ليس بين الحق والباطل أي تلاقٍ أو تواصُلٍ، بل هما على طرفَيْ نقيض، لأن لكلّ منهما منبعا ومرجعية تعارض الأخرى على طول الخط، ولذلك كانت سنةُ الله في خلقه : التدافعَ بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها {وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللهِ الناسَ بعضَهُم ببعضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ}(البقرة). فمنشأ التدافع قائم على أساسِ أن الأرض أو الدنيا دارُ ابتلاء وامتحان، وأنّ الآخرةَ دارُ ثوابٍ وعقابٍ بعد إِعْذار وإنذارٍ من الله تعالى للبشر، بإرسال الرسُل تِلو الرسل يُبيِّنون للبشر طريق الهُدى والرشاد في كل شأن من شؤون الحياة حتى يسير على بيِّنة من أمره {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}(الإسراء)
فمرجعيَّةُ الحق هي من الله عز وجل الحقِّ، الذي خلق الكون كله بالحق، وأرسل الرسل بالحق، وأنزل القرآن بالحق، ليجزي الإنسان بالحق يوم الفَصْل بالحق. أما الباطل فمرجعيتُه الهوى الإنسانيُّ المتقلِّب الذي لا يُحَد بحدود، ولا ينضبط بمقياس، ولا يرتكز على دليل أو برهان معترَفٍ به شرعاً أو عقلا أو قانوناً عادلا، أو عُرفاً سليما، ولذلك كان الباطل دائما في كل مظاهره يقف على شفا جُرفٍ هَارٍ فِكراً، وتنظيراً، وسلوكاً وسياسة، وتحاكماً، وتوزيعاً للثروة، وتعليما، وإعلاماً، وتساكُناً، وتعايشاً، وولاءً، وانتهاءً، وارتباطاً… إلى غير ذلك من مجالات الفكر والسلوك.
فبأي حَقٍّ يتْركُ الإنسان عبادةَ ربه الذي خلقه ورزقه وأحياه وإليه يرجع بعد مماته… ويعبُد حجراً أو بشراً، أو شجراً، لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع؟ إنه الهَوَى المؤلَّه الذي يجعل الإنسان يؤله إنساناً مثله يأكل ويشرب، ويتبول ويتغوط، ويخاف ويحزن، ويغفل وينام وينسى ويمرض؟! سواء كان باسْم فرعون، أو اسم أبي جهل، أو الحاكم بأمره، أو زعيم العولمة والحداثة؟! فكم من فراعنة، ونمارِدَة، وزعماء وأحزاب تألَّهوا وتجبروا وتسلطوا فأتى الله بُنياهم من القواعد، فماتوا وأصبحوا في خبر كان، تلعنهم ملائكة الرحمان، وبررة الإنسان، وبأي حق يُعطي الإنسانُ لنفسه حق تصنيف الإنسان على أساس اللون، أو النسب، أو العرق أو القارّة، أو الجنس، أو اللغة، أو المال… مع أن الأصل واحد، والخالق واحد، والمرجع واحد، والفطرة واحدة، ثم يتصرَّف وَفق التصنيف الأعوج على أساس أن هناك أصنافاً تستحق اقتعاد مقاعد السيادة المطلقة وأصنافا تكتَبُ عليها العبودية المطلقة بدون حق في التمَلْمُل أو الشكوى والتضجر؟!
فعلى أي أساسٍ يُختار أعضاء مجلس الأمن الذين أعطوا لأنفسهم حَقَّ الخفض والرفع؟ وحَقَّ التدخل في شؤون الدول بحق وغير حق؟! وحق الاحتلال والاستعمار للمستضعفين بحق وبدون حق؟ وحقَّ التغيير لإراداتِ الشعوب إذا لم توافق أهواءها؟! وحَقَّ منع المظلومين من مقاومة المحتلين الغاشمين بدعوى أن تِلك المقاومة هي إرهابٌ في إرهاب، بينما الاحتلال وكنس الثروات وهتك الأعراض وإهانة الرجال هو عَدْل في عَدْل؟!! وعلى أي أساس يحتكر الظالمون حق تصنيع كل أسلحة الدّمار الشامل لتكريس السيادة والفرعنة، ويُمنَعُ المظلومون من حق تصنيع السلاح الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم لتكسير قيود الذل والمهانة؟! وبأي حق يتولى الأقوياء الظلمة فرض مناهج تعليمية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية على المستضعفين بدعوى التمدين والتحضير وأداء رسالة الدّمقرطة الحداثية، بدون أن يكون لهؤلاء المستضعفين حق الاختيار أو الرفض؟؟!! وبأي حق يتولى الأقوياء تصنيع القيادات للشعوب المستضعفة لتكون عميلة لهم تأتمر بأمرهم، وتنتهي بنهيهم في الشاذة والفاذة، وتنوب عنهم في تكسير ظهور المعارضين من الأحرار وأصحاب الكرامة من الناس الأسوياء فكراً وعقلاً ومنهجاً وسلوكاً؟!
