شروط النهضة والبناء الجديد في فكر مالك بن نبي


ذ. عمر مسقاوي

تطور  الحضارة  الاسلامية صعودا وهبوطا يرتبط من حيث الاساس بالعلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها. ومن هنا يبدأ دور الانسان في بناء عالم محيط حوله تتحدد في اطاره قيم الاخلاق ومدى ارتباطها بالمُثُلَ والجمال ومدى التعبير عنه طبقا لهذه المُثُل. والفاعلية ومدى ارتباطها بالمنطق العملي في تفعيل الوسائل ذات الارتباط الوثيق بالقيم الاخلاقية والجمالية عبر العمل التقني.

فالعناصر الاربعة :  المبدأ الاخلاقي والمبدأ الجمالي والمنطق العملي ثم التقنية هي العناصر التي تتكون فيها ثقافة المجتمع حينما تصبح تاريخا لانها الاساس التربوي الذي يحدد معيار الصعود والهبوط بقدر تضامن هذه العناصر في بيئة الفرد السند الاساسي لمسار الحضارة في اتصاله بالثروة عبر الزمن التاريخي الذي يحدد مراحل الحضارة . فالحضارة هي القدر النهائيللثقافة التاريخية .

ان هذا المنهج يرتبط بمفهوم كوني كسنة من سنن الله الازلية. ومن هنا فالاقتباس من اوروبا والاتصال بالتطور الكمي في الهيمنة على مسيرة الانسانية يتطلب من ” القابلية للاستعمار” التي هي الوجه الآخر لصورة الاستعمار ان تنظر (هذه القابلية) الى الظواهر الغربية الاوروبية الراهنة على انها مسألة نسبية لا تعبر عن الحقيقة المطلقة في مسيرة التقدم. ومن خلال ذلك يستطيع العالم العربي والاسلامي ان يعرف وجوه النقص في الحضارة الغربية كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية  وبهذا تصبح الصلات والمبادلات مع هذا العالم اعظم خصبا وحينئذ نستطيع ان نبني مفهوما تبادليا تنسج عليه الولادة الجديدة خياراتها ونشاطاتها  .

الحضارة الغربية اضرت بحركة التاريخ والنظام الكوني البيئي بعد انهيار الحضارة الاسلامية

ذلك ان الواقع الاستعماري قد اضر بالمسلمين كما اضر بالانسانية جميعما حينما تخلف الضميرعن العلم وعن حركة الفكر. فمأساة العصر ان الضمير في المخزون المسيحي الروحي لم يتمثل ما حققه العلم من مخترعات فبقي عاجزا عن مواجهة الفجوة التي كانت تفصله عن النزعة العقلية الناتجة عن التطور العلمي. فالذات الاوروبية التي قامت بدور تلميذ الساحر فأبدعت الآلات  لم تستطع السيطرة عليها فصارت الحياة ارقاما وصار العالم عصر  ” كَمٍِّ ” يخضع فيه الضمير للنزعة الكمية ( وجهة العالم الاسلامي )

فمالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الاسلامي ربط بين الضمير والانتاج طبق المعادلة الاساسية للمبدأ القرآني: تغيير النفس بإتجاه الايمان بالله  والاستقامة في الاداء الاجتماعي والاقتصادي بحيث تزول الفجوة نهائيا بين الضمير والعلم من اجل استقامة  الحياة على هذا الكوكب الكوني وقد لاحظ هذا الجانب الكاتب السويسري  Boizard   في كتابه  “الانسانية في الاسلام ” lصhumanisme de lصislam حينماشرح المفهوم الاسلامي لمعنى الوحدة الاجتماعية في فصل “المدينة الاسلامية” فشبكة العلاقات التي يتطور في داخلها الضمير في اتساقه مع الانتاج الاجتماعي تنطلق اساسا من مفهوم الوحي وقانونه الالهي وليس من الاختيار الفردي الذي تنامى  في الاطار الاوروبي الى درجة اخرج الانسان عن مداره الكوني .

