الله تعالى عندما قال : {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتجْعَلُونَ لَهُ أنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِين وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِها وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّر فِيهَا أقْوَاتَهَا فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاءً للِسَّائِلِينَ}(فصلت : 8، 9) أخبرنا أنه سبحانه وتعالى وحْده خَلَق الأرض مُبَاركاً فيها مقدراً فيها جميع ما يحتاجُه كُلُّ مخلوق إنْساناً كان أو حيواناً مِنْ قُوتٍ يكفيه حاجَتَه، ويقْطَعُ عُذْره في التمرُّدِ على طاعتِه وفْق قانونه الأزلي الذي قضى بعبوديّة كُل المخلوقات لخالقها طوعاً واختياراً، أو قهراً واضْطِراراً.
وإذا كان لا مشكلة مع الجماد والحيوان فالكُلُّ خضع لأمر ربه، فالمشكلة مع الإنسان الذي أخبره الله تعالى أنه خلق كُلّ شيء وسخّره لَهُ، وخلَقَهُهو لغايَة واحِدَة هِي عبادة الله تعالى وحْدَه باتباعِ شرعه ليستمر الكون كُلُّه مسخّراً له، وإلا انقلبَ حرْباً عليه، ودماراً له.
وكم تضمّن القرآن من آيات تُذكِّرُ الإنسان بنعمة التسْخير ليقوم بواجب التفكير الذي يقود إلى طاعة الله تعالى عن حُبٍّ ورضًى واختيار لأحْسَن مصير، من ذلك :
أ- {هُوَ الذِي خَلَقَ لكُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاَ}(البقرة : 20).
ب- {وسَخَّر لَكُم ما فِي السّمَاوَاتِ ومَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}(الجاثية : 13).
جـ- {والأنْعَامَ خَلَقَها لكُمْ}(النحل).
د- {والأرْضَ بعد ذلك دَحَاهَا أخْرَجَ مِنْها مَاءَهَا ومَرْعَاهَا والجِبَالَ أرْسَاهَا مَتاعاً لكُمْ ولأَنْعَامِكُم}(النازعات).
هـ- {الذِي جَعَلَ لكُمُ الأرْض فِرَاشاً وأنزَلَ مِن السّمَاءِ مَاءً فأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لكُم فَلاَ تَجْعَلُوا للّهِ أنْداداً وأنْتُمْ تَعْلَمُون}(البقرة).
إلى غير ذلك من الآيات التي تُقيم الحجَّة على الإنسان بأنه لا عُذْر له إذا تخلَّى عن عبادة الرحمان التي هي وظيفته الأساسية التي من أجْلها خُلِق، ولمْ يخْلَق لغَيرها، فإذا ما اشتغل بغيرها مُهْمِلاً لها، أو ناسياً إياها تماماً كَانَ -في الحقيقة- ناسياً مصلَحة نفسه، لأن عبادة ربه هي مصلحتُه الحقيقية، أو هي ضمَانُ مصلحته الحقيقية، في الدنيا والأخرى، أمّا الله عز وجل فهو غني عن العالمين، لا تنفعُه عبادتنا، ولا تضره معْصِيَتُنا ولهذا قال تعالى : {ولاَ تَكُونُوا كالذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأنْسَاهُمْ أنْفُسَهُم أُولَئِك همُ الفَاسِقُون}(الحشر : 18).
فمن اشتغل بجمْع الأموال لهوًى في نفسه ناسياً ربّ المال والدنيا والدين كان ناسياً نفسه.
ومن اشتغل بهمِّ الزوجة والأولاد ناسياً ربّ الزوجة وواهِب الأولاد كان ناسيا نفسه.
ومن اشتغل بالتنظيرات العلمانية المستهزئةبالدين كان ناسياً نفسه.