إن المسألة باختصار شديد هي كما قال الله تعالى : {أفَرَايْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِ هِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيه مِن بَعْدِ اللَّهِ؟! أَفَلاَ تَذَّكَّرُون؟!}(الجاثية) هذا الهوى المؤلَّه النابع من الشهوات هو الذي يسميه أصحابُهُ رسالة حداثية حضارية فيُزيّن لهم شيطانُهم أن يميلوا به على الناس وعلى أصحاب الرسالة الحقيقية بالخصوص ميلا عظيما، حتى لا يتركوا لهم فرصة لالتقاط الأنفاس، وجمع الشمل، وتزكية النفس لتطهيرها من وهَنِ الدّنيا والعزوف عن الجنة، استعداداً لنشر نور الله عز وجل بين العالمين والغارقين في ظلمات الجهالة والغواية.
إلا أن المؤكد عقلا وشرعاً وتاريخا وسُنناً ربَّانية أن دولة الباطلساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والناظر في التاريخ يرى أن أصحاب الباطل مهزومون نفسيا وفكريا ومحاجَّة وسياسة وسلوكا، ولكنهم يُداوون هزائمهم بالضربات الموجعة، والدعايات المنفوخة، واصطناع الأجواق المتزلفة، حتى إذا بلغ الكِبرُ والغرور والتجرؤ على الله الحق مداه، جاءت الضربة القاضية من الله تعالى عن طريق أمطار طوفانية، أو رياح عاتية، أو صيحات وزلازل خاسفة، أو عن طريق جنود الله الغالبين، بتعاون مع ملائكة الرحمان المسوَّمين… فيصبح الباطل أثراً بعد عين، ويصبح الحقُّ أبلجَ ظاهراً لكل ذي عينين.
وإذا كان الحقُّ هو الغالب قوةً وسلطاناً، وحجةً وبرهانا، فمن هم المؤهَّلون لمعرفة الحق والتجنُّد التام لحَمْله وتبليغه للناس هدَاية وإرشاداً لهم؟!
إنهم الذين تلقَّوا الحق من عند الله المُنَزِّل للحقِّ بالحقِّ، على الرسول المُرسَلِ بالحقِّ، لإسعاد الخلْق بالحق في الدنيا والفوز بالرضا والرضوان في دار الحق يوم يقضي الله عز وجل بالحق بين الأولين والآخرين، حيث لا ينفع مالٌ ولا بنون، ولا يعصم من قوة الله تعالى وبأسه تطاولُ جبارٍ أفَّاك، أو صُنْع سلاح فتاك.
إنه الحق الذي تضمنه القرآن العظيم، وبيَّنه الرسول الكريم وبقي متوارثا في أمة القرآن إلى يوم القيامة، يعرفه أولو الأمر منهم من العلماء الرشداء، والأتقياء الكرماء، والمخلصين النبهاء، ومن هنا كان الإجماع -إجْماعُ الأمة- أحَدَ الأصولِ الشرعية التي يلزَم العملُ بها تعامُلا وتعبّدا وتقرُّباً إلى الله، كما يُتعبَّدُ ويُتقَرَّبُ بما نص عليه الكتاب أو السنة نصّاً صريحا لا شُبْهة فيه ولا تأويل، لأن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة، فأيْنَ إِجْماعُ من يستمد من الكتاب والسنة الأنوار، ومَنْ يستمد من الأهواء والشياطين الخراب والدمار؟! وأين استشارة عُقلاء الأمة المنوَّرين بنور الله، الذين يُعطون الرأي خالصاً لوجه الله من استشارة عبيد المصلحة الخاصة الطامعين في فُتاتِ الموائد، ورضا الأسياد الأكابر الذين يذيقون الناس المرائر؟!
