3-القوامة ليست حِرْماناً للمرأة من التكسُّب وممارسة النشاط النافع للأمة :
مراعاةُ الوظائف الأساسيَّة واجبةٌ :
قال محمد الغزالي رحمه الله تعالى : في جُنون المساواة المطلقة بين الرجُل والمرأة في ميادين الأعمال أعجبَني التقريرُ الذي نشرته منظمة الصحة العالمية شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث جاء فيه >وفي جميع الأحوال لا يليق بالمرأة أن تعْمل في المجالات التي لا تُلائِمُ طبيعَتَها، ولا يليق بها أن تَدْخل في أي ضَرْبٍ من ضروب الصناعة والحِرَفِ المُضْنِية، فالمجالات التي تُحْسِنها المرأة وتتناسَبُ معها كثيرة ومتعددة، كميدان التعليم والطب والتمريض، والرعاية الاجتماعية، والكتابة والنشر، وبعض الوظائف المرهقة، وتستطيع فوق ذلك أن تَغْشى الأسواق في حشمةٍ ووقار.
أما أن تعمل المرأة كُلَّ أعْمال الرجال كأن تكون شرطيةً وميكانيكية؟! وعاملة في المصانع، ومنظِّفةً في الشوارع، وسائقةً للعربات، وأدوات النقل وما شابه ذلك، فلا يليقُ بها، ولا يجوز لها أن تُزَاوله، وقلَّما تُساوي الرجال في هذا المجال..
ومن المفيد جدّاً أن نشير إلى الدراسة القيِّمة التي نشرتها جريدة الهيرالد تريبيون الدولية، في عددها رقم 32650 بتاريخ 16 فبراير 1988، فقد قامت الدكتورة روزفريش استاذة الصحة العامة بجامعة هارفارد، بدراسة أجرتها على 5398 امرأة تتراوح أعمارهن ما بين 21- 80 عاماً.. وخلصت من دراستها إلى النتائج التالية :
1) تصاب اللاعبات الرياضيات النشيطات باضطراب في الدَّوْرة الطّمثِيّة، ويُصْبحن غيْر مُخْصِبات، طالما يَقُمْن بالممارسة الرياضية.. وأضافَتْ الباحثة نصيحتَها إلى النساء قائلة : لا يُمكن للْمرأة أن تعْمل كلَّ شيء، بمقدور كل واحدة منكن أن تُصْبح نجْمة رياضية أو لاعبة ألْمبياد شهيرة، ولكنها إذا رغِبتْ في إنجاب طفل فإن عليها أ ن تتوقف عن اللّعب.
2) ولقد أظهَرت الدراسة أن 2622 ممن كُنّ يمارسْن الألعاب الرياضية، قد بَدتْ عليهن أعْرَاض سرَطان الثَّدْي، أو الداء السُّكري، أو سرطان الجهاز التناسلي في مقابل القسم الآخر وعدده 2776 اللواتي لم تظهر عليهن هذه الأعراض.
3) بينت دراسة أخرى لجامعة هارفارد أن الأعمال النشيطة التي تمارسها المرأة تُؤثِّر جدّا في إنتاج >الإسْترجينات< التي تتحكَّم في الإنجاب لدَى المرأة.
4) وأشارت دراسة أخرى أجرتْها جامعة كَنَدِيّة : أن النساء اللواتي يُمَارِسْن الأعْمال المُجْهِدة يُصَبْن باضطراب الإخْصابِ حتى لَوْ اسْتمرَّ الطَّمْثُ لَدَيْهِن على وضعه النظامي.
أظُنّ بعد هذه التجارب والاستقراءات أن الأفْضَل للمرأة الوقوفَ عند حُدُودها الفطرية، واليأْس من طَلَبِ المساواة المطلقَة مع الرجل في الكَدْحِ المُضْنِي وما يعقُبه من آلام(1).
الإسلام لا يمْنع المرأة من التكسُّب ولكن اتّباعَ سُلَّمِ الأوْلويّاتِ ضَرُورِيُّ :
إن الأعمال الوظيفية والمِهَنِيّة عندما تتزاحَمُ بحكم المتطلبات الأسرية والاجتماعية، فلا مناص عِندئدٍ من اتّباعِ ما يقْتَضيه سُلّم الأولويات في تفضيل الأهم، فما دونه، فما دونه، من حيث رعاية الضرُوريّات ثم الحاجيّات ثم التحسنِيّات من مصَالح المجتمع.
إنّ المرأة المتزوجة والمُطْفِلة مُلاحقَةٌ برعاية زوجها، وملاحقةٌ برعاية أطفالها وتربيتهم، ومُلاحقة أيضاً -بحُكم ثقافتها واخْتصاصها العلمي- أن تُساهم في خدمة مجتمعها تعليميا أو طبِّياً أو حلِّ مشكلاته الاقتصادية..
