خُرافَةُ عَدْلِ الدولةِ الكافرة


قيل في تعريف العدل إنه : >وضْعُ كُلّ شيءٍ فِي موْضِعِه< ويقابله : >أن الظُّلْمَ وضْعُ الشّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِه< والتعريف بهذا المعنى يكاد يشبه >الحِكْمة< التي هي وضع كلّ شيء في موضعه المناسب له، ولا يستطيع أي واحِدٍ من المخلوقات أن يصل إلى حكمة الله تعالى الحكيم الذي يقول {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ ينْقَلِبِ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وهوَ حَسِيرٌ}(الملك : 3).

وإذا كان الله الحكيم الأكبر، فهو أيضاً الأعْدل الأحق، إذْ العَدْل الحقيقي يتعذَّر على أي مخلوق تحقيقُه مهْمَا بالغ في النزاهة والوَرَع لأن النَّقْصَ في العِلم بالأحْوَالِ الخفية والظروف الدقيقة يصحبه نقصٌ في كمال العَدْلِ، أما عَدلُ الله تعالى فهُوَ مبنيٌّ على كمال علمه الذي أحاط بكل شيء علماً.

فالعَدْل إذَنْ، عندما يُنسَب للإنسان يكون عَدْلاً نِسبيّاً وليس عَدْلا كاملاً، أي تكون تصرُّفاتُه أشْبَهَ بالعَدْل غالبا وأقْربَ إليه، وتلك هي الطريقة المُثْلَى التي في مُكْنَةِ الإنسان الجَادِّ في تحقيق العَدْل سواءٌ في العلاقة بينَهُ وبين ربِّهِ، أو في العلاقة بينه وبين نفسه، أو في العلاقة بينه وبين الخلق مُطْلقاً.

قال ابن العربي في أحكام القرآن الجزء الثالث صفحة 153 :

>العَدْلُ بيْن العَبْدِ وبين ربه : إِيثَارُ حَقِّهِ تعالى والامتثالُ للأوامِر وأمّا العَدْلُ بيْنَهُ وبَيْن نَفْسِه : فمَنْعُها مِمّا فِيه هَلاَكُهَا، قال تعالى {ونهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى} وأمّا العَدْلُ بَيْنَهُ وبَيْن الخَلْقِ : فبَذْلُ النَّصِيحَةِ، وترْكُ الخِيَانَةِ فِيما قَلَّ وكَثُر، والإنْصَافُ مِن نَفْسِك لهُمْ بكلِّ وجْه، ولا يكُون مِنْك إسَاءَةٌ إلى أحدٍبقَوْل ولا فِعْلٍ، لا في سِرٍّ ولا فِي عَلنٍ، والصَّبْرُ علَى ما يُصِيبُك مِنْهُم منَ البَلْوَى، وأقَلُّ ذَلِك : الإنْصَافُ وترْكُ الأذَى<.

كلام جامِعٌ للعَدْل في مختلفِ العلاقات، ولكن العَدْل المتبَادَرَ للذِّهْنِ حين يُطْلَقُ ينْصَرفُ إلى الإنصاف وإعطاء الحقوق لمستحقيها بالنسبة للذين لهم مسؤولية صغيرة أو كبيرة، لأنّ كُلَّ راعٍ مسؤول عن رعيته، والإمام العادِل في الرعية أول مَنْ يستظل بظل الله تعالى يوم لا ظِلَّ إلا ظلّه، لأنه يبسط العدْل الشامِل فلا تأخُذُه في الله لومة لائم، فيأمَنُ الناسُ على دِمَائهِمْ وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم وحريّاتهم، وبذلك تصْلُحُ الحياة صلاحاً كامِلاً، ويَسْعَدُ بها الإنسان والحيوان والبرُّ والبحر، والأرض والسماء، حيث لا تَعَدِّيَ على الحَيّ والجماد بالإيذاء والتّلويثِ.

