1- في مذهب الحداثة والتنكر للعربية : تمجيد المسيحية والوثنية


 

بعد صدور مجلة “شعر” اللبنانية شتاء عام 1957 م،  تحولت مسيرة الشعر العربي تحولا مرعبا سرى فيما  بعد  إلى  الرواية والمسرح العرَبِيّيْن بطرق شتى،  تصب كلها فيما أصبح  يعرف بالحداثة. ذلك أن رواد هذه المجلة ومؤسسيها روّجوا  لمواقف ومبادئ  لم  يُسبَقوا إليها،  ولم  تطرح قبلهم  بمثل تلك الحدة والجرأة التي طرحوها بها،  خاصة وأنهم كانوا ينفرون  من أي دعوة  للعروبة  وكان إحساسهم بالانتماء إلى الأمة  العربية ضعيفا  أومعدوما،  فكانوا على استعداد للتخلي عن تراثها الفكري والأدبي والتنكر له،  والنيل منه بذرائع شتى وأساليب مختلفة،  ودعا كثير منهم إلى الإقبال بدون تحفظ على الفكر الغربي والنهل منه وتبنيه،  بل الاندماج به بحجة وحدة الحضارة الإنسانية(1).

وبحكم عوامل “تربوية ودراسية ودينية،  توزع هؤلاء ومن تعاون معهم من خارج المجلة بين الثقافتين الفرنسية والأنكلوسكسونية،  فكان أبرز ممثلي الثقافة الأولى :أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبوشقرا وعصام محفوظ وخالدة سعيد، وأبرز ممثلي الثقافة الأخرى :يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ وإبراهيم شكر الله”(2).

وقد ركز هؤلاء اهتمامهم على النظر  ـ من خلال هذه المجلة ـ في خمسة أمور : “ماهية الشعر،  ورسالة الشعر  والتراث،  واللغة،  وقصيدة النثر”(3). ولا يخفى أن إقحام التراث بين هذه العناصر الدائرة حول الشعر وما إليه، كان مقصودا لذاته ولغيره معا،  خاصة وأنهم لم يتعاملوا مع التراث الشعري العربي بما له وما عليه،  وإنما تعاملوا مع التراث العربي والإسلامي بمفهومه الحضاري الشامل،  فاعتبروه “جزءا من واقع لغوي ليس لهم خيار فيه،  ولكنهم كلما ذكروا هذا التراث حكموا بتخلفه سواء كان ذلك تصريحا أوتلميحا،  وكلما رمزواإلى التخلف والنكوص أشاروا إلى الصحراء والرمل والبدوي وناقته،  وكلما رمزوا إلى التقدم أشاروا إلى البحر والبحّار وسفينته وإقلاعها”(4)،  وبالتالي فإن “التراث الذي يؤمن به شعراء تجمع ” شعر ” هوتراث الوثنية والمسيحية التي مرت على الشرق العربي، بل “الهلال الخصيب” على وجه التحديد،  وهم يفْصلون هذا التراث عن التراث العربي فصلا تعسفيا مقصودا،  فكأنه ليس منه”(5)،  حتى إن أدونيس قال : “المتوسط ابتداء من قرطاجنة مرورا بالإسكندرية وبيروت وانتهاء بأنطاكية،  بعد أن يكون قد اشتمل على سومر وبابل،  هذا هوالإطار الحقيقي الذي تثرى فيه مصادرنا الثقافية،  ومن هذه الأصول العريقة تنبع التراثات”(6)

