1- تقديم عام
القوامة ليست تكريساً لدونية المرأة أمام الكبير المتعال خالق النساء والرجال :
إن الإنسان عندما وضع مَقَادِيرَ المَكِيلاتِ، والموزونات، والمقيسات وضعَها ليقَعَ التحاكُم إِليْها أثناء الوزْن أو الكَيْل أو القياس، فعندما يقف لسانُ الميزان في الوسط معناه أن التعادُل وَقع تماماً بيْن الموْزُون وآلة الوَزْن أو مقداره، وكذلك الشأن في المِتْر عندما تساويه بالثِّوْب المُشْترى، تعْرف عدَدَ الأمْتار، ومِقْدار الأثمان الواجبة، فلا يَقع تنازُعٌ بين البائعين والمشترين، لأن الاحتكامَ للموازين المتعارف عليها رفَعَ كُل الإشكالات، وأنْهَى كُلَّ المماحَكَاتِ والتشكُّكَاتِ.
لكن الشَّأْن في موازين الأفكار والقِيم ليس كالشأن في موازين الموادِّ المستهلكة والسِّلَع المتداولة، ولذلك كان الاضطرابُ البشريُّ فيها أشَدَّ وأكْثر انزلاقا وانحرافاً وحَيْدَةًعن الصراط السّوِيّ الذي لا يميل المَيْلة الكُبرى ذاتَ اليمين أو ذات اليسار.
ولهذا الضُّعْف البشري في إيجاد وضبط الموازين الفكرية والمعنوية والخُلقية أو القيميّة، وللضُّعف البشري أيضاً في الانضباط لها ومعَها كان لابُدَّ منْ تَلقِّي الموازين من عند العالِم الكامِل العادِلِ الذي يعْلم عِلْماً يقينيّاً مصلحةَ الإنسان في الحال والمآل لأنه هو الذي صوَّره وخلَقه وخلقَ فطرتَه وصنَع مُيُولَه وطموحاته، ولأنه -أيضا- هو الذي سيرجع إليه الإنسانُ في النهاية ليُقَدِّم الحِسابَ بَيْن يَدَيْه بدون وسيط ولا شفيع مُجرَّداً من كُلِّ القِيم المادية والدُّنيويّة التي يعتزّ بها -عادة- المغرورون في الحياة الدنيا الغابرة.
للعجز البشري عن إيجاد الموازين الحق، وضبطها ضَبْطاً تاماً يناسِبُ كُلَّ عَصْرٍ ومِصْرٍ، وللعجز البشري عن الانضباط مَعَها انضباطاً ماديّاً وروحيا وشعوريا بدون الشعور بالرقابة العليا المحيطة بالإنسان من كل جوانبه.. كانت رحْمةُ الله المتمثِّلةُ في :
< إنزالِ منْهَج السّيْر للإنسان في الحياة الدّنيا ببصيرة مُنَورة تكشف الحُفَر والمخاطِر والمزالق.
< وفي إنزال الميزان الذي به يُقَوِّم ذلك السّىْر، أي هل الإنسان سائر في وسط الصراط، أمْ يميل قليلا أو كلياً جهة اليمين أو جهة الشمال، فيُنَبَّهُ فقط، أو لا بُدّ من الرّدْع والتأديب للرجوع للوسط..
وهذا هو ما تضمَّنه قول الله تعالى : {لَقَد أرْسَلْنَا رُسُلَنا بالبَيِّنَاتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بالقِسْط}(الحديد : 24).
فالآية تبيّن بوضوح :
> أن الإنسان عاجِزٌ -باستقلال عن هداية الله -عن صُنْع منْهَج راشد للسير في الحياة الدنيوية يكفل له الحياة الكريمة في الدنيا والفوز في الآخرة، ولذلك تداركه الله بلطفه ورحمته وأرسل له الرسل معَهم الكتابُ المحتوي على منهج السَّيْر الراشد، وكَلَّف سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل بتفهيمه وتفقيهه وتعليمه وتدريبه عمليا على ممارسة السَّيْر الرشيد في كافة المجالات حتى يبلغ أشدَّه في العلم، والعمل، في العزْم والطموح، في القُدرة على حُسْنِ الاختيار للغد السعيد.
> كما تبيّن الآية بوضوح أن الإنسان عاجز باستقلال -أيضا- عن صُنع الموازين المقوّمة للسير، وعن تقدير المكافأة عليها في الدنيا والآخرة.
بين ميزان الناس وميزان رب الناس :
ميزان الإنسان من قديم الزمان مادِّي محسوس يخْدَعُ الإنسان ويملأ نفسه غروراً وتكبّراً، ويدْفعه إلى الطغيان والتسلط على البلاد والعباد بدون حق، ويتلخص في امتلاك القوة البشرية والاقتصادية، سواء كانت على شكل أبناءٍ وعبيد، أو على شكل أتباعٍ حزبيين أو عشائريين، وسواء كانت القوة الاقتصادية على شكل إقطاعيات أو ضيعات أو مؤسسات تجارية وفلاحية، أو على شكل مليشيات، فهذا فرعون مصر يقول : {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي من تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُون}(الزخرف : 51). وهذا واحِدٌ من المغرورين بدون اسم ولا عنوان يقول للفقير {أنَا أكْثَرُ مِنْكَ مالاً وأعزّ نفرا}(الكهف :34).