فإذا كان الوقت لا يُُسعِفُها في النهوض بكل المهامّ والوظائف فما الحلُّ؟!
ليس هناك من حلِّ سليم منطفي عاقل ورشيد إلا اللجوء إلى سُلَّم الأولويات، وسُلّم الأولويات يقول : رعاية الزوج، وتربية الأولاد تربية صالحة يرْقَى إلى مستوى الضروريات من مصالح المجتمع، ذلك لأن صلاحَ الأسرة هُو الأساس الأوّل لصلاح المجتمع، ثم بعد ذلك تأتي الحاجيّات الاجتماعية والتحسينية.
ولا أدَلّ على هذه الأولويّة القدسيّة من تضمُّن القرآن لهذه الحقيقة، قال تعالى : {والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَىْن لمَنْ أَرَادَ أنْ يُتِمَّ الرّضَاعَةً وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وكِسْوَتُهُنّ بالمَعْرُوفِ}(البقرة : 233) فقد ألزَم المرأة -في هذه المرحلة- بالتفرُّغ للأولاد، وأَلْزم الأب بالإنفاق على الزوجة، ولو كانتْ مُطلَّقة(2).
ويظهر أن الدول الأوروبية بدأت تُقدّر دَوْر المرأة في مجال الأُسْرة والإنجاب، حيث بدأت تُعْطِي للموظَفة رخصة طويلة لتنشئة الأولاد، بعد ما بدأت مجتمعاًتها تشيخ، وبدأت أسرها تنهار.
إذا كان اعتناءُ المرأة بالأُسْرة من أولى الأولويات، وضرورةً من الضروريات لعَدم وجُود مَن يقوم مقامها، ويُغني غنَاءَها في هذا الجانب، فإن قِيَامَها بعَمل موازٍ لا يُلٌغي المُهمّة الأولى ولا يُعَطّلها بلْ يُعْتَبَر من الحاجيّاتِ، ويُمْكِن أن ينزل إلى مرتبة التحسينِيات، في أي مرتبة كان فهو جائزٌ بالشرط الاجتماعي المطلوب مادامت المرأة ربَّة بَيْت مَاهِرة، وزوجة صالحة، وأمّاً بارّة بالنّشْء وخَيْر محْضن للجيل الصالح مستقبلا.
وبهذا المقياس وهذا التوازُن العَجيب نجِدُ طبقاتٍ وعَيّنات من النساء برَزْن كنموذج فريد على عهد رسول الله وعهد صحابته الكرام.
ونجد في مقدمتهن :
1) أمّنا الكبرى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها : التي قال فيها >خَيْرُ نِسَائِهَا مرْيَمُ بنت عمران، وخيْرُ نِسائِها خَديجة بنت خُويلد< والتي هي أوّل امرأة بُشِّرت بالجنة، وأوّل امرأة يُبَلِّغُها جبريلُ عليه السلام -عن طريق رسول الله – السللام عليها من ربِّها ومِنه، هذه المرأة ذات المكانة العظيمة عند الله تعالى وعند أمينوحْيه، وعند رسوله المشهور عنْها أنها كانت من التّاجِرات الثّرِيّات، قال ابن اسحاق عنها : >وكانت خدِيجة بنتُ خويْلد امرأةً تاجِرةً ذاتَ شَرفٍ ومالٍ، تسْتأجِرُ الرّجال في مالها، وتُضَارِبُهُم إيّاه بشيء تجْعَلُه لهُم، فلمّا بَلَغَها عن رسول الله ما بَلَغَها مِن صِدْق حديثِه، وعِظَم أمانَتِه، وكَرَم أخْلاقِه بعَثَتْ إليه، فعرَضَت عليه أن يَخْرُج في مَالٍ لَها إلى الشّام تَاجِراً، وتُعْطِيه أفْضَلَ مِمّا كانتْ تُعْطِي غَيْره من التّجار<.
2) المُمرّضة الماهرة رُفَيْدَةُ الأسْلَمِيّة رضي الله عنها : ذكر الحافظ بن حجر في فتح الباري أن امرأة إسمُها رُفَيْدة الأسلميّة كانت خبيرة بمداواة الجرْحى، ضربَتْ خيمةً يوم الخندق عُرفَتْ باسْمها، فكانتْ تسْتَقْبِلُ فيها الجرحى تُسْعِفُهم وتُداويهم، ولمّا أُصِيب سَعْد بن معاذ ] أمر رسول الله فقال : >اجْعَلُوه فِي خَيْمَتِهَا لأَعُودَهُ مِن قريب<(3).
3) المرأة الماهرة في النّساجة : روي البخاري في صحيحه : أن امرأة جاءتْ بِبُرْدة -شمْلَة منْسوج في حَاشِيتِها- فقالت : يا رسول الله إنّي نَسَجْتُ هذه بِيَدي أكْسُوكَها< فأخذها النبي محتاجاً إليها(4).