ولا يتوقف أدونيس عند هذا الحد فحسب وإنما يسحب هذه الرؤية على القرآن الكريم نفسه،  ما دام الدين ذاته جزءا من التراث كما هومعلوم في كل كتاباته،  لأنه في ذلك يصدر عن قناعة راسخة لديه عبرعنها بقوله “لكنني شخصيا،  ميّال إلى القول إن العالم ظاهرة طبيعية وكونية، والإنسان نفسه ظاهرة طبيعية،  ولا أعتقد أن هناك غَيْبًا بالمعنى الميتافيزيقي. لذلك لا أومن بأن هناك قيامة وجنة ونارا. هذا اعتقادي صريحا”(7)،  وعلى هذا الأساس فإن مصادر القرآن الكريم لديه، تكمن في هذا الإطار الجغرافي الذي يشكل مهدا من أهم المهود التي نشأت فيه الديانات الوثنية،  ونفقت فيه سوق الفكر الوثني على شكل ملاحم وأساطير،  لذلك نراه يقول إجابة عن سؤال حول السر في غياب الأساطير والملاحم عن التراث الإسلامي،  وإشرافه على ” ديوان الأساطير” الذي ترجمه قاسم شواف : “أرجوأن يتواصل هذا العمل حتى يكتمل ويشمل جميع النصوص القديمة التي ظهرت،  قبل الأديان، في هذه المنطقة،  وبالتحديد في وادي الرافدين وفي مصر أيضا. أنت تعرف،  تماما،  لماذا يرفض الإسلام هذه النصوص القديمة،  إنه يرفضها باسم الوثنيةتارة وباسم الخرافة والسحر تارة أخرى. لكن من المستغرب أن يتبنى القرآن كثيرا من هذه الخرافات ولا سيما المتعلقة باليهود مثل عصا موسى والطوفان وانشقاق البحر أمام هجرة اليهود المزعومة من مصر. لأن في الموروث الإسلامي،  على الرغم من أن الإسلام نَقَدَ الأسطورية والفكر الأسطوري، كثيرا من الأساطير. وأعتقد أن الفكر الإسلامي السائد هو،  في شكله الأصولي،  فكر أسطوري،  لكنه فكر أسطوري “مُشَرْعَنٌ”،  أي أن الشعر والشفافية الموجودة في الأسطورة القديمة افتقدها هذا الفكر وصار أسطورة مُشَرْعَنَةً اتخذت طابع القانون،  وهذا جمّد حركية الفكر الإسلامي وجمّد المخيلة الإسلامية. وأعتقد أن الفلاسفة والمفكرين المختصين يجب أن يدرسوا الفكر السائد الأصولي،  بوصفه فكرا أسطوريا مُشَرْعَناً”(8)،  وفي سياق آخر يمجد الوثنية والمسيحية معا باعتبارهما فكرا إنسانيا راقيا أبدعه الإنسان في هذه المنطقة التي اعتبرها منبع التراثات،  حيث يقول : “قصص التكوين وسفر أيوب وسفر أرميا ونشيد الأنشاد،  كلها مستمدة من نصوص سابقة. لكن القرآن استعاد كثيرا من هذه الأساطير الواردة في التوراة، بينما المسيحية نبذتها كليا ولم تستعن إلا بأسطورة واحدة هي أسطورة تموز،  أي الموت والانبعاث. لذلك كانت المسيحية امتدادا للوثنية،  وهي،  في الحقيقة،  امتداد شفاف للوثنية القديمة. وهنا تكمن أهمية المسيحية. المسيحية استمرار للفكر الإنساني الغني،  وللفكر اليوناني – السومري القديم،  وهي امتداد طبيعي لهذا كله،  بينما اليهودية قطيعة والإسلام قطيعة.وأحسب أن هذه القطيعة تشكل جانبا من جوانب الأزمة الفكرية العربية الراهنة. ذلك أنها هي السائدة اليوم،  بينما المسيحية تكاد أن تكون مهمشة ولا وجود لها في المضمار الفكري – الثقافي. حتى إن الكنيسة،  داخل المجتمع الإسلامي،  تأسلمت،  بمعنى أوبآخر. ولهذاليس للمسيحية الشرقية حضور فكري،  لأنها،  في تقديري،  أسلمت منذ زمن طويل،  أي أنها اتخذت طابع المجتمع الإسلامي وصارت مجرد شعائر وطقوس دينية “(9).

———-

1 ـ أفق الحداثة وحداثة النمط ، دراسة في حداثة مجلة  ” شعر ” بيئة ومشروعا ونموذجا ، سامي مهدي ، دار الشؤون الثقافية ،بغداد 1988 ، ص 23 .

2 ـ نفسه ، ص 23 ـ 24 .

3 ـ نفسه ، ص 34 .

4 ـ نفسه ، ص 41 .

5 ـ نفسه ، الصفحة نفسها .

6 ـ نفسه ، ص 42 .

7 ـ حوار مع أدونيس ” الطفولة ، الشعر ، المنفى ” صخر أبوفخر ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، الطبعة الأولى 2000 ،ص 140 ـ 141 .

8 ـ نفسه ، ص 141 .

9 ـ نفسه ، ص 143 .

د. بنعيسى بويوزان

جامعة محمد بن عبد الله ـ فاس

مركز الدراسات الجامعية ـ تازة المغرب

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>