فالانسان يمثل في المصدر القرآني وحدة متكاملة غيبية في تفاصيلها ومتمايزة في تنوعها لكنها متداخلة وبسيطة في النهاية .

فالله هوالمُطْلق كلي القدرة والارادة ومن هنا فالقدرة المطلقة تجعل كل شيء نسبيا في فعل الانسان وهكذا يتدخل الغيب الالهي في النهاية في قدر الانسان  فيبدأ عالم الاخلاق حين يمسك الحساب الالهي نهاية الحياة كأساس ومعيار سلوكي لمدى الطاعة للقانون الالهي .

من خلال هذا المفهوم  فالانسان لديه امتياز خاص بين سائر المخلوقات هوالاستجابة لله كلي القدرة وللرحمة الالهية ومعرفة الله المستحق للعبادة . فالانسان في قدراته الطبيعية طاقة كامنة  فهونظام الكون الاصغرMicro وصورة نظام الكون الاكبرMacro  كما يقول المؤلف  ولذلك استحق الانسان ان يكون خليفة الله على الارض .

ومن خلال هذا المفهوم اعطى الاسلام الانسان القيمة المطلقة في التكريم  .

هذا التحديد لقيمة الانسان يقول Boizard يختلف جذريا عن المفهوم الغربي التقليدي فالحقوق والواجبات في ثقافة الغرب تعتمد على معايير مختلفة آمرة اوشخصية تقليدية اوظرفية تتغير مع تطور المجتمع وظروفه الخارجية بينما المباديء القرآنية للعدالة والشرف  والتضامن الانساني كونية تنشيء واجبات قي قانون الهي نزل به الوحي يجعل كل عضوفي المجتمع الاسلامي يمارسها على انفراد ومراقبة ذاتية ( راجع الحديث الشريف الذي هواساس هذا التحليل : ” اتق الله حيثما كنت واتبع الحسنة السيئة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ” هذه وصايا ذات مفهوم كوني ) ويضيف مؤلف كتاب ” الانسانية في الاسلام”  بأنه تبعا لذلك يتولد مناخ ” المدينة الاسلامية ”  من الضيافة والترحيب المشترك في نوع من عفوية اجتماعية  لها قاعدتها ومعناها الديني ويأخذ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الطابع الأبوي والمتواصل في توازن يؤسس لشبكة العلاقات الاجتماعية  .

هذا التحليل الذي ورد في كتاب النزعة الانسانية في الاسلام تفتقده الانسانية في ظل العصر الحديث القائم على الفردية ونظرية حقوق الانسان التي وضعتها منظمة الامم المتحدة في اعقاب الحرب العالمية الاولى والثانية بإعتبارها حقوقاً سياسية في مواجهة السلطة  والحكم ليكون النظام الدولي الذي بناه العصر الصناعي هوالمرجعية النهائية لثنائية الشمال والجنوب  في الحفاظ على هذه الثنائية  التي انتهت الى العولمة  .

هذا المفهوم  لمعنى كونية الانسان في اطار النظام الالهي هوالذي بقي في عمق البنية الاساسية للمعنى المضمر الذي قامت عليه الحضارة الاسلامية وقد اشار اليه بن نبي حينما رأه في روحانية واصالة الجزائري المسلم في الحياة الاسرية والاجتماعية في الجزائر في العشرينات كما ذكر  في كتابه يوميات شاهد القرن الجزء الاول ثم في قصتــه ” لبيك ” ومن هنا نفهم رؤية بن نبي لمستقبل الحضارة الانسانية من  خلال الاسلام كقيمة كونية في خلاص العالم لما بدأت اول مرة في  ” مكة” وكما اشار في انشودته الرمزية في مقدمة كتابـه ” شروط النهضة ”