وهذا العَدْل لا يُؤتَمَن عليه إلا مَنْ كان ذا صِلَةٍ قويةٍبأعْدل العادلين، وأحكم الحاكمين، منه يستمِدُّ المَدَد والهِدَاية، وإِلَيْه يُخْلِص في السِّرِ والعلانيّة، وهذا الصنف المرتبط بالله تعالى خوفاً وإيماناً ومراقبةً هو الذي ألقى الله عليه مسؤولية بَسْط العَدْل بين الإنسانية جمعاء لتعيش مُكَرمة، آمنة مطمئنة، قال تعالى : {يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قوّامِين بالقِسْط شُهَدَاء للّهِ ولوْ علَى أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْن والأقْرَبِينَ إنْ يَكُن غَنِيّاً أو فَقِيرًاَ فاللّهُ أوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُوا الهَوَى أن تعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا فَإنّ اللّه كَانَ بِما تَعْمَلُون خَبِيراَ}(النساء : 134) فالآية فيها تهديد كبير لمن يمكن أن يميل به الهوى جهة النفس والأقربين أو جهة الأغنياء ضد الفقراء، فالعَدْل الحق لا عاطفة له، ولا هَوَى، وإنما صاحبه ينظر للقضايا أَمَامَه نِظرةً حيادِيّةً قال الشعبيُّ : >أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء : ألا يتبعُوا الهَوَى، وألا يخْشَوْا النّاس ويخْشَوْه، وألاّ يَشْتَرُوا بآياته ثمناً قليلاً<(الجامع لأحكام القرآن 363/50).

ويمكن للمتحاكَم إليه أن تميل به عاطفةُ التحامُل على من يُخالفُه ديناً أو مذهباً، أو حزْباً أو وطناً، أو جِنساً أو عِرْقاً، فيحكم عليه، وإن كان يستحِقُّ أن يُحكم له، فسَدّ الله تعالى الأبواب في وجْهِ هذه المنافِذِ المفسِدة للعدالة المطلقة، قال تعالى : {يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَاءَ بالقِسْطِ ولا يَجْرِمَنّكُم شَنَآن قوْمٍ على ألاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتّقْوَى واتَّقُوا اللّه إنّ الله بِمَا تَعْمَلُون خَبِير}(المائدة : 7).

معنى هذا أن الله تعالى جعَل المومنين الحقيقيّين هُمْ المُؤهلين -بحكْم إىمانهم بالعادِل الأكبر وخشيتهم منه سراً وعلنا- لأن تُسْنَد إليهم مُهِمّةُ القضاءِ بين الناس بنزاهة سواء كانوا من الأقرباء أو البعداء، وسواء كانوا من الفقراء أو الأغنياء، وسواء كانوا من الموالين أو الأعداء، لتحقّق الاستقامة فيهم، وتحَقُّق النزاهة الفكرية في صُدورهم، وتحقُّق الخشية من الله تعالى في كيانهم.

وهذا أبو بكر ] يقول بصراحة المومن الصادق >القَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عنْدِي حتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنْهُ، والضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عندِي حتَى آخُذَ الحقَّ لَهُ<.

وهذا عبد الله بن رواحة يقول لليهود -أعدائه وأعداء الأمة- عندما يقولون : تعدّيْت علينا أي في الخرْص   وتقدير غَلّةِ الثمار، يقول لهم : >إنْ شِئْتُم فلَنا، وإنْ شِئتُم فلكُمْ< أي كان يخيِّرهُم بين أن يأخذوا هذا أو هذا، لأنه كان يُقَدِّر حقّهم وحقّ المسلمين في تمر خيْبر، ثم يُخيِّرهم. فكانت اليهود تقول : >بِهذَا العَدْلِ قامَتِ السّماواتُ والأرْض<.

وهذا عمر بن الخطاب ] يقول : >ألاْ وإنّي ما أرسِلُ عُمّالي إليكم ليضربُوا أبشَارَكُم، ولا ليأخذوا أمْوالكُم، ولكن أُرْسِلُهُم ليعلِّموكم دينكم وسنّتكم، فمن فُعِلَ به سوَى ذلك فليرفَعْهُ إلي فوالذي نفسي بيده لأُقِصَّنَّه منه< أي لآخُذنََّ الحقّ له من العامل الظالم.