أمّا الطغيان فيتمثل في :
1) الاستبداد بالتوجيه السياسي والفكري والمالي، واحتكار كُلِّ الثروات والمجهودات {ما أُرِيكُم إلاّ ما أرَى ومَا أهْدِيكُم إلا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(غافر :29).
2) مُصادرةُ كُلِّ رأي إصلاحي كيفما كان {لَئِنْ لمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لتَكُونَنَّ من المَرْجُومِينَ}(الشعراء :116)، {ولوْلاَ رَهْطُكَ لرَجَمْنَاكَ ومَا أنْتَ عَلَيْنَا بعَزِيز}(هود : 91).
3) التعالي فوْق القانون والمؤاخذة والمساءلة : وقالوا : {نَحْن أكْثَرُ أمْوالاً وأَوْلاَداً ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين}(سبإ :35)، وهذا النظام الدولي القديم والجديد يخضع لنظام حقِّ القوة المتحكم في الضعفاء أما الكبار فهم فوق القانون، وفوق المساءلة من أغلبية الدول الضعيفة التي لا حق لها في امتلاك القوة التي تحمي بها نفسها، ولا حق لها في مقاومة المحتل الغاصب.
4) التكبُّر على الله تعالى والكفران بنعمته {قَالَ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُون}(الأعراف : 75).
أما الميزان الرباني فيتجه إلى المعاني وأعمال القلب من صِدْق وإخلاص، أو غش وخداع، ومن إيمان بالله تعالى وطاعة وامتثال، أو كفران به ومجاهرته بالمعصية والفسوق، وإذا كان الإنسان الطاغي يستطيع بما يملك من سلطاتٍ مادية أن يتحكم في جَسَدِ الإنسان وجوارحه وثرواته، فإنه لا يَسْتَطيع أبداً أن يتحكم في مشاعر الإنسان وعواطفه ومُضْمَراته الكامنة في قلبه، ولهذا كان خطابُ الله تعالى مُتَّجها إلى قلب الإنسان الذي لا سلطان لأحد عليه، ونظرُه سُبحانه وتعالى إلى ما يختزنه قلْب الإنسان لا ما يقوله لِسَانُه في حالة الإكراه والإرغام، أو يعْمَلُه بدون إرَادَتِه، بل حتى الشيطان الذي يوسوس في القلب والنفس، لا سلطان له على قلب المومن وعَبْد الله الصادق {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الذِين آمَنُوا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون إنَّمَا سُلْطَانُه على الذِين يتَوَلَّوْنَهُ والذِينَ هُم به مُشْـــرِكُون} (النحل : 100)، {إنَّ عِبادِي ليْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكَفَى برَبِّكَ وكِيلاَ}(الإسراء : 65).
ليس في القلب ذكورة وأنوثة ولكن إسلامٌ وكفر :
إذا كان الذَّكَر بحكم طبيعته ووظيفته وعَمَله ونزعته الغريزية قد سيطر على الأنثى وكوّن معها أسرة تحمَّل فيها المسؤولية المطلقة، فإن الأنثى قد استجابتْ للذكر وسعِدتْ بالخضوع له بحُكْم فطرتها وطبيعتها ووظيفتها المختلفة عن وظيفة الذّكر والمحتاجة إلى الرعاية والعطف والحماية، وبذلك كان التكامُل والتجانس، ولم يكن -على مدى التاريخ الإنساني- تصادُمٌ إلا يَوْم أن تمَرَّدَتْ الأنثى على فِطرتها، وفرّطتْ في وظيفتها، وزاحَمَتْ الذَّكَر في ميادين عَمَلِه، ومجالاتِ كدْحِه بِدَعْوى أنَّها تُريد التّحرُّر من عبوديّته القوَاميّة التي كان يستحقُّها بحكم التزامه بالإنفاق عليها وتوفير كل لوازمها الضرورية والكمالية، فخرجت للعَمل لتوفير لُقْمة العيشِ لنفسها بأي وجه كان، وفي أي ميدان كان، فاضطرت إلى العمل في ميدان الفلاحة، والصناعة، والحِدادة، والكنْس والشطابة، والمقاولة والصيد، والجندية، والحراسة والسياحة، والتجارة.. كما اضطرّت إلى كَسْب لقْمتها ببيْع جَسَدِها وعِرْضها، فهَربتْ من قواميّة الذّكر الرّجُل لتسقُط في عبوديّة الذّكر النّذْلِ القابع في كل رُكْنٍ من أرْكان المؤسسات المالية والاجتماعية، وفي كُلّ زاوية من زوايا التعامُل المعيشي والتعليمي والثقافي والرياضي… والذي يريدُ من الأنثى أكْل الثمرة ونَبْذ النواة للدّوسِ بالأقْدام، لأن الأنثى أصبَحَتْ عُنوان الشّهوة الرخيصة، حيث أزالتْ عن نفسها عُنوان الشرف، وهيْبَة القداسَة مهْمَا سَمَتْ في المناصب، ومهْمَا كدَّسَتْ من الثروات، ومهما امتهنَتْ من المِهَن، فأُنْثَى بدون رجل مَطْمعُ كلِّ ذَكرٍ، ومحَطُّ كُلِّ نَزْعةٍ شيطانيّة في أبْهاء الشُّقق والقُصُور، أو في دهَالىز دور الطين والصفيح.