تصفية العالم من العولمة وازمة الحضارة

ان الغرب بات يرى نفسه وثقافته وحضارته واسلوب حياته المرجعية الوحيدة والنموذج الفريد الذي ينبغي على العالم ان يؤوب اليه قبل فوات الاوان والعرب باتت على قناعة بأن العولمة شيء حقيقي لانها ثمرة تطور تاريخي وتقني لايمكن الرجوع عنه

هذه النتيجة التي تبدواليوم احدى العوامل الاساسية للتفوق الامريكي في سياسة العالم كان بننبي قد توفي عام 1973  قبل ان يدرك مداها مع نهاية القرن لكنه منذ منتصفه تنبأ بهذه النتيجة في الصورة التي انتهت  اليها ففي تأسيسه للاصول الاولى في دورة الحضارة وشروط  اقلاعها في تجريد مستمد من النظام الكوني استطاع قبل فوكوياما ان يتنبأ بنهاية تاريخ الحضارة المهيمنة على مصير الانسانية .

فهذا العالم هواسير العصر الحديث في مختلف صوره وقد بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتقلب في فوضى الكم والوزن والتكاثر الذي يسبق مسيرة الزمن وتَخَلّق الحياة على الارض فالعصر الصناعي اضحى في حرب  ضد البيئة الكونية والانسان وهذا ما يعبر عنه القلق والاضطرابات في العالم .

فالظاهرة الدينية كما اشرنا اليها في تحديد عالمية الانسان تبدأ  كما يقول بن نبي حينما يوجه الانسان بصره نحوالسماء  وهنا يظهر الرسول والرسالة اي ذلك الانسان الذي يملك افكارا يريد تبلغها الى الناس .

من هنا تبدو اوروبا خارج الظاهرة الكونية والدينية قد امتلكت نموذجا استحوذ على العالم يسلب الزمن والانسان قيمتهما المطلقة ليصبحا في خدمة الآلة والانتاج والتكاثر الذي يهدم النظام الكوني. (وجهة العالم الاسلامي -مشكلة الافكار في العالم الاسلامي- (الفكرة الافريقية الآسيوية).

ويقول بن نبي في هذا الاطار ان المغالاة في جانبي التفريط والافراط  يؤكد اليوم حقيقة قائمة وهي اننا نتناول  ثقافتين في لحظة اقوالهما.

فالفكر الاوروبي يجهل ( كما اوضحنا في مفهوم العولمة ونهاية التاريخ لفوكوياما) قانون التداول بين الاوج والحضيض في مسيرة الحضارات لذا فالفكر الاوروبي يجنح دائما الى الاستمرارية التي نشأت مع آلية ديكارت ومن ثم الى الدوران حول مفهوم الوزن والكم لكنه اليوم يسير الى مصيره في الانحراف نحوالمغالاة ،  حين انتهى الى المادية في شكليها: البرجوازي الاستهلاكي والجدلي الماركسي وقد انعكس ذلك على الفكر الاسلامي في افوله وخروجه من التاريخ فدفعته الى التصوف المبهم والغامض وعدم الدقة والتقليد الاعمى والافتتان بأشياء الغرب حين ينعكس ذلك على تكديس الاشياء اوتقديس اقتنائها في عالم السلاح دون عالم الفكر في مواجهة  الهيمنة على مصير الانسانية .

الخروج من المأزق يتجلي في ولادة جديدة للحضارة في مفهومها العالمي:الاسلام هوالنموذج

اوضحنا فيما سبق ان الحضارة الاسلامية لعبت في مسيرتها دور الحضارة المركزية التاريخية في التداول الذي اشرنا اليه ولقد اعطت تجاربها ومصادرها نتائج استدعت  الدراسات الاستشراقية التي حملت في تضاعيفها استراتيجية استقطابها لمعايير رؤيتنا لتجربة الحضارة الاسلامية كماض لارجعة اليه .

