الحياة كالأرض، ليست منبسطة تماما، فتمة جبال وهضاب وسهول وحفر… ولكل فارس كبوة.. وفوارسنا نساء، انطلقن من كبواتهن مؤمنات صابرات محتسبات.. قاسمهن المشترك : {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}(الطلاق).
قصصهن الواقعية عبرة، ومبعث أمل وتفاؤل ونجاح.. ألم يعدنا الذي لا يخلف الميعاد أن يجعل للمتقين مخرجاً، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون؟!
د
ذ
مجنونة حمقاء، لأزيد من ثلاثين سنة… لا أحد يصدقني! بحثت عنه، فلم أجد له أثراً، منذ زلزال أكادير1961، زلزال لم يهدم البنيان فحسب، بقدر ما هدمني الظلم، فقد زلزل كياني كله!
بعد هدوء الزلزال، وجدتني أحتضن رضيعي بين الركام بكل قوتي، وأنا أرضعه، دعوت الله حينها أن يقبض روحينا معا، أو يحيينا معا… كنت أرتدي الأبيض حِدادا على زوجي، لم يندمل جرح حزني عليه، حتى زلزل الظلم كياني، فامتدت جراحاتي العميقة كالأخاديد… ساومني أهل زوجي،… حاصروني بين خيارين : إما أن أتزوج حماي -أخا زوجي- أو أتخلى عن ابني وأتنازل عن حقيْنا في الإرث… رفضت مناوراتهم كلها، وتشبثت بحقي في حضانة طفلي، وبحقيْنا في الإرث!
كانت أخت زوجي على وشك الالتحاق بزوجها المهاجر بإحدى الدول الأوربية، لكن القدر شاء أن يقضي صغيرها الذي لم ير أباه بعد، بين الأنقاض لحظة الزلزال … انتشلوا مني ابني بالقوة… وتم كل شيء بسرعة، خطتهم محكمة لا هفوة فيها : دفنوا صغيرها تحت اسم ابني، وجاؤوني بشهادة وفاته… ومنحوها ابني واستبدلوا اسمه باسم ابنها!
قيدوني، ضربوني، حبسوني…. ساوموني مرة أخرى، كيف أبيع ابني وأمومتي بثمن بخس…. كيف أثكل ابني وهو حي؟؟ كيف أتحمل الثكل والترمل والظلم؟!
هددوني ألا أراه أبدا… توسلت إليهم، قبلت أقدامهم، تنازلت عن حقي وحقه في الإرث مقابل أمومتي وحضانتي له! لكن الصخر الصلد أرحم من قلوبهم!
بكيت بكاء حاراً حتى كدت أجن… كبلوني مرة أخرى، وأخذوني إلى مستشفى المجانين… ها قدْ جرّدوني من عقلي كما حرموني من ابني …. لا أحد يصدقني هنا، كلما شكوت مصيبتي على طبيب، ضاعف لي مقادير المهدئات، حتى أنهكتني، فلم أعد أعرف الليل من النهار، وإن كانت حياتي قد أصبحت ليلا حالكا، لكن رجائي في فالق الإصباح لم ينقطع!
كنت أعيش كل لحظة مع وحيدي، هاهو يبتسم…ويبكي..ويحبو….وينمو ….يدرس…..يعمل…. أبحث له عن عروس…. أزغرد…… يهرب مني الناس…… حمقاء….. مجنونة…. فأتقوقع في شرنقة حزني…. أحب الأطفال إلى حد الجنون…. أجلس أمام مدرسة، أحتضنهم، أحكي لهم الأحاجي وحكاياتي… كم أحبوني وأحببتهم! قبض علي مرة لاتهامي بمحاولة سرقة الأطفال، لكن أهل زوجي تدخلوا بدعوى أني مجنونة حسب الوثائق التي يحملونها! ابيضت عيناي حزنا من شدة البكاء، لم أفتر عن التضرع إلى الله عز وجل… اللهم يارب أعد إلي ابني كما أعدت سيدنا موسى إلى أمه، وسيدنا يوسف إلى أبويه… أنت وحدك تعلم أني على حق ولست مجنونة!
قبيل عطلة الصيف، كنت أترصد بيت أهل زوجي من بعيد، عرفت أن أخت زوجي ستزورهم رفقة ابني،… سأراه ولو من بعيد… لكنهم كانوا لي بالمرصاد ومكروا بي قبل أن أمكر بهم- ولو رؤية ابني من بعيد- هذه المرة، كبلوني وأخذوني بعيدا إلى ضريح لعلاج المجانين -حسب زعمهم- حيث كُبلت بالسلاسل، وضُربت لأصرع حسب طقوس العلاج، وأقسى ما فيه “الخلوة” وهي مطمورة كنت أودع فيها ليطبق ظلامها على ظلام حزني، فأبث شكواي لأنيسي، وأرجوه أن يصبرني، وأن يجمعني بابني في الجنة!
انفض من حولي الأهل والأحبة، مخافة أن يُعيَّروا بجنوني… لن أتشرد في الشارع، لن أستسلم… رحلت بعيدا، عملت لأعيل نفسي… كنت مربية أطفال لأسرة ميسورة، ونجحت في ذلك… كتمت أمري لئلا أحرم من رزقي… التحقت بمحو الأمية، تعلمت القراءة والكتابة، وساعدني الأطفال الذين ربيتهم… صار القرآن الكريم أنيسي وملاذي، كتبت رسائل كثيرة لابني …. لكن ، أين هو؟؟ وما عنوانه؟ كنت ألقيها إلى البحر، وأتوسل إلى الموج أن يحملها إليه، حتى ظنني الصيادون مجنونة!
تجرعت مرارتي ثلاثين سنة… سافرت حيث أهل زوجي، فعرفت أنهم يبحثون عني منذ مدة طويلة… ماتت أخت زوجي بعد مرض عضال، تركت وصية لي، أن أسامحها، وأن ألتقي ابني، فقد صارحَتْه بالحقيقة!
دخل علي حبيبي وقرة عيني… لم أصدق، أغمي علي… إنه شبيه والده… ظننت أني أحلم كعادتي… إنها الحقيقة… ما أكرمك وأرحمك ياألله!
تطاول البنيان بعد الزلزال، واستمرت الحياة، بعد أن ضمدت الجراح، لكن جرحي يظل غائرا بداخلي، وقد زلزل قلبي، بل زلزلت حياتي كلها…
أحتسب لله صبري، وأرشف حلاوته… الظلم ظلمات، لكنني عفوت عمن ظلمني… عشت ظلمة الحياة الدنيا، وأصبو إلى رحابة الآخرة، حيث وعدنا الله بجنة عرضها السماوات والأرض…!
أعاد الله إلي إبني، والأجمل أن الناس صدقوني، فأنا العاقلة، ولست مجنونة!!
ذة.نبيلة عزوزي