3- من أوراق مليونيرة مفلسة!


الحياة كالأرض، ليست منبسطة تماما، فتمة جبال وهضاب وسهول وحفر… ولكل فارس كبوة.. وفوارسنا نساء، انطلقن من كبواتهن مؤمنات صابرات محتسبات.. قاسمهن المشترك : {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}(الطلاق).

قصصهن الواقعية عبرة، ومبعث أمل وتفاؤل ونجاح.. ألم يعدنا الذي لا يخلف الميعاد أن يجعل للمتقين مخرجاً، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون؟!

3- من أوراق مليونيرة مفلسة!

أغرقتني الدنيا في يم متعها، ولم تزدد نفسي إلا ظمأ وجشعا…ألهث وراء الموضة والسهرات والأكل والرحلات والاستهلاك والتفاخر بكل ماهو جديد وغال!

أعلو في سلم المال والغنى، ويعلو غروري ، وتعلو علاقاتي مع عِلِّيَة القوم وأغناهم، فلا أنظر إلا إلى أعلى…وفجأة، سقطت من أعلى قمة “وَهْم” بنيتها بنفسي!

أفلس زوجي…حجز البنك والدائنون على كل ما يملك…شل من هول الصدمة…سحبت رصيدي كله من البنك لأسدد به بعضا من ديوننا، بعت أسهمي وسيارتي وحليتي، لئلا يسجن زوجي!

رجوت أصدقاءنا للوقوف إلى جانبنا، لكنهم رفضوا حتى استقبالي أو سماع صوتي عبر الهاتف…حضروا يوم المزاد العلني، ظننت أنهم سيشترون تحفنا المحدودة، لردها إلينا…لكنهم تنكروا لنا تماما، أهَانَتْ عليهم العشرة والصداقة؟! كل شيء يباع ويشترى حتى الصداقة والعلاقات الإنسانية؟!

خرجنا من البيت الراقي والحي، لا نحمل إلا بعض ملابسنا، التي بعتها فيما بعد…لجأت إلى صديق قديم، توسمت فيه الخير حين استقبلني…سأقترض منه بعض المال لأدبر أمري…استقبلني أحر استقبال، وأبدى استعداده لإعادتي إلى الثراء – كما كنت- بشرط…له شرط واحد فقط….هممت بالوقوف…فنصحني: ” أيعقل أن تضيعي شبابك وجمالك مع رجل مفلس مشلول؟! ”

خرجت على التو، وكرامتي تئن…لا والله، إن خسرت كل شيء، فلن أخسر نفسي،…الإفلاس المادي أهون من الإفلاس الخلقي!

اكتريت غرفة على السطح في حي شعبي…سحبت انتقال أبنائي من مدارسهم الخاصة إلى مدارس حكومية…شرحت لهم الوضع الجديد…قلت لهم أن رزقنا على الله الذي يرزق حتى أصغر المخلوقات، فما بالنا نحن؟!

بحثت عن عمل…عملت في كل الأعمال الشريفة: منظفة أوان في مطعم شعبي، خادمة في البيوت، بائعة خبز، وأخيرا في معمل للخياطة…

كنت أروح منهكة، فأقوم بواجباتي الأسرية من طبخ وتنظيف ومراجعة مع أبنائي والسهر على علاج زوجي…اخشوشنت يداي وأثقلت المسؤولية ظهري،..صار الطعام زهيدا، كيف كنت ألقي بثلاثة أرباع أشهى المأكل في القمامة؟! بل كيف كنت أعامل الخدم وقد صرت خادمة في البيوت؟! وكيف كنا لا نرتدي إلا أغلى الملابس وأفخرها، فأصبحنا لا نلبس إلا ملابس بالية من الخردة؟! وكيف كنت لا أعرف كلمة (فقر)، ولم أعاشر الفقراء، ولم أحس لحظة بمعاناتهم؟! وكيف كنت متكبرة ولم أحن جبهتي لأسجد للمتعالي المتكبر؟! حرقة الأسئلة تتأجج بداخلي، فتحرقني دموعي ندما على ماضي وتفريطي في نفسي و في أسرتي وفي رزق الله وماله الذي لم نحسن التصرف فيه، فكنا متكبرين طاغين مبذرين غافلين…فلا زكاة ولا صدقة ولا شكر على النعمة!

استوعبت الدرس جيدا، وقررت ألا أحزن على ذلك الماضي، وأن أحافظ على أسرتي، وأجتهد وأضحي من أجل مستقبلها.

أصبح أبنائي متعاونين، وسعدت أكثر حين عرفوا حقيقة الحياة رغم قساوتها، كان الغنى قد بَدَّدَ الهوة والمسافات بيننا، كل يلهث وراء إرضاء أنانيته…كنت قد أوكلت أمر أبنائي إلى المربيات والأساتذة الخصوصيين…وها هو الفقر يقلص المسافات نفسها بيننا، لتتبدد نهائيا، فالغرفة الوحيدة تجمعنا، كما يجمعنا الصحن الوحيد والهم والحلم والأمل!

حتى الحي الذي نقطنه، بيوته متلاصقة، تسوده إنسانية عميقة رغم الفقر، ساكنوه بسطاء لا هم لهم إلا لقمة العيش، يسود بينهم التضامن والتآزر، يقتسموناللقمة والدمعة والبسمة!

أخرج جيراننا الطيبون زوجي من عزلته، منهم من تطوع للذهاب به إلى حصص الترويض الطبي في مستشفى عمومي، ومنهم من يصحبه إلى المسجد، ومنهم من يفسحه…فتماثل للشفاء، وخرج من أزمته النفسية، وعاد يمشي على رجليه ببطء دون كرسي متحرك!

هاهو الصبح ينبلج من بين ظلمة الليل الحالك…تعلم ابني الأكبر حرفة في معهد للتكوين المهني، عمل كثيرا لمساعدتنا، وأخيرا، فتح مشروعا صغيرا له، وأخذ والده للإشراف عليه، نما المشروع وأصبح يشغل بعض أبناء الجيران….

اقتنيت آلة للخياطة، وأصبحت أخيط الملابس للجيران في وقت فراغي…التحق ابني الثاني لمساعدة أخيه في مشروعه،…اشترينا بيتا سفليا بنفس الحي…تطوعت في جمعية لمحو الأمية، لأشكر الله عزوجل، على نعمه الكثيرة، وعلى يسره بعد العسر…

أذكر أبنائي دائما بتقوى الله عزوجل، وبأداء حق المال من زكاة وصدقة، وحمد الله وشكره كل حين،و ألا يقربوا الربا، إنه السم المدسوس في العسل….يبتلينا الله عزوجل بالغنى وبالفقر ليمحصنا، وله حكمة بالغة في ذلك!

فلا تغرننا الحياة الدنيا ببهرجها الزائف، فدوام الحال من المحال…ولا نتعدى حدود الله بدعوى الفقر، إنما ذلك الشيطان يخيفنا ويمنينا ويزين لنا الفواحش…فسبحان الذي وفى بوعده، ورزقني من حيث لم أحتسب!

ذة.نبيلة عزوزي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>