لكن الحضارة الاسلامية كانت (عالمية تضامنية العوالم الثقافية) اذا صح التعبير، فقد كان تضامنها المتواصل بينها تعارفا ( يتبدى من اوصاف الرحالة المسلمين للشعوب التي تعرفت عليها) فيما انتهت الحضارة الغربية في نتيجتها الامريكية الى  الغاء الزمن والانسان والثقافات المختلفة في العالم  كما اشار الكاتب المعروف الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه الفلسفة المادية ويبقى في النهاية “عالم التراب ” وفق عناصر بن نبي الثلاثة لبناء الحضارة وهي الانسان + الزمن  + التراب  فعالمية الانسان التي محورها دائما الرسالة كمفهوم غيبي افتقدت حضورها المعاصر امام آلة العصر الحديث.

ففي مقال نشره بن نبي بالفرنسية في 26 مارس 1954  في صحيفة الجمهورية قال :

” اوليس الحل في تطور يضفي على الحضارة طابع الاممية  والقارية اي طابع عالمية تفرض على الاوروبي عالم الآخرين اذ سيجد في رحابهم معنى الانسانية اذ سيتعرف الاوروبي على الآخرين الذين لم يكن يرى فيهم غير طرائد صيد . اذ سوف يتحدث  بكل تأكيد عن عالمية خارج مناورات السياسة الراهنة كتلك القوى التي تحاول ان تهيمن كمراقب وحيد على العالم لتؤسس عالمية هي مرادفة لما تسمى الامريكانية. ذلك كله يعتمد اليوم كما في كل يوم  على دور المسلم انه الاسلام الذي يستريح اليه مستقبل الانسانية ”

فالأنا الاوروبية تنظر الى ذاتها في عالم خال من البشر يقول بن نبي في مقال نشر عام 1950 ” والواقع ان فلسفة الانسان في الغرب رهينة  تعابير ومصطلحات لا تسمح له ان يتصور وحدة الانسان وتضامن ملحمته على وجه  الارض وقد انعكست هذه الفلسفة على وحدة النوع البشري فجزأتها الى جزأين : احدهما له السلطة والسيادة والآخر عليه السمع والطاعة وهكذا اختزلت فيه طاقته الطبيعية والكاملة في مركب التبعية فانقصت قيمته بمعامل القابلية للاستعمار في الاطار السياسي والفكري والاقتصادي. ويرى بن نبي ان الحل في مستوى النظام الكوني الخروج من هذه الثنائية  وذلك من خلال بعث جديد لرسالة الحضارة الاسلامية عبر المراحل التالية :

> أ – الخروج من التبعية الى المعنى التاريخي المضمر لمكونات الثقافة

كان من نتائج هذه التبعية ان افتقدت الدراسات العربية والاسلامية وعي حركتها حين افتقدت استراتيجية اتجاهها في المسار العلمي من خلال مكونات تراثها, فقد سارت دون ان تدرك انها تنطلق من مركب سيكولوجية الاستعمار المنغرس في اللاوعي تجاه سلطة الطاعة للثقافة والعلوم القادمة من اوروبا  في تعاملها مع مقتضيات النهضة كمسلمة لا تطرح سؤالا حولها .

من هنا فالولادة الجديدة Renaissance لابد ان تنطلق من المعنى المضمر التاريخي الذي هوحنين الولادة الجديدة وإلا فإن المجتمع العربي والاسلامي سوف يفقد حضوره وينتهي في معيار العولمة الاميركية المشرفة على الانهيار هي ايضا ليقوم في اعقابها عالم جديد.

> ب- اجراء رقابة فاعلة على القيمة الذاتية للافكار .

على ضوء ضعف الرضا عن النفس في ذهنية القابلية للاستعمار نشير الى كتاب بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ص 76 حيث حدد  بدقة هذا الجانب المرضي في بيئة المجتمع الاسلامي . فالافكار في هذا المجتمع لا تتمتع في تربيتنا بقيمة ذاتية تجعلنا ننظر اليها بأسمى المقومات الاجتماعية .