ومن هذا القَبيل نجد أن قوْمَنا كلما حَلَّت ذكرى صُدُور وثيقة حقوق الإنسان التي صَدَرت في 10 دجنبر 1948 إلا واشتغل الناس بها، وهَلَّلُوا لها كأنها فتْحٌ جديدٌ في تاريخ المسلمين، مع أن الفتح الحقيقي في حياة المسلمين بدأ يوم نزل قول الله تعالى : {اقْرَأ باسْمِ ربِّك الذِي خلق} حيث وجهت الآية الأولى الإنسان إلى وظيفته مع تكفُّل الله تعالى له بجميع مقوّمات حياته وما بعد مماته، تكفَّلَ له بالرزق والإطعام من الجوع وتكفل له بالتعليم والتفهيم والتفقيه والإنقاذِ من كُلِّ جَهْلٍ يُفسده ويُرْديه، وتكَفَّل له بإنزال التشريع المنير الذي يهْديه في مسيرة حياته من كُلّ تخبُّطٍ يُشقيه ويُنْسيه مصالحه العُليا.
فلماذا هذا التقليد، وهذا التهليل لوثيقة كلُّ بنودِها تستهدف انتزاع حُقوق الصغار من الظَّلَمَة الكبار، مع أن الله تعالى ما أنزل الكتُب ولا أرسل الرُّسُل إلا لتحقيق العَدلِ الشامل بين الناس {لََقَد أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وأنْزَلْنَا مَعَهُم الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بالقِسْطِ}(الحديد).
أي أن المسملين ليْسوا في حاجة إلى الاحتفال بهذه الوثيقة، لأن وثيقة القرآن العظيم التي أكرمهم الله تعالى بها هي أوْسَع، وأشمل وأرحَمُ وأدقُّ من هذه الوثيقة البشرية التي وضعَها الكبار للصِّغَار ليُلْهُوهم بها، ويخدعوهم ببريقها في الوقت الذي يعْتبر الكبارُ -الذين أصدروها- أنفسَهُمْ أنهم فَوْق الوثيقة، وفوْق القانون، وفوق الناس، بل وفوق الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- لأنهم لا يعرفون الله تعالى، ولا يعترفون بقوته، أو شرعه، أو حسابه، فكيف يُقلَّدُ هؤلاء؟! وهُمْ أولُ منْ ينْقُض بنودَ هذه الوثيقة؟!
وكيف يُعتَبر هؤلاء نماذجَ للإنْصاف وظلمُهم طبّق الآفاق سواء في سراييفو، أو الشيشان، أو أذريبجان، أوالسودان، أو زنجبار، أو الصومال، أو أفغانستان، أو فلسطين، أو العراق؟!
وكيف يحتفل المسلمون بوثيقة لا ضمان لتطبيقها ويتركون بنود القرآن التي تَكَفَّل الله عز وجل بحمايتها وعقوبةِ مَن انتهكها في الدنيا والأخرى، لأنها صادرة عن الله عز وجل الذي لا يظلم مثقال ذرة أولا، وهو الذي تكفل بحماية المظلومين ثانيا، حتى إنه سبحانه وتعالى لم يجعَلْ بينه وبين دعوة المظلومين أيّ حجاب، وهل هناك تهديد لمصير الظالمين أكثر من هذا التهديد الذي تضمَّنه قول الله تعالى : {ولاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عمَّا يْعْمَلُ الظّالِمُون إنَّما يُوَخِّرُهُم ليَوْم تَشْخَصُ فيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ..}(ابراهيم).
وهل يوجد عِقاب معنوي أحَدُّ من عقاب المقاطعةِ الشاملة للظالمين حتّى يصبحوا كالمجذُوم الذي يفرُّ منهكُلُّ الناسِ، هذا العقاب شرعه الله تعالى في قوله : {ولا تَرْكَنُوا إِلَى الذِينَ ظَلَمُوا فتَمَسَّكُم النّارُ ومَا لَكُمْ مِن دُونِ اللَّهِ من أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُون}(هود). آية صريحة في النهْي عن مُخالطة الظالمين، أو مصادقتهم، أو موادَّتهم، أو الاعتماد عليهم والانتصار بهم، فالهزيمة مصيرُ من ارتكَنَ إليهم وتظاهَرَ بهم في الدنيا، والنارُ مأْوَى مَنْ مَدَّ إليهم أيّ نوْع من أنواع المساعدة على ظلمهم وتجبُّرهم.
