لم يكن من الممكن أن ندرس الأدب الحديث دون التطرق إلى الشاعر الراحل إلى رحمة الله محمد الحلوي, بل لم يكن من الممكن في دراساتنا للاتجاهات الأصيلة في الشعر المغربي تجاوز أشعار محمد الحلوي. فالراحل كان يمتلك معجما متينا, ينهل من التراث, وحساً موسيقياً متأصلاً في عمود الشعر وبحوره , تواصل به مع نماذج القصيدة الشعرية القديمة , سواء في الصياغة أو الأسلوب, من أمثال البحتري والشريف الرضي وابن زيدون, وكان يواكب بشعره الأحداث الوطنية والاجتماعية كما كان له وعي عميق بالقضايا الإسلامية والإنسانية, فلم تكن قصيدة من قصائده تخلو من معنى من معاني هذه الأحداث أوالقضايا, ولو كانت جانحة نحو غرض المدح .
و تفتحت قريحة الشاعر في فضاء كان المغرب فيه يتطلع إلى الحرية والتحرر من كل أشكال الاستعمار, ويناضل من أجل ذلك, فانطبع شعره بالنضال كغيره من المعاصرين له كعلال الفاسي والمختار السوسي وإبراهيم الإلغي وعبد الكريم بن ثابت وغيرهم ممن شغلت مفاهيم النضال والتحرر شعرهم , وامتلكت مشاعرهم , فأخلصوا لها فيما أبدعوه من فنون القول, رغم الاختلاف البين بينهم في طرق الأداء الشعري. وقد ظل الحلوي رحمه الله في شعره مخلصا للحرية, يعانقها في كل الأغراض التي ينسج فيها, وأصبحت عنده قضية أساسية من قضايا الإنسانية. ويمكن أن نقع على نماذج عدة سواء في شعره الوطني أو الاجتماعي أو المديح النبوي أو في غيره, يصور لنا فيها مجموعة من الأحداث والقضايا التي شغلته, إلى درجة اعتبارها تأريخا لمآسي اجتماعية, وتحفيزا على وضع المتلقي في قلبها بصورة مباشرة. يقول مثلا بنبرة خطابية متميزة تجد صدى معانيها فيما نسجه شوقي وحافظ إبراهيم من شعراء المشرق يصف أنماطا من المعذبين في الأرض:
مَن هؤلاء يلفهم جنح الدجى
غرثى عرايا فوق أرصفة الدروب؟
جثثا هزيلات على بسط التـــراب
تئن من فرط التعاسة واللغوب
لا نار مدفأة تخفف نارهــا
من زمهرير البرد في تلك القلوب
ألقى عليها الليل أسدال الظــلا
فأغمضت أجفانهـا قبل الغروب
الثلج يلحفها غطـاء مرعشا
والأرض تفتك بالمفاصل والجنوب
والجوع موت مبطئ يمشي بهـا
للقبر أشباحـا تشيعها الكروب
وفي الشتاء وليس فوق عظامهـم
إلا قصاصات مهلهلة الثقوب
إن إثارة مثل هذه المواضيع بهذا الجلاء والوضوح قلما نجدها عند المعاصرين من الشعراء. وربما كان لوظيفة الشعر عنده التي لا تخرج عن إطار الدعوة إلى التحرر والتغيير دور مهم في تشبثه بأسلوبه الوصفي الخطابي , يقول في قصيدة ماسح الأحذية:
أيها الراكع المكب على الأقدام
في وقدة من الرمضاء
ينقل الخطو بين مختلف الأرجل
في ذلـة وفي إقعـاء
مفرغا جهده يلمع بالأصباغ
ما اربد من سواد الحذاء
يمنح الحسن والشباب لأقدام
ورجلاه في الوجى والحفاء
وهذه الصورة القاتمة لشريحة من شرائح المجتمع تركز على تفاصيل تثير المتلقي, وتخرجها عن مألوفيتها التي تعودنا عليها, لتبرز بشاعتها وانسحاق أفرادها تحت وطأة قسوة المجتمع وعدم تكافله.
وكثيرا ما أتاح الشاعر لتاريخنا الجهادي فرصة الامتداد إلى الأجيال المعاصرة لتعيشه في لوحات شعرية تصويرية, تبرز قوة إيمان أجدادنا ممن ثاروا على العبودية والاستعمار, وتعبر عن بعض مواقفهم وشجاعتهم, يقول الشاعر على لسان المجاهد ابن عبد الكريم الخطابي متيقنا من النصر في معركة أنوال الشهيرة :
يقينا بأننا سننتصر
وإن حشر الخصم ما حشروا
فما انهزم الجند من قلة
ولا فاز بالنصر من كثـروا
ويقول أيضا على لسان ابن عبد الكريم بعد النصر في معركة أنوال :
الحمد لله الذي لم ياتني أجلـي
حتى رأيت لواء النصر خفاقــا
وسطّر الريف في التاريخ ملحمة
هزت بني العرب إعجابا وإشفاقا
ونامل النصر فيباقي معاركنا
حتى نرى شعبنا المغور عملاقا
يسير بين شعوب الأرض منتصبا
للمجد والعلم تواقا وسباقـا
ويقول معبرا عن استهانة العدو بحرب المسلمين :
تخيّل حربنا نزهات صيد
ورقصات على وقع الطبول
لكن المجاهدين أثبتوا صمودهم وقدرتهم على النصر:
فكانت مأتما في كل بيت
وشغلا شاغلا كل العقول
إن الشاعر يكشف في مجمل شعره عن وعيه وتمثله لفعالية الكلمة الطيبة, يطمح للتحريض نحو التغيير والتحرر, ويتخذ من أحزان الوطن وآماله وقضاياه مركز اهتمامه, ولا يتوانى عن ربط كل تغيير وتقدم باستعادة القيم الإسلامية وجعلها سائدة في المجتمع.يقول مصورا قيم الدين الإسلامي في غرض المديح النبوي :
أطل والعرب حيرى في ضلالتها
عشواء سادرة في مرتع البهـم
فقادها بهدى القرآن طائعة
وصاغها أمة من أوسط الأمـم
دعا إلى الله في صبر وفي جلد
وناضل الشرك في حزم بلا حُزُم
وصاغها أمة كبرى فدكّ بها
معالم البغي والبغضاء والنقـم
قد تكون هذه الوقفة استعجالية لشعره فرضتها الرغبة في المشاركة في تذكر الشاعر وتكريمه بعد أن لم نتمكن من إشراكه حيا في هذا التكريم, لأننا تعودنا ألا نلتفت لمبدعينا ولعلمائنا وأدبائنا إلا بعد أن يرحلوا عنا, (هذا إذا وصل إلينا خبر رحيلهم الصامت) فنشيعهم بكلمات عابرة, تكون شاهدة على بشاعتنا, ولنحاول أن نقنع أنفسنا أننا أدينا واجبنا تجاههم, وما أبعد ذلك, وعشرات منهم يئنون في صمت تحت وطأة المرض والفقر والتهميش والنسيان, ومع ذلك قد تأتي أجيال تدرك أن الحلوي وغيره من المبدعين الذين فُرضت عليهم أنانية المجتمع ولا مبالاته أنهم قد تحدوا النسيان وتغلبوا عليه بما تركوه من كلمات طيبة قد تكون مقدمة للفعل التغييري, وإرهاصا لتنوير الشباب اللاهث وراء العبث والغثاء.