إن العالم الحرَّ الشريف في حاجة ماسَّة إلى التخلص من ثِقْلة المَيْلة الهوائية التي جَرَّتْ على الدنيا :
أ- إشعال الحرائق المُهلكة للحرث والنسل محلّيا وعالميا
ب- تكريس الاستبداد القاتل لكرامة الإنسان
ح- ترسيخ الهيمنة العنصرية المُمَكنة لاستعباد الإنسان أخاه الإنسان
د- ممارسة الوصاية على الشعوب المستضعفة تفكيراً وتخطيطاً وتعليما وتنمية وإنتاجا وإعلاما وتوجيها وتصنيعا للآراء المؤيِّدة والمعارضة، وتعديلا وتجريحا، ورفعا وخفضا
ه- التجرؤَ على مصادرة حق الله تعالى في رحمته بعباده بتوجيههم إلى ما يسعدهم في الحال والمآل، حيث ينصِّبُ الهوائيون أنفسهم آلهة من دون الله تعالى فيقِرُّون التشريع المناسبَ ويشطِّبون على غير المناسب، ويُرشِّدون العميل، ويسفِّهون الأصيل، ويُخَوِّنُونَ البريء، ويُؤمنون السافل الخائن للأديان والأوطان، الهادم للقيم الإنسانية التي جاءت بها الشرائع، ورحَّبَتْ بها الفِطر السليمة في كل بقاع الدنيا الشريفة
هذا غيض من فيض مما أحْدثتْه وتحدثُه الميلة الهوائية المستندة إلى شرعية الأكثرية الغوغائية المسلوبة الإرادة أمام بريقِ الذهب، وعُرام الشهوة النسائية، ولمعان النفوذ والتحكم السائب بدون خوف من رقابة أو حساب. {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}(الأنعام)
إن الله عز وجل هو الحق المبين، ورسوله هو القدوة المنير الطريق للمهتدين، والأمة الإسلامية هي الوارثة للحق النازل من السماء لتهدِي به العالمين، وتنقذ به الضالين التائهين، ويُقيم الله عز وجل بها المِلَّة العوجاء، والميْلَة الهوائية الهوجاء، حتى يعيش الكل في أمْن وسلام، وتعاون ووئام، متحررين من تسلُّط اللئام، ويشهدون للمستقيم بالهداية والرشاد، والمنحرف بالخسار والفساد، بمقتضى الموازين الربانية التي لا تميل ولا تطيش وبمقتضى الخَيْريَّة الربانية المهداة لأمة محمد لتكون رحمة للعالمين، محرِّرة للناس من جبروت المتطاولين، وداعية إلى عبادة الله تعالى الرحيم بالمومنين.
فهل تستيقظ الأمة من سكرات الغفلة، وسكرات الشهوة، وسكرات حُبِّ الدنيا وكراهية الموت، وسكرات حب الدرهم والدينار، وسكرات الولاء للكفار، والانقياد للفجار، وإهانة الأبرار؟؟ وهل تشمِّرُ على ساعد الجد لدَعوة الناس إلى عبادة القوي الجبار القادر على قصْم ظهور كل من تأله بين الناس، وتكبر عن عبادة الرحمان {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}(غافر)
الله تعالى قال لرسوله -مهدّدا ومتوعِّداً- {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من ولي ولا نصير}(البقرة). {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}(البقرة). إن أصحاب الأهواء الذين حذَّر الله تعالى الأمة من اتباعهم هم المغضوبُ عليهم الذين عرفوا الحق وكتموه،، عرفوا الحق ونكصوا عنه، عرفوا الحق وحَرَّفوا الناس عنه. فمتى تدري الأمة خطورة مصير من انقاد لأهواء المنحرفين عن الحق عن عمد وسبق إصرار؟! ألم يقل الله تعالى للأمة : {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}(المائدة)، {إِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصُّدُورِ}(الحج).