فالافكار ترد الى المفكر نظريا من دوائر ثلاث : الدائرة الشخصية – الدائرة الاجتماعية المحيطة به . الاشعاع الذي يأتي من خارجهما.

فالجهاز الفكري الذي يتركب في النهاية من الوجهة  النظرية من ثلاث دوائر متداخلة يصبح من ناحية التأثير وكأنما هومركب من دائرتين فقط : الدائرة الشخصية والدائرة الاجتماعية فيما تغيب دائرة الاشعاع عن اية رقابة وتصفية بفعل التبعية النفسية للحضارة الغربية الاوروبية.

والسبب في ذلك يرى بن نبي ان المحاولات النهضوية التي جرت في العالم الاسلامي متفاوتة ومتعارضة لانها لا تستند الى نظرية محددة بسبب ضعف الثفة بالنفس .

فالمصلح الاسلامي لم يهتم  بأن يرسم برنامجا للاصلاح لذا فهويعتمد على الزمن الذي سيوفق الى حل المشكلات حين افتقر طموحه للتخلق والابداع .

هذه الجوانب السلبية في آلية الفكر الاسلامي في اطار العصر الحديث لا بد من تصفيتها اولا لتحديد موقع المشروع النهضوي من مواجهة الازمة الراهنة التي وقعت في تضاعيف سؤال عالم الاقتصاد الفرنسي  Gaulle Alain فمشكلات الحضارة كعنوان لسلسة كتب بن نبي تطرح الامور في وجهيها :

1- مشكلات الحضارة الاوروبية الغربية الراهنة في تعاظمها المادي التي تؤذن بشيخوخة مسارها المستقبلي واثره على الانسانية.

2- مشكلات الحضارة في عالمنا العربي والاسلامي حينما تبددت فيها رؤية الغد وتخلفت عن الاسهام العملي في صنع مستقبلها ومستقبل الانسانية فكلا المشكلين هما  في معيار واحد هي مشكلة السكنى على هذا الكوكب.

ففي كتاب الفكرة الافريقية الآسيوية رأى بن نبي دور الاسلام المستقبلي بمقدار تواصله مع الثقافات  وفي مدى انتشاره التاريخي في آسيا وافريقيا انما في منحى عالمي ومنفتح على مسار اوروبا والعصر الحديث يهدف الى شمولية المفهوم الكوني للانسان.

فالتفاهم بين الثقافة الاسلامية والثقافة الهندية كان ممكنا لولا تقسيم الهند لحساب بناء الستار الحديدي في مواجهة روسيا وتعطيل اي انتشار للاسلام  بإتجاه الصين وفق خطة تشرشل عقب الحرب العالمية الثانية (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) .

وهكذا ينطلق بن نبي في معالجة القضية العالمية من زاوية القابلية للاستعمار وليس من زاوية الاستعمار الذي تستدعيه وهوفي هذا يخاطب على سواء افريقيا وآسيا كما يخاطب محور واشنطن موسكوالمتلبس بمركزية الانتاج . بإعتبارهما وجهان لعملة واحدة .

> ج – دور الافكار الوظيفي والطاقة الروحية

اننا اذ اجرينا رقابة ذاتية على دور الافكار ليميز فيها الخبيث من الطيب على حد التعبير القرآني فان الطاقة الروحية هيالتي تحدد مسارها الوظيفي وفق تحليل بن نبي ” في كتابة مشكلة الافكار في العالم الاسلامي ”

فالمجتمع  الانساني يبدأ في مسيرة الحضارة مع دور  الافكار في فترة اندماج مجتمع ما في التاريخ وهنا يكون للافكار دور وظيفي يرتبط بالطاقة الحيوية بإعتبارها قوة فاعلة في محيط القيم الروحية التي تنظم الطاقة الحيوية وتوجهها على حد تعبير بن نبي (ميلاد مجتمع) .