وعندما بدأت الدول الإسلامية تخيس بعهودها، وتخونُ أمانة الرسالة، وأمانة الحكم، وأمانة العَدْل، سَرَت ْ بين علماء المسلمين ومفكريهم مَقُولة : >إن اللَّه يقيمُ الدولةَ العَادِلة وإن كانتْ كَافِرةً، ولا يُقيم الظالمةَ وإن كانت مُسْلمَةً، فالدّنْيا تدومُ مع العَدْلِ والكُفْر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام<.

المشكلة ليست في النصّ المنظِّرِّ للعَدْل، ولكن المشكلة في تطبيق معناه، أي هَلْ يمكن أن يكون للعَدْل وجُودٌ مع الكفر الذي هو أصْلُ الظلم للنفس وللْغير {إنّ الشّرْكَ لظُلْمٌ عَظِيم}(لقمان) أي أيْن طُبِّق ذلك العَدْل مع الكُفر تطبيقاً شاملا؟! مع أن كُتب التاريخ مُلَوّثة بظلم الكُفْر للإسلام، والهجمةُ الاستعمارية القديمة والحديثة شاهدة على ذلك.

أما في عصرنا هذا فالأمْرُ تعَدَّى التنظير من المسلمين -على نطاق الحاكمين ومن يدور في فلكهم- إلى الرضا بعولمة الكفر وتحكيم شرعيته، منهجاً، وسياسة، وعدالة، وثقافة، وحقوقاً، وتوجُّها دنيويّاً خالصاً يصاحِبُه حصارٌ جهنميٌّ صارمٌ ضِدَّ التوجُّه الإسلاميِّ الأخرويِّ المومن بالعَدْل المطلق في المحكمة الربّانيّة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيقول الله عز وجل للكافرين : {اخْسَأُوا فيها -جهنم- ولا تُكَلِّمُون}(المومنون).

يتجلى هذا الرضا المطلق باختصار في :

1) الشرعية الدولية التي يَسْتَعذِب أقزامُ الإسلام المُزيّف، والنفاقِ المكَيّفُ التغنِّيَ بها بمناسبة وبغير مناسبة تزَلُّفاً لهبابِلة العصْر.

2) العَدْل الكُفري المطالَبُ به في كُلّ تحقيق، وكُلِّ توثيق، وكُلِّ تدْقيق في قضايا الشعوب ومنازعاتِها الداخلية، فقُضاة الكُفر هم القُضاة، ولجان التحقيق هي اللجان.

3) سيادة الثقافة الكفريّة بالأخصّ في ميدان التسامُح الذي يعْني تذويبَ الإسلام في بوثقة الكُفر وتجريدَه من كل خصوصية وتميُّز، أي لا حَقّ له في التميُّز في العقيدة والتشريع، والموالاة والأخلاق المحافِظة على كرامة عِرْض الإنسان، وسلامة عقله وروحه.

4) التمجيدُ المُطلق لما يفعَلُه الكفار ببلاد المسلمين، من احتلال وسِجْن، وتعْذيب وحْشيٍّ مُهين، وتبْويئٍ للخائنين الموالين له مرَاكز السيادة والقيادة على رَغْم أنف الشعوب المتمَلْملة من قساوة الظلم الاستعماري الخبيث.

5) إطلاق الحرية المطلقة في سَبِّ الإسلام وتشويهه، والمجاهرةِ بعَزْله عن الحياة، وحقِّ التعايش الكريم مع الكفر اللئيم، فكل الألوان الكفرية لها الحقّ في التحزُّب وخوض المعارك السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية… إلا التحزُّب على أساس الإسلام فإنه ممنوع منعاً كلّياً، ومتواصًى به في كل القوانين الجائرة كأنه كتابُ سماوي أنزلَ حديثاً مع رُسُل الكُفر الجُددِ الذين لا عَهْد للتاريخ بمثلهم، وهكذا وُطِّنَ الغريب الدخيل، وأُجْلِي صاحب الحق الأصيل.

