في لحظة انهار الأمل وأصبح (غريب) مثقلا بأطنان من الأحلام المؤجلة، أحلام الشباب والانطلاق، أحلام المراهقة والبطولات والحب الوردي، بل حتى الضحكة توارت خلف الابتسامة الصفراء لتتأجل كأحلام الطفولة المكبوتة، الطفولة التي لعب فيها صديقنا دور الرجولة، كان لزاما عليه أن يتظاهر أمام الوالد بأنه لا يعبأ بالألعاب كباقي الأطفال ولا حتى بالحلوى المعروضة أمام أبواب المدارس،
“كل هذه كماليات ينبغي الاستغناء عنها كي لا تثقل ظهر والدك، يكفي أنه يتقاتل لجلب لوازم المدرسة، وإذا حدث أن طلبت أشياء تافهة قد يقعدك من المدرسة ويدفعك للنجارة”.
هذا أول درس قدمته له الوالدة قبل أن يتعلم حرف الألف، والتلميذ النجيب يحفظ الدرس ويعمل به.
تعالت الأمواج فارتطمت بالقارب، أحدثت صوتا أعاد (غريب) عشرين سنة إلى الوراء، قهقه من فرط الضحك الممزوج بالأسى وهو يتذكر تلك الصفعةالقوية التي مَنَّ بها عليه والده، صفعة وإن طال الأمد لن ينمحي صوتها الذي لازال يدوي في أذنه “كيف أمكن لوالدي أن يصفعني، فقط لأني ركبت دراجة ابن صاحب العمارة، الطفل المدلل الذي وفر له والده كل أنواع الرفاهية، بالإضافة إلى الرصيد البنكي الذي ينمو معه كل شهر ناهيك عن كرسي الوظيفة المحجوز له وهو في بطن أمه، صفعة غاب عني معناها في تلك اللحظة ليحظر الآن ومعه عمق المرارة التي سرت في دماء والدي أمام عجزه عن اقتناء لعبة كتلك، وكيف عبر عن ذلك العجز بالصفعة المدوية”.
اغرورقت عينا غريب بالدموع إلا أنه سرعان ما جففها كي لا يكون محط سخرية بين باقي المهاجرين الذين سيطر عليهم الرعب وهم يفرغون المياه التي هاجمت المركب، التفت إليه أحد الجالسين بقربه وسأله ما إذا كان قد تسرب إليه الخوف، الخوف.. من ماذا؟ .. رد غريب في نفسه، أو بالأحرى على ماذا؟ ما الذي يمكن أن يخيفني أكثر منهذا المستقبل المظلم، هذا السرداب الطويل الذي خلق من دون نهاية، ما الذي يمكنني أن أخسره أغلى من أحلامي الموءودة وأيام شبابي التي تنسل مني، ليس سهوا إنما أمام عيناي، استوقفه صوت القائد : “أسيدي ارجع للجهة الأخرى باش المركب يشد التوازن”.
جلس غريب حيث أشار بائع الأحلام، وأطلق العنان لمقلتيه تتأملان جبال الأمواج المتلاطمة، فأحس بسكون رهيب، عاد بنظره إلى القارب المشحون بصيد البر أو القبر المتنقل كما يحلو له أن يسميه، أخذ يتفحص الوجوه ويحاول الغوص في نفسية كل مهاجر، ترى ما الذي حملهم على ركوب الموت مثلي ومن أين أتوا بالنقود التي تطلبتها المغامرة.
“أول حاجة تديرها هي تجمع فلوس الناس، راك عارف كيفاش حصلنا عليهم..”.
باعت الوالدة كل أثاث البيت في “الجوطية”، أما الأب الحنون فقد استدان مقدار أربع سنوات أعمال شاقة من صاحب العمارة التي يعمل بها بوابا، أربع سنوات لن ينال فيها راتبه الشهري الزهيد، “أحنا مستعدين نجوعو ونعراو المهم هو تكون تايق في هد الناس لي غادين يحركوك”.
لم يكن لدى غريب أية فكرة عن (الحريك) ولا حتى الرغبة في مغادرة تراب الوطن، لم تستهويه يوما السيارات التي تزدحم بها البلاد أثناء فصل الصيف مع دخول المهاجرين ولا اللهجة المتكسرة بين مغربية وأجنبية، بل كان يحلم بوظيفة مستقرة ولو بسلم مكسور يعيل منها عائلته.
صباح ذلك اليوم جلس في المقهى المعهودة ليرتشف فنجان القهوة ويحل الكلمات المتقاطعة، فوصل إلى سمعه حوار كان يدور بين شخصين من رواد المقهى حول شخص آخر بلغ الضفة عن طريق شبكة مختصة ومضمونة في التهجير، آنذاك التصقت الفكرة بمخيلة الغريب، ولم لا؟ لم لا أجرب حظي، فالحياة الهنية واللقمة الطرية تستحق المجازفة، شاركهما أطراف الحديث دون أن يبخلا عليه بالمعلومات. عششت الفكرة في ذهنه ولم يعد يرى من خلاص سوى الهجرة، لكن كيف سيقنع الوالدة بهذه المخاطرة؟ كيف سيجرؤ على مفاتحتها في الموضوع وهو يعلم أنه قرة عينها وسند إخوته وعكازة أبيه، فهو ليس ملكا لنفسه وما كان يوما كذلك لأنه الفرحة الأولى لوالديه.
“مع من تشاورت، ومن قال لك أني سأوافقك على الهجرة.. نسعا ونجيبلك ولا تمشي يكلك الحوت”.
يذكر جيدا المشادات والمناقشات الطويلة التي خرج منها منتصراً وذلك بعد إقناعهم بمدى سهولة الأمر وخلوه من المخاطر، حتى أنه اضطر للكذب على والديه وأخبرهما أنه سيهاجر بأوراق مزورة في سيارة إحدى العائلات. ولن يغيب أكثر من سنة سيعود عندها محملا بالفرج.
كان البحر هائجا والجو مضطربا فبدا الخوف جليا على كل المهاجرين، إلا أن القائد طمأنهم مخبرا إياهم بأن هذا الجو هو المطلوب لأنه يخفف خطر انكشافهم في البحر تحت ضوء القمر.
تعالت الأمواج من كل الجهات، فارتعدت الفرائص وخيمت هستيريا الذعر على الكل، غدا المركب أرجوحة تتقاذفه الأمواج أو كلعبة في يد طفل متسلط، أحس غريب بهلع شديد، لم يكن خوفا من الغرق بل شفقة على انكسار قلب أمه، غير أن الموجة الأخيرة كانت قد أخرست كل المشاعر.
نزهة قويقة