4) المرأة المُديرة لمصنع النجارة : روى البخاري : أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله : >ألا أجْعَلُ لكَ شَيْئاً تقْعدُ عليه، فإنّ لِي غُلاماً نجّاراً؟< قال : >إنْ شِئْتِ< فعملت له المِنْبَر، فلما كان يوم الجمعة قَعد النبي على المنبر الذي صُنع، فصاحَتْ النخلةُ التي كان يَخْطبُ عندها، حتى كادَتْ أن تَنْشَقَّ فنزل النبي حتى أخذها فضَمّها إليه، فجعَلت تئن أنِينَ الصّبيّ الذي يُسَكَّتُ حتى اسْتَقَرَّتْ(5).
5) المرأة الصّنَاعةُ اليَدَيْن : روى ابن ماجة في سُننه وابن سعد في طبقاته أن زينَبَ امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها كانت صنَاعَ اليديْن، فقالت : >يا رسُول الله إنّي امرأة ذَاتُ صِنْعةٍ أبِيعُ مِنْها، وليْس لي ولا لِزَوْجي ولا لوَلَدِي شَيء< وسألتْه عن النفقة عليهم، فقال : >لك في ذلك أجْرُ ما أنفقتِ<، وفي رواية أخرى عن زينب هذه ، قالت : قال رسول الله : >يا معشر النساء!! تصدقن ولو من حليّكُنّ< قالت : فرجعتُ إلى عبد الله، فقلْتُ : إنّك رجُل خَفِيفُ اليد -قليل المال- وإن رسول الله قد أمرنا بالصدقة، فَأْتِه فاسْأَلْه، فإن كان ذلك يُجزئ عَنِّي، وإلا صَرَفْتُها إلى غَيْرِكُمْ؟! قالت : فقال لي : بَلْ ائتِيه أنْتِ، قالت : فانطلقتُ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله حاجَتي حاجَتُها فخرَج علينا بلال، فقلنا له : ائتِ رسول الله فأخْبره أن امرأتَيْن بالباب تسألانك : أتُجْزِئ الصّدقةُ عنْهُما على أزْواجِهِما وعلى أيْتَامٍ في حُجُورِهِما؟! فدخل بلال ] فسأل رسول الله ، فقال له رسول الله : >مَنْ هُمَا؟< قال : امْرأةٌ من الأنصار وزيْنَبُ، فقال : >أيُّ الزَّيانِبِ؟< قال : امرأة عبد الله، فقال رسول الله : >لَهُمَا أجْرَانِ : أجْرُ القَرَابَةِ، وأجْرُ الصَّدَقَةِ<(متفق عليه)، واللفظ لمسلم مشكاة المصابيح 533/1.
وقصّة المرأة التي قدمَتْ إلى المدينة بجَلَبٍ لها -بضاعة- فباعَتْه بسوق بني قَيْنقاع، ثم جلسَتْ إلى يهوديّ صائغٍ لتشتري منه شيئاً،.. فَفَضَح أسْتها فصاحت… فكانت هذه الحادثة سبب إخراج بني قيْنقاع وإجلائهم عن المدينة، هذه القصة معروفة مشهورة.
إذن الإسلام يكفي المرأة حاجَتها أولا، ثم يُيَسِّر لها سُبُل الأنشطة والخدمات الاجتماعية ثانيا، كيْ تَمْلك الخيار في أن تَعْمل أو لا تَعْمل أوّلاً، ثم كَيْ تمْلِك، ثانِياً الخيار في انتقاء ما يناسبُها من الأعمال، ثم لكي تمْلك الخيار ثالثا في أن تقصِد من عملها خِدمة المُجتمع والمساهمة في رعايته واصلاحه(6).
وفي هذا الفرْق الكبير بين النظام الإسلامي والنظام الغربي الذي يدفع المرأة للعمل بسائق مهين من الحاجة والضرورة، فليس في ذلك خيار ولا بديل، وذلك هو المزلق الخطير لإفساد المرأة والمتاجرة فيها وإزهاق أنوثتها وكرامتها ومسؤوليتها ووظيفتها الأصلية والأصيلة.
—
1- قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة ص 38- 40 بتصرف.
2- انظر المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الإسلامي من ص 63- 67.
3- فتح الباري 411/8- وفي هذا الحديث ردُّ على المتنطِّعين الذين يسألون : هل يجوز للمرأة أن تُعالج الرجال وتُداويهم؟! وهل يجُوز للرجل أن يُعالج المرأة ويداويها؟.
4- انظر المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني ص 89.
5- المرجع السابق.
6- المرجع السابق.
ذ.المفضل فلواتي