الفكري، والقهْر العلمي، والقهر التوجيهي، والإرشادي. أي أن المرأة تشعُربكمال الحياة الزوجية ولُطْفها ولذتها في ظل رجُل تحبُّه، وتهابُه، تُحبُّه وتقدّره، تحبُّه وتسعى إلى إرضائه ومحاولة الوصول إلى سمائه والتحليق في أجوائه العالية، تحبُّه وتشعر بلذة إرضائه في طاعة الله تعالى ورضاه.
فهذه خديجة رضي الله عنها تقول لرسول الله >كلا، والله لا يُخْزِيك الله أبداً.. إنك، وإنك..< كلام يَدُلُّ على ما تحته من الهيبة والجلال، والاعتزاز..
وهذه الرميصاء رضي الله عنها تقول لأبي طلحة >مثلك لا يُرَد، ولكن أنا مسلمة وأنت مشرك، فإن أسلمت فذلك مهري…< فمثلك لا يُردّ تحمل معاني الإكبار والتقدير.
وهذه أم سلمة رضي الله عنها تردُّ رجالا كباراً من الصحابة لأنها تَرى أن مثل زوجها أبي سلمة ] الذي فقدته لا يوجد نظيره، إلا رسول الله الذي قبلته زوجا وهكذا، وهكذا، فحُسْن الاختيار في الأول يقي من شر النشوز وويلاته.
———–
1- البخاري كتاب العتق وفضله.
2- البخاري، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي في زوج بريرة.
3- البخاري، باب الخلع.
4- بتّ طلاقي : طلّقني الطلقة الثالثة والأخيرة، والمطلقة ثلاثا تُسمَّي مبتُوتَة انقطع طريق رجوعها لزوجها، إلا بعد الزواج من زوج آخر وتطليقه لها.
5- هُدْبة : الهدبة، طرَفُ الثّوب، وقِطعةٌ مِنْه، والهدْبة أيضا : شَعرة من شُفْرة العَيْن، والأهداب : أشفار العَيْن، وهي عندما قالت : ما معه إلا مثل الهُدْبة، كنَّتْ بذلك عن ضُعْفه الجنسي، وعَدَم قدرته على إشباع جُوع المرأة الجنسي الذي هو حقّها الطبيعي كما هو حق الرجُل. وهذا هو ما يُعْرف -في الفقه- بالعنِّين الضعيف الشهوة النسائية، أو العاجِزُ عن إتيان المرأة لكِبَر، أو مَسٍّ، أو انْصراف عِلْميٍّ، وشغلي، أو مرض نفسيّ..
6- ما تجهَر به : لأنها تخرق المألوف، حيث الكثير من النساء -عادة- يتستّرن على مثل هذه العُيوب، فتجْهر بأنها لا تطيقه، أوتُبغضُه بدون ذكر الأسباب الحقيقية التي كرّهتْها فيه. ولكن الرسول -مُعَلِّم الإنسانية- لمْ يُسْكِتْها، بلْ كان يتبسَّمُ لهذه الفطرة الصادقة الصريحة التي يشجّعها الإسلام لتنقية القلب وتطهير الجراح حتى لا تتعفن الأسَرُ بأمراض الغش والخداع والخيانة.
7- حتى يذوق : أي حتى يُبَاشِرها، ويجامِعَها لتحِلّ لزوجها الأول إذا أرادت الرجوع إليه، لأن الله قال {حَتّى تنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}(البقرة : 208) ففسّرها الرسول هنا بالجماع، وليس مُجَرّد العقد.
8- صار سنة : أي صار النكاح المُعَبَّر عنه في القرآن بالنكاح بعد التوضيح النبوي يطلق على المباشرة، فمن عَقَد على امرأة مطلقة ثلاثا بدون مباشرة كان عَقْدُه كلا شيء بدون مَسٍّ، أي لا يحلِّلُ المرأة لزوجها الأول، فإذا فرضنا أنه طلقها الثاني بدون مَسٍّ، ورجعت لزوجها كانا كأنهما يزنيان عليهما العقوبة من الله تعالى، وأولادهما ليْسُوا شرعيّين عند الله، بل هُمْ أولاد نكاح فاسِد شرعاً، وإن كانت الصورة في الظاهر صورة شرعية.
ولهذا قال الرسول : >لا< أي لا رجوع إلى رفاعة إلا بعْد مُبَاشرة عبد الرحمان بن الزبير، فإذا كان عاجزاً، فيمكن أن تُطلَّق منه، وتتزوج رجلا آخر يَمَسُّها، فإذا طلقها أو مات عنها حَلّت بعد ذلك لرفاعة إذا رغبا في بعضهما بعضا.
ذ.المفضل الفلواتي