فالطاقة الحيوية هي قوة فاعلة ومن هنا فحينما نلغي الطاقة الحيوية فاننا نهدم المجتمع وعندما نحررها تحريرا كاملا فانها تهدم المجتمع . لذا يجب على الطاقة الحيوية ان تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين .

فالتوازن المطلوب للطاقة الحيوية هوالذي يؤسس لحركة الواجب الذي هوتخزين للقيم الروحية المطلقة في مستوى المجتمع في مواجهة الحقوق التي هي استهلاك لهذه الطاقة في مستوى الفرد .

وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم الواجب في النزعة الفردية الاوروبية  التي ترى الحقوق هي الاساس والواجب تنازل لحساب العقد الاجتماعي في مفهوم الدولة .

هذا التحديد الاوروبي الفرنسي يمثل الحلقة الاخيرة من دور الحضارة الغربية التي تمثلت في القرن التاسع عشر في مركزية الدولة لكن الاندفاعة الاولى في مسار الدورة الحضارية عبر التاريخ  هي دائما في القيم المقدسة التي تنظم الطاقة الحيوية  في مستوى الواجب حتى في مكونات نشوء الحضارة الغربية .

لكن التاريخ يثبت دائما ان عالما مبنيا في الاصل على القيم المقدسة يميل دائما الى نزع هذه القداسة في المنعطف التالي من مسيرته: الاقتصاديون  يسمونه تقدما لكن الفلاسفة يسمونه اهدار طاقة في منعطف شيخوخة . وهذان التفسيران يتلاقيان في حتمية تحول الطاقة التي تحكم التاريخ كما تحكم الفيزياء .

هذه هي مسيرة التاريخ في صنع الحضارات الذي يتداولها كرقاص الساعة في دقاته المزدوجة صعودا الى القمة وهبوطا الى الحضيض . وفي المراحل الوسيطة بين القمتين تسجل فترات اخصاب متبادل يكتنفها اختلاط في البابليات التاريخية كما هوعصر بابل القرن العشرين .(مشكلة الافكار في العالم الاسلامي)

> هـ – بابلية القرن العشرين وتأثيرها على الفكر النهضوي في العالم العربي والاسلامي

لقد بدأ الفكر التحديثي مع صيحة جمال الدين ثم مع عبده  يأخذ سبيل النقد التفصيلي والانفتاح على اوروبا ولكن في مناخ عام 1925 بدأت كتابات  متأثرين بالفكر العربي حاولت ان تضع مسلمات نفسية جمعية في اطار الجدل والتشكيك ضمن معيار الفكر الاستشراكي الذي يعمل لحساب مركزية اوروبا لغير هدف استراتيجي فكانت بذلك تحرث بعيدا عن حقل المواجهة الموضوعية للمشكلات، بقطع النظر عن صواب اوعدم صواب التحليل . فالمشكلة لم تكن بتحليل الماضي  بمعيار العصر الحديث بل في طرح منهج جديد كما يقول بن نبي وهكذا وضع مشروعه في سائر كتبه تحت شعار مشكلات الحضارةفي وجهيها : وجه الازمة  في اوروبا  العصر الحديث ووجه الازمة في خيار العالم العربي والاسلامي وهكذا اختلطت التطورات في تلك البابلية الراهنة اي المرحلة الوسيطة بين انهيار منتظر للحضارة الغربية وترقب حضارة جديدة في تداول التاريخ.

فإجتهاد تلاميذ اوروبا من العرب والمسلمين  لم يضيفوا شيئا الى تراثهم لكنهم اربكوا الاطار مساحة قرن كامل دون خطوة واحدة الى الامام .

