3- الزهد في الدنيا
الزهد قطرة تترشح من إيمان كإيمان النورسي. فقد عاش زاهداً في الدنيا، ومثلاً فذاً لما قال، كما سيأتي. ورحل عن الدنيا وماله فيها شئ، بل ماله فيها حتى قبر شاخص. فلا يعرف قبره. وكأن يدعو الله في حياته ألا يعرف له قبر، فاستجاب الله تعالى لدعائه بتغييب السلطة الجائرة معالمه. إنه يقول في خطاب أدبي بالعربية:
فلا تمدن عينيك ولا يديك..
إلى زهرة الدنيا،
فإن أشواك آلام الفراق،
تمزق القلوب في آن التلاقي،
فكيف بوقت الفراق؟!”(14).
وهو في شفافيته، يرى التعلق بزينة الدنيا شركاً كصخرة تحط على القلب، مرآة الصمد والدليل على ذلك دقيق في غاية الدقة: “اعلم أن من الدليل على أن القلب ما خلق للاشتغال بأمور الدنيا قصداً، إنه إذا تعلق بشئ، تعلق بشدة، واهتم اهتماماً عظيما، ويتطلب فيه أبدية ودواما ويفنى فيه فناء تاما. وإذا مدّ يده، يمد يداً تطبق أن تقبض على الصخور العظيمة وترفعها، مع أن ما يأخذه بتلك اليد من الدنيا إنما هو نبتة أو تبنة أو ريشة أو شعرة أو هواء أو هباء نعم إن القلب مرآة الصمد. فلا يقبل حجر الصنم، بل ينكسر به”(15). إلا أنه لا يليق بعاقل سليم العقل أن يهتم أو يغتم لما يأتيه أو يفوته من أمور الدنيا، لأنها زائلة، أيها الإنسان لست من حديد أو شجر حتى يطول بقاؤك. بل من لحم متجددٍ، ودم مترددٍ، وروابط في غاية رقةٍ، تتأثر بأدنى شئ. وقد تنقطع تلك، وينجمد هذا بإختلال ذرتين! ولا سيما تنفّسَ فيك صبح المشيب، وكَفَنَ نصف رأسك!”(16) وحتى عمارة الإنسان للدنيا ليست غاية بذاتها: “يا من يدعو المسلمين إلى الدنيا، أخطأت! أتحسب أن المطلوب بالذات من الإنسان عمارة الدنيا، واختراع الصنايع، وتحصيل الرزق، وغير ذ لك مما يعود إلى الدنيا؟ والحال أن صاحب الملك الذي أمره بين الكاف والنون، يقول بقولٍ يصدقه الوجود والكون والواقع وتجهيزات الفطرة الإنسانية: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. أترى أن كل مصنوعات البشر تساوي خلقه نخلة أو نملة؟ أو صنعة عين أو لسان؟”(17) “وأعلم أيها السكران السفيه الغافل الضال! تورطت في مزبلة الدنيا، فتريد إضلال الناس بتصوير تلك المزبلة معدن السعادة، ليخفف عنك(18).
والأستاذ يؤكد مراراً أن الزهد في الدنيا سبب عز وكرامة. ويلحظ قاعدة فطرية كلية هي أن التعلق بالأسباب سبب الذلة والمهانة. فالكلب المشتهر بعشر صفات حسنة مثل الصداقة والوفاء، كان ينبغي أن يكون مباركاً. لكن الإنسان يهوي على رأس المسكين بالإهانة، فهو مُنجس! مع انه يشكر المتفضل عليه ببقايا طعام أو عظم. على خلاف الدجاج والبقر والسنور الذين لم يغرز فيهم حسن الشكران والصداقة إزاء مقابلة إحسان البشر، ويشرفون مع ذلكبالمباركية. فيستخرج النورسي من هذه الفطرة نكتة لطيفة بأسلوب رقيق ومشاعر مرهفة تعتذر من الكلب ويتقي الغيبة فيه: “أقول بشرط ألا ينكسر قلب الكلب ولا يصير غيبة! أن سببه: أن الكلب بسبب مرض الحرض أهتم بالسبب الظاهري، بدرجة أغفلته عن المنعم الحقيقي، فتوهم الواسطة مؤثرة، فذاق جزاء غفلته بالتنجيس، فتطهر!.. وأكل ضرب الإهانة كفارة للغفلة، فانتبه! أما سائر الحيوانات المباركة، فلا يعرفون الوسائط ولا يقيمون لها وزنا، أو يقيمون لها وزنا خفيفاً”(19) وترك الأسباب الظاهرية والتوجه إلى المسبِّب الحقيقي هو العبادة الفطرية، ومؤداه الزهد بالدنيا وما فيها.
———
14 – النورسي/ المثنوي العربي النوري/ ذيل الحباب/ ص 209
15 – النورسي/ المثنوي العربي النوري/ حبة/ ص 223
16 – النورسي/ المثنوي/حبة/ المصدر السابق/ ص 234-235
17 – النورسي/ المثنوي/ زهرة/ المصدر السابق/ ص 276
18 – النورسي/ المثنوي/ نور من أنوار نجوم القرآن/ ص 442
19 – النورسي/ المثنوي/ قطرة/ ص 160-161
ذ. عوني لطفي اوغلو
مركز كوبرو ( الجسر) للدراسات -استانبول