فالموازين البشرية تختلف بحسب اختلاف الرُّؤى والنظرات، فنِظْرة الذّكورة للأنوثة -في أي منصب كانت- ليست كنِظْرة الرجولة للمرأة المستقرِّ، والمرأة الأمومة، والمرأة الزوجة الودود الولود -أولا- وبعد ذلك لا يُهِمُّ أن تكون وزيرة أو أجيرة، أميرة أو راعية في الحقل والحصيد. لكن ميزان الله تعالى له نِظرة واحِدة، ولمكانٍ واحدٍ، هو القلْبُ، والميزان هو : الإيمان والكفر، فالله تعالى يزن قلب فرعون وقلب زوجته آسية بميزان واحد هو ميزان الكفر والإيمان، فكفر الذّكر الكافر أدخله النار، وإيمان الأنثى المومنة أدخلها الجنة، وكذلك الشأن في قلب أبي جهل وقلب سمية خياط رضي الله عنها، وكُفْر أبي لهب وزوجه أدخلهما النار معا، وإيمان الزبير بن العوام وزوجه أسماء بنت أبي بكر أدخلهما الجنة، وهكذا فقد تكون المرأة المومنة الراعية أكْرم على الله تعالى من الوزيرة الجاهلة بربها، أو المقاوِلة الطاغية بمالها، وقد يكون الرجل المومن العائل لزوجه وأولاده أكرمَ على الله تعالى من الحاكم الفاجر العابث بالأموال والأعراض.
لا علاقة للقوامة بمجرد الذكورة والأنوثة :
القوامة معناها : القيام بشؤون إدارة الأسرة بتعاوُن وتشارُكٍ مع كل أعضائها حَسَب اختصاصاتهم ومسؤولياتهم ومراكزهم في الأسرة، فهي رجولة ومسؤولية، وهي عناءٌ وتعَب وجُهْدٌ مُضْنٍ، لإنباتٍ أسْرة صالحة تعبد الله تعالى ولا تشركبه شيئا، وليستْ تاجاً شرفياًّ أو خِلْعةً ومِنْحةً ومكانةً تُمنح للرَّجُل جزَافاً ليستحقَّ لفظٍ الأفضليّة عند الله تعالى بسبب ذكورته فقط، ومن ثَمَّ تستحق المرأة خِلْعة الدُّونيّة والذّلِّيّةو مِنْحَةً الصّغار والشَّنار لا لشيء إلا لأنّها أنثى، مع أن الله تعالى الذي خلق الذّكر والأنثى أقْسَمَ بخالقهما بدون تمييز، فقال {واللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنّهارِ إذَا تَجَلَّى وما خَلَقَ الذَّكَر والأُنْثَى إنّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}(الليل : 3).
ولكن القوامة استحقّها الرجُل تقريراً للواقع الذي أوجَد الله تعالى عليه الرجل والمرأة فطرة وطبيعة ووظيفة ومشاعر وعواطف، والواقع يقول :
1) أن الرجُل هو الذي يبحث عن المستقر النفسي والجسمي والمنويّ، أي حتى الحيوانات المنويّة هي التي تلقّح بويضة الأنثى، فهي التي تسعى داخل الرحم بجد ودأب حتى تصل إلى البويضة فيَستقر واحِدٌ منها داخلها ويتغدى منها إلى أن يقع التلاحُم والاتحادُ والتفاعل حيْثُ ينتُجُ عن ذلك التفاعل تكوينُ النطفة التي تنتقل بالتدريج إلى أطوار الجنين المعروفة، وهذا ما أشار إليه قول الله تعالى {فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ}(الأنعام :98).
2) الذي يبحث عن السّكن والمستقر هو المسؤول عن توفير جميع أنواع الرعاية والحماية.
3) إذن قيمة الرجل بـ : الإيمان وحُسن الإنفاق والرعاية والحماية، وقيمة بالإيمان وحُسْن الاستجابة وحسن التربية وحسن التكامُل مع الشريك وهذا هو أساس التقرير الذي أقره الله تعالى، قائلا فيه {الرِّجَالُ قَوَّامُون على النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ علَى بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِن أموَالِهِم}(النساء : 34)، فتفضيل الله الرجل بقوة الرعاية والحماية وتفضيل الله تعالى النساء بقوة الحنان والعاطفة، لا دخل فيه لأحَدٍ، أما تقرير الإنفاق فذلك مبنيٌّ على أهلية الرجل لكفاية المرأة متطلبات الحياة الكريمة التي تحتاجها المرأة لتكوين السَّكَن وتحقيق المستقر.
ذ.المفضل فلواتي