هذه الحواجز جعلت الفكر الاسلامي يتجه نحوالآفاق البعيدة اقتباسا لايجد تفسيرا له في منهج تربوي فاعل في بناء الامة حين افتقد الفكر معيار الرقابة  واستراتيجية الاتجاه .

فالمظاهر التي تبدواليوم في ازمة العالم العربي والاسلامي تبدوفي عجزه الكامل امام نتيجتين اشار اليهما مالك بن نبي بصورة غير مباشرة في تحديده لدور الطاقة الحيوية في بابلية اختلاط المعايير .

فأحيانا تتقلد الطاقة الحيوية المتحررة  من الضوابط مظاهر القيم الروحية حينما اشار الى المرابطية في وجهيها الديني اوالسياسي عبر مفهوم الزعيم وكلاهما  تسيرهما آلية الفكر الاستعماري .

فابن نبي لم يشهد عصر ما سمي ” القاعدة ” عبر بن لادن الذي هوتحول جديد لمفهوم  المرابطية في وجهيها اذ تنتصب بديلا مصطنعا مسرحيا للحرب الباردة وهي صورة من صور المرابطية في فردية مركزية للطاقة الحيوية تبحث عن سبل الخروج من الازمة سواء الازمة المتخيلة في عقول المريدين نتيجة احتقان نفسي اوالازمة في مستوى العالم الاسلامي والمتخيلة في طاقة حيوية بغير سقف تهدم  تداعيات رؤية عالمية جديدة لمستوى الحضارة الاسلامية .

فالحضارة الغربية فرضت وسائلها في سوق الاستهلاك وعلاقته بغريزة الطاقة الحيوية بغير سقف كسوق لانتاج بغير سقف كذلك وهي لذلك تستدرج العجز في مظهرين متناقضين العجز امام العولمة في تكديس الاستهلاك وما يصرف عن مواجهة اسرائيل بقوة الحضور الدولي وعن دعم المقاومة المشروعة التي وقعت رهينة المرابطية الجديدة  والعجز المقابل في تكديس وسائل القوة عبر مرابطية القوة الحيوية المتصلة بغريزة التفرد في فوضى بابلية الافكار .

وهكذا خلفت تداعيات العولمة الحيوية اتجاهين موازيين : اما انها تندفع في امتلاك الاشياء لغير سقف في سوق الاستهلاك وفي ظل مبادرات فردية إما تندفع في امتلاك السلاح في ظل مبادرات فردية ايضا للدخول في حلبة الصراع في مواجهة قوة العالم المنظمة ذات استراتيجية الهيمنة بكل الوسائل على الفكر الاسلامي كما على ثروته الجغرافية والاعلامية التي تعمل لحساب العصر الاسرائيلي بكل مؤثراته في تهميش مركزية القضية الاساسية فلسطين والحضارة الاسلامية والعربية وهكذا تبدواليوم بابل العراق وفي كلا الحالتين هنالك مرابطية الطاقة الحيوية وحدها التي  تعمل خارج عالم الافكار في بابلية الفوضى العالمية .

> و- نحورؤية في بناء جديد (كتاب فكرة كمنولث اسلامي)

من خلال هذه البابلية التي اشار اليها بن نبي لم يعد الفكر الاسلامي يمثل ارضية نمطية اجتماعية ووطنية تعني المسلم وغير المسلم كما درج عليه واقع المجتمعات الاسلامية في مسيرة التاريخ . فالنظر الى التراث يستعرضه فكرنا اعجابا في مقارنات تسلب ألباب المشاهدين في التلفزيون اوفي بلاغة الكتب الرائجة اليوم  لكنها  لا تسكب حلولا لمشكلاتهم . ذلك ان الانتماء الى الاسلام اضحى استعراضا خارج الذات .