فما الذي حَمَل العلماءَ المسلمين الأُول على ترجيح بقاء دُول الكفر مع إقامة العَدْل على ذهاب دُوَل الإسلام مع انتشار الظلم؟!

يظهر أن الدّاعِيَ لهذا التنظير رؤيةُ دُول الخلافة الإسلامية تتساقط سواء كانت الخلافة خلافةً عباسِيّةً مُحَنّطَةً، أو خلافةً فاطميةً مُلَفّفَةً، أو خلافَةً أمويةً -بالأندلس- متمردةً، أو خلافةً عثمانيةً مستبدةً، أو دُويلاتٍ إسلاميةً على التُّراب والدِّرْهم متهالكة سواءُ كانت مُشرِّقةً أو مُغَرِّبةً. فالجامع بينها جميعاً حُكْم المسلمين بما أهو أبشع من الجاهلية الأولى!!!

وما الحامِِلُ على رضا المسلمين بالشرعية الدولية الصريحة الانتماء للكفرية؟!

يظهر أن الدّاعِيَ لهذا الرضا هو المراوحةُ بين رمْضَاءِ الكُفر الناعم المَلْمَسِ وإن كان في أنْىابِه العَطَبُ، وبين نَار الاستِبْدادِ الجهنّمِيِّ الداخلي الذي فَاقَ الكُفر بمَا هُو أكْفَرُ وأحَطُّ وأخَسُّ منْ إهانَةِ الإنسان وقتْله وتشريدِه وتسْخِيره لأدْنإ الأغراضِ!!!

فالمسْألة مسْألة نِسبيّةٌ بين تَدَهْوُر للحَضِيض في قوائم الظُّلم والفساد والاستبداد، وبقاءِ الكُفْر محافِظاً على أنواعٍ من الإنسانية الظّاهريّة لنا داخل دُوله ومجتمعاته والتي ليس لنا منها أدنى نصيب وخصوصاً في ميدان التعارُك السياسي، والتداوُل الحُكْمِيّ.

ومعَ ذلك لا يُمْكِن للمسلمين أن يلتمسُوا أيّ عُذْر للدُّول الخارجة عن المِلّة في تَعامُلِهم بالقَسْوة المُفْرطة مع حجاب المرأة المُسلمة الموجودة في بلدانهم، بل والموجودة في البلدان الإسلامية. فهذه محكمة حُقوق الإنسان الأوروبية تُويِّدُ بدون حِشمة ولا إنسانية قرَارَ المحكمة الدستورية التركيّة، مع أن الذين حَوَّلُوا القضية إِلَيها كانوا يطْمَعُون أن يجدوا عندهم نوعاً من العَدْل في قضيّةٍ حقوقيّة إنسانيّة بحْتَةٍ لا ضَرَر فيها على أحَدٍ، فماذا يُْمكِنُ أن يجْلُبَه سَتْرُ رأس المرأة بخِرْقةٍ خفيفةِ على الإنسان من خراب أو دَمَارٍ، بالقياس إلى ما يُجلُبُه السّماحُ لتعري المرأة -بدون انكار- من عارٍ وشَنارٍ؟!

فقد أثبتَ الحكمُ أن الملتمسين العَدْل لدى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية كانوا كالمستجيرين من الرَّمْضَاءِ بالنار، فهل سيكون ذلك بدايَةَ العَدِّ التنازلي لليأس من بريق العَدْل الكُفريِّ، والعَمَل بدون تمييز بين عزيزٍ قويٍّ، وفقِيرٍ دَنِيٍّ. ليتحقق تطبيق قول الله تعالى : {إنّ اللَّه يامُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وينْهَى عنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ والبغْيِ يَعِظُكُمْ لعلَّكُم تذّكُّرُون}(النحل : 90).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>