أليس تهليلُنا لوثيقة -لا مصداقية لها- هو نوعاً من النفاق الخبيث، ونوعاً من التنازُل المُهين عنْ أكْرَم رسالة أُؤْتمِنَتْ عليها الأمة الإسلامية هي رسالة نشر الحق والعدل بين الناس؟! فكيف وصلنا إلى هذا المستوى الهابط من التبعية الفكرية والثقافية كأننا بدون رصيد مرجعي أصيل؟! مع أن نبيّنا محمداً أنارَ لنا طريق التعايُش العلمي والفكري والثقافي والسلوكي بقوله : >لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُون : إن أحْسنَ النّاس أحْسَنّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنا، ولكِنْ وَطِّنُوا أنْفُسَكُم إن أحْسَن الناسُ أنْ تُحْسِنُوا وإنْ أَسَاءُوا فلا تظْلِمُوا<(رواه الترمذي).
فلماذا لا يتخذ المسلمون هذه المناسبة وغيرها فرصة لمعرفة حقوق الله تعالى علينا؟! أي ماذا طلبَ الله منا أن نفعله بدون تساؤل ولا مراجعة ولا مناقشة؟! وماذا طلب منا أن نتركه بدون تردُّدٍ؟! لو فعلنا ذلك لكان أجْدَى علينا، فهل يُمكِنُ أن يُوجَد مسوِّغ للسماح بممارسة الزنا، والقمار، والسرقة، والكذب، والغش، والظلم بجميع أنواعه؟!، والله نَهى عنه وتوعَّد عليه؟!
لو قمنا بأداءِ حقوق الله علينا لوجدنا الله عز وجل -الذي كتب على نفسه الرحمة- رحيما بنا في كل شيء، كريماً معنا في كل شيء، لطيفاً بنا في كل شيء، ولوجَدْناه -سبحانه وتعالى- كافيَنا هموم الدنيا والأخرى، وهموم الأعداءوالأصدقاء {أَلَيْسَ اللَّهُ بكافٍ عَبْدَه}(الزمر).
فلماذا لا نتخذ سيدنا إبراهيم عليه السلام قُدوة لنا في أداء واجب العبودية لمن تكفل لنا بجميع حقوقنا؟! {واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ إبْراهِيم إذْ قالَ لأَبِيهِ وقوْمِه ما تعْبُدُون؟! قَالُوا نَعْبُدُ أصناماً فنَظَلُّ لَها عَاكِفِين قالَ : هَلْ يَسْمعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ أو ينْفَعُونَكُمْ أو يَضُرُّونَ. قالُوا : بلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذلِك يفْعَلُون قال : أفَرايْتُم ما تَعْبُدونَ أنْتُم وآبَاؤُكُمْ الأقْدَمُون فإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاّ رَبَّ العَالَمِين الذِي خَلَقَني فهُو يهْدِين والذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِين وإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين والذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ والذِي أطْمَعُ أنْ يغْفِرَ لِي خَطِيئتِي يومَ الدِّين}(الشعراء).
بل نجد الحديث النبوي صريحا في تحديد حقوق الله على عباده : قال لمعاذ : >هلْ تَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟!< قلت: الله ورسوله أعلم، قال : >فإنّ حقّ الله على العباد أن يَعْبُدُوا اللّه ولا يُشركُوا بهِ شيئا، وحقُّ العبادِ على اللَّهِ عز وجل ألاَّ يُعَذِّبَ من لا يُشْركُ بِه شيئاً<(رواه الشيخان والترمذي). وعلى رأس العبادات : ترك المنكرات المهلكات، وعلى رأس الشرك : حُبُّ الدنيا المسخرة -أصلا للإنسان بدون إضراب أواحتجاج، أو اعتصام- فوْقَ حُبّ ربِّ الدنيا والدين، لأن طريق الكرامة للإنسان -في المنهج الإسلامي- تمُرُّ عبر الاهتمام بالآخرة، فمن اهتم بِهَا كفاه الله عز وجل همَّ الدنيا والآخرة فهل يعقل الغافلون هذا ويضعون محطاتٍ للاحتفال بحقوق الله تعالى ليُنعم علينا بالمزيد من النعم الشاملة؟!.