ان كتاب فكرة كمنولث اسلامي هونتيجة تحليل عملي وواقعي لمشكلة النهضة في العالم الاسلامي  ، فقد وضعه بن نبي ليُصَفي افكارنا من كل بابلية المرحلة الوسيطة التي تنحسر فيها الافكار في رؤية الحاضر حين تسيطر الوسائل وحدها في اطار كمي تكديسا يبدد الجهود . وهكذا اقترح مرجعية تحليل وترشيد تفد اليها مشكلات تفد من العوالم الاسلامية المختلفة والتي تكونت في كل منها بيئةمن المشكلات تختلف كل واحدة منهما عن الاخرى.

فتجديد الفكر الاسلامي لابد ان يكون في اطار المجتمع  ومن خلال مشكلاته في مفهومه الوطني والاجتماعي ، انه تحريك الانسان وبناء شخصيته من خلال قيمته الكونية المطلقة ومن هنا فالاسلام مناخ شمولي واقعي وعملي يشترك فيه المسلم وغير المسلم في وحدة الطاقة الاجتماعية  كما فعل  الرسول صلى الله عليه وسلم  يوم وصل الى المدينة في بناء تحالف وعهد بين المسلمين واليهود ( ان يهود بني عوف امة مع المسلمين للمسلمين دينهم ولليهود دينهم ” وهوعهد الدفاع عن المدينة والقتال .

فالارداة الحضارية هي المحور في اية رؤية جديدة كما يقول بن نبي ومن هنا فنسيج هذه الوحدة وتناغمها هوالذي يضع الطاقة الحيوية في معيار الواجب الاخلاقي لذا فهناك فرق بين المحدثات التي تقتحم وحدة المجتمع وتفسد تناغم المسيرة في سوق العولمة واستهلاك الفردية المطلقة  وبين الاستجابة الضرورية للمستجدات التي تتفاعل مع وسائل  استمرار المجتمع في معيار رسالته وثقافته الاجتماعية .

فمعيار المستجدات هوحدود ثقافة المجتمع انه معيار حيوية الارادة وقوة الانتاج في ظل حركة ثقافية ترتب الحاجات كما حدد بن نبي في كتابه ” المسلم في عالم الاقتصاد”  وبالتالي فالمجتمع نفسه وبقدر حاجته الى الحلول يرسم حدود مستجداته .

اما المحدثات فهي من الحدث الخارجي الذي يتدخل في اساس حركة المجتمع فيربك تناغمه دون ان تستجيب لضرورات استمراره . وهويأخذ اليوم مفهوم السوق في المستوى العالمي لصالح انتاج الوفرة والاقتصاد المالي .

فأمام عولمة الوسائل  والاتصالات التي جعلت العالم قرية صغيرة كما قال بن نبي المهم الا ننغمس في طغيانها  كمحدثات جاءت من العصر  الرأسمالي في ظل شغف اعوازي  Entropique بل ان نحدد خياراتنا تجاهها كمستجدات في معيار تقويمي لحاجات  ترتبط بتطور المجتمع العربيوالاسلامي في اطار الحضور العالمي والاسهام فيه كرسالة وصدى للنظام الكوني والذي تبدومعالمه في ذلك التململ من ثقل التكنولوجيا وتطورها في تبديد ثروة الارض والامم لدى سائر الشعوب .

فتطور الفكر الاسلامي نابع من مقاربة  الحدث وتأمله لا التقرب  منه . فحينما يفقد المجتمع البواعث يتوقف انتاج حلوله للمشكلات وحينئذ تصبح امتدادا للعالم المسيطر  وسوقا لانتاجه ولحسابه . فالمشكلة هي في عالم الافكار وليس في عالم الاشياء انها الرسالة في النهاية.

والمسلم الذي كان في سفح عرفات يوم حجة الوداع لم يكن يمثل جيله وشخصه وانما يمثل الاجيال التي تاتي بعده .

فهل يحمل المسلم هذه الرسالة ؟ تساءل بن نبي في ختام كتابه فكرة كمنولث اسلامي .

ذ.عمر مسقاوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>