الـمسلم ومـشكلة الإنسان


إن القرن العشرين الذي يرى تجمعات بشرية في صورة دول ضخمة الحجم تبسط كيانها على مساحات شاسعة مخططة، أصبح يقدم كمثل أعلى لطريقة النمو عملاقية الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ، الدولتان المؤسستان لفصيلة العمالقة التي دخلت في كنفها ، منذ عهد قريب، الصين الشعبية، وحين تريد الدخول أوروبا الغربية.

ويرى هذا القرن، نتيجة لهذا التكتل البشري الضخم، تكتلا لحاجات وإمكانيات على درجة غير معتادة، تنشأ منه شبه اختصاصات تتخصص بها تلك الكتل، بحيث تصبح كل واحدة ذات اختصاصات في نوع من المشكلات العلمية أو الصناعية أو الاجتماعية حسب هوايتها ومزاجها وظروفها التطورية الخاصة.

ولا يبعد أننا سوف نرى، إلى آخر القرن، كتلة تسيطر على مجال الفضاء، أو أخرى على مجال الذرة، وأخرى على علم الكيميا أو النبات أو على مجال الفن.

وهكذا تحقق كلكتلة لنفسها مكان التبريز والصدارة في نوع من أنواع النشاط البشري، وقد لا يرى المسلم يومئذ حظه من هذا التوزيع التاريخي للمسؤوليات والاختصاصات العالمية إلا إذا قرر، منذ المرحلة الراهنة، أن يأخذ على عاتقه مشكلة الإنسان، وفي النواحي التي لا تضطره إلى اكتساح مسافات أصبحت، في نواحي أخرى، تضع بين العالم الإسلامي ومن سواه من الكتل البشرية، بونا شاسعا لا يستطيع تداركه كما يبدو ذلك في ميدان الفضاء.

لأننا إذا دققنا الأشياء نجد أن المشكلات الجديرة لتكون من اختصاص المسلم موجودة لحسن الحظ، وليست موجودة فحسب، ولكنها تنمو في المجال النفسي بقدر ما يزيد التقدم التكنولوجي في توسيع الخرق الأخلاقي، وتعميق القلق الذي يجتاح المجتمعات التي تنجز ذلك التقدم كما شاهدنا في الهزات الاجتماعية السياسية التي اعترت، منذ سنتين، ما يسمى “مجتمع الاستهلاك”. بحيث إذا لم يخف على المسلم تخلفه، تخلفا لا يقبل التدارك في بعض المجالات، فإنه يرى من ناحية أخرى تخلف المجتمعات المتقدمة في مجال الإنسان، تخلفا لا تستدركه “العلوم الإنسانية” المدروسة في جامعاتها.

لا شك أن الإنسان أصبح من الناحية “الموضوعية” مدروسا، ومعلوما إلى حد كبير، من جوانبه الاقتصادية، والعضوية، والأنثروبولوجية من ذوي الاختصاصات في هذه العلوم. إنهم يعرفون ويقدرون متوسط الدخل السنوي من الدولارات الذي يلزمه لاقتناء ثلاجة، او ما يتعاطاه من مخدر”ك س د” وما يستحق من وحدات حرارية في اليوم.

فالمسلم مسبوق في كل هذه المجالات كشأنه في كل ما يتعلق بالتقنية ولكن هناك، في هذا القرن العشرين، وجهات من مشكلة الإنسان زهد فيها العلم الحديث، بل احتقرتها حضارة الكمّ.

وإنسان هذه الحضارة قد تورط في الوضع المناقض للإنسانية الذي أسسه هو في العالم، إلى درجة لا تسوّغ له بعث القيم الإنسانية.

فهو متورط في عالم الأشياء الذي صنعه بعقله ويده، تورطا لا يسوغ له القيام بمهمة تخليص الإنسانية من ورطتها في الشيئية. وهذا المجال الذي يخص الإنسان من جوانبه الكيفية، هو بالذات الذي يبدو مجالا لاختصاص جديد قد يكون اختصاص المسلم لأنه، في نقطة البدء، غير متورط في علم الأشياء المطبوع بطابع المادية في سلوك طبقة البرجوازية الكبيرة والصغيرة، وفي تفكير الجناح الآخر من المجتمع المتمدن.

ولكن هذا الشرط اللازم بالنسبة لمهمة المسلم ليس بكاف وحده.

فلا يكفي لجزيء الكتروني ، لكي يدخل في عدّاد التّاريخ، ان يكون فحسب طليقا، بل يجب ان تكون وجهته وحركته في مجال العمل.

ولا يمكن للمسلم من التخلص من جاذبية الأشياء، أن يستوفي شروط مهمة لاستيقاظ ضميره إلى الظروف الاجتماعية-التاريخية التي يمر بها العالم اليوم.

فهذا العالم تسكنه، من واشنطن إلى موسكو، إنسانية متحضرة فقدت إنسانيتها، فأصبحت تصوغ مشكلة الإنسان بمنطق الأشياء، فتقدر مصيره بالثلاجة ومتوسط الدخل السنوي.

ومن طنجة إلى جاكرتا تسكنه إنسانية متخلفة، ولكنها متحررة، بحكم تخلفها، من ربقة الأشياء.

فأصبحت هذه الثنائية مصدر كل الأسباب لعدم التوازن المتفشي في أرجائه، ولكل معطيات مشكلة الإنسان فيه.

ومن طبيعة الوضع الراهن أن الحل للمشكلة لا يمكن أن يكون سوى إرجاع التوازن المفقود أو المنعدم، بوضع ثقل حضارة جديدة في إحدى كفتي التاريخ، حضارة ترفع الإنسان المتخلف للمستوى الاجتماعي الذي يتمتع به إنسان حضارة الأشياء اليوم، وترفع هذا الأخير إلى المستوى الأخلاقي الذي تفرضه الإنسانية.

فلكي يعالج المسلم المرض العالمي، من الزاوية التي تهم اختصاصه، يجب أن يقدم لهذا المريض ما يشفيه من فقره الروحي، ولذلك المريض ما يشفيه من التدهور الاجتماعي.

ولكن من كلا الجانبين لا يجوز أن تصوغ القصة أن نصوغ المشكلة بالطريقة المثالية، كأي قصة، ولكن بالطريقة العلمية على أنها مشكلة القرن، مشكلة الساعة.

وعلى هذا الأساس فقط، قد يكون المسلم جديرا بحلها بطريقة فعالة، إذ يكون إيمانه باختصاصه في هذه المهمة قائما على حقيقة يؤمن بها عقله.

وعندما يتم هذا الشرط في نفسه، سيجد فعلا أنه الأول في مجال من التطور العالمي لم يسبق إليه أحد.

وسيرى أن المستقبل ليس تحت نفوذ الصاروخ، والذرة والثلاجة، وإنما هو تحت نفوذ ضمير إنساني متجدد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذ. مالك بن نبي رحمه الله

مقال مخطوط للأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله لا يعرف فيما إذا كان قد نشر في وقت سابق.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>