تعال نحب الجمال ..


لا شك أن قضية الجمال أصبحت تحتل المقام الأول في عقول وقلوب الشباب، ولعل الأمر يبدوطبيعيا وعاديا،بعد التغيرات التي تحصل في الجسم والفكر والروح في مراحل الشباب الأولى، إلا أن التركيز على الجمال الخارجي والجسدي لدى الإنسان المعاصر، يكاد يصبح هوسا وجنونا واستعبادا، إن لم يكن أصبح كذلك فعلا، بشكل يفتح المجال للقول إنه ردة حضارية مهولة لعصور عفا عنها الزمن.

ونعلم أن العرب قبل الإسلام كانوا يقدرون الجمال تقديرا كبيرا، لكنهم كانوا يرونه في الأشياء المادية الحسية، مثل جمال المرأة الجسدي والفرس والطلل وغير ذلك من المظاهر المادية، ويعبرون عنه ضمن مشاعر عاطفية لا تتجاوز الحس في أغلب الأحيان. ولما جاء الإسلام ارتقى الإحساس بالجمال وتعمق، حين زاوج بين جمال الظاهر والباطن، وتمثل في نصوص قرآنية وحديثية عدة، أبرزت قيمة الجمال، وأضفت عليه معاني ودلالات جديدة. وكل هذه النصوص تبرز أن الله تعالى مصدر كل جمال في هذا الكون، وكل ما في هذا الكون من حسن وجمال هومن الله تعالى الذي صنعه وحسّنه، فهوسبحانه {الذي أحسن كل شيء خلقه}، وأتقنه {صنع الله الذي أتقن كل شيء} . بل إن الجميل اسم من أسماء الله تعالى الحسنى وصفة من صفاته العلا. وحين نستقرئ كل الآيات القرآنية التي تعلقت بالجمال ومفرداته المرتبطة به، ندرك عمق الدلالات التي يحيل عليها الحديث الذي يرويه عبد الله بن مسعود عن الرسول  : >إن الله تعالى جميل يحب الجمال<، كما نشعر بمدى بعدنا عن هذه الدلالات التي لاشك في كونها كانت ستفتح لنا آفاقاً واسعة من السعادة والحب لوارتبطت بحياتنا وممارساتنا وعلاقاتنا، ولم نقنع بالجمال الظاهري، الذي غالبا ما اختصرناه في الجسد الأنثوي.

وأول ما يستوقفنا في مجال الجمال الإنساني في النصوص القرآنية قوله تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}(التين). {وصوركم فأحسن صوركم}(التغابن) {الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك}(الانفطار)، فمثل هذه الآيات تصب في التكوين الجسماني  كما تصب في التكوين الروحي، ولذلك كان التحسين والتسوية  والتقويم دليلاً على هذا التوازن الجمالي بين الروح والجسد.

أما الناظر في الآيات التي تبرز الجمال في الكون فإنه لاشك سيقف مشدوها أمام طبيعة وعمق هذا الجمال الذي نحاربه في كل حياتنا بوسائل مختلفة، ابتداء من رمي الأوساخ في الطرقات والأحياء، إلى إشاعة الشر والفاحشة والظلم وكل أنواع القبح، ونتأكد أننا أبعد الناس عن تذوق الجمال الذي هومن أعظم نعم الله،الأمر الذي يجعل الطباع خشنة وقاسية، والحياة فارغة من معانيها الجميلة التي بثها الله فيها للتمتع بها، يقول تعالى: {وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة}(النمل 60) ويقول في آية أخرى :{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}(ق :7- 8) . ولذلك نلاحظ أننا أينما مددنا أبصارنا نجد قبحا منتشرا، بشكل يجعلني أكاد أجزم باختلال علاقة الإنسان بالجمال في الحياة التي نعيشها، وبالتالي فقد الإنسان عنصرا مهما من مقومات الحياة الطيبة، وانهارت قيمة عليا من القيم التي تحكم العلاقة بين الإنسان والإنسان والأحياء والأشياء والكون كله. وهذا لا يعني أنني لا أتذوق الجمال الشكلي،أوأدعوإلى نبذه ورفضه،  فجمال الشكل مرغوب كما ذكره لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف عند اختيار الزوجة: >تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك<(متفق عليه)، وإنما الذي أعنيه هوالتشويه المهول للجمال، أواختصاره على أقل تقدير، والرغبة التي تدفعني في هذه اللحظات الحرجة التي تعيشها الأمة فيجميع الميادين ومختلف المستويات، إلى افتقاد التربية الجمالية التي تسموبمشاعرنا وعلاقاتنا إلى آفاق الحب والتسامح والعزة المؤدية إلى السعادة والخير، ليس للأمة وحدها، وإنما للبشرية جمعاء التي جفت مياه الجمال من أشكالها، وانغمست ونحن وراءها في مستنقعات من القبح، إلا من بصيص من الجمال الذي لا يروي الروح وإن شبع منه الجسد. وفقدان هذه التربية الجمالية هي التي تجعلنا  لا نكاد نحس حتى بجمال تديننا، ولنأخذ الصلاة كمثال، كم مصلٍّ منا يتذوق جمالها،جمال الشكل {خذوا زينتكم ..} مع جمال الاستقامة  وجلال الخشوع لله،  جمال انتظام أجسام المؤمنين في الصفوف إذا انتظمت مع جمال وحدة قلوبهم، وصفاء أرواحهم، عندما تسموفي معارجها إلى الله تعالى، كلما ركعت لله أوسجدت رغبة أورهبة، أومحبة وتذللا، أواستمعت إلى القرآن يتلى متدفقا في معانيه الراقية وأسلوبه الجمالي الآسر، الذي يفيض حسنا ويشعبهاء؟؟ ألسنا في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في مفهومنا للجمال وإلى تربية أذواقنا تربية جمالية مستمدة من القرآن الكريم تعيد لنا التوازن الذي نفتقده في حياتنا؟؟

دة.أم سلمى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>