عشاق متيّمون


النفس الطويل

لا يستطيع تحقيق الأفكار السامية والغايات العُلى والمشاريع العالمية إلاَّ من يستطيع التحليق عالياً، ويملك نفَساً طويلاً… الذي لا يبطئ من سرعة مسيره.. الذي يقف بثبات ورباطة جأش.. المملوء بتطلعات الآخرة وأذواقها ممن وهبوا قلوبهم لمبادئهم وأصبحوا عشاقاً ولهانين لها. لا نحتاج اليوم إلى هذا أو ذاك. بل نحتاج إلى هذا النمط من الأفراد الذين نذروا أرواحهم للحقيقة ويسعون لتطبيق أفكارهم التي يعتقيدون بها في الواقع وإلى الأخذ بيد أمتهم أولاً، ثم بيد الإنسانية ليخرجوها من الظلمات إلى النور ويؤمِّنون رسم طريق لها نحو الحق تعالى. كل فرد من هؤلاء يفكر بما يجب عليه أن يفكر ويعرف ما يجب معرفته.. فينفذ ما يعرفه إلى واقع.. يتجول وكأن على فمه صور إسرافيل تمهيداً لبعث جديد بعد الموت.. ينفخ الحياة في كل مكان ولكل شيء.. بقوة البيان إن كان يملك قابلية البيان وفنه.. وبقلمه إن كان من أصحاب القلم.. وبفنه ورسمه وخطوطه إن كان من أرباب الإبداع.. وبسحر الشعر إن كان شاعرا.. وبعذوبة نغمات ألحانه إن كان موسيقيا.. يهتف على الدوام بإلهامات روحه.. ويُظهر في كل فرصة أحاسيس أعماقه.. لسانه مرتبط بأعماق فؤاده.. وفؤاده مرتبط بكل إخلاص بذوي الأرواح النابضة بالحقيقة.

إن قمنا بتقييم هؤلاء الأبطال بالنماذج الموجودة على مسرح الحياة نرى أنهم يسيحون في أرجاء الأرض وكأنهم ذاهبون إلى الحج، ويُتوِّجون سياحتهم هذه بروح الهجرة، ويهمسون أشياء لكل من يقابلونه بلسان الحال والوجدان.. لا يتحدثون إلا بالحب.. ينبّهون كل من يصادفونه بالحب.. ويقيمون مقعداً للحب في كل قلب… بهم تحيا الأرواح الظامئة للحب، وتستمع إليهم جميع القلوب التي بُعثت من جديد. ترى سمة الإخلاص وبصْمته عند الذين هاجروا بهذه المشاعر ورحلوا، وكذلك عند الذين قبلوهم واحتضنوهم.. لن تجد مصلحة أو منفعة شخصية بين من يتحدث ومن يصيخ إليه بسمعه.. بين من يعرض ما في ذاته من معنى وروح ومن يتطلع إليه.. بين من يمسك بقدح شراب الحياة ومن أفاق ورجع إلى نفسه.. بين من يقدم التأييد والنصرة ومن يؤيَّد ويبصَر، كما ليس مدار بحث عما هو خارج رضا الله تعالى. فهذه العلاقات العميقة والنابعة من القلوب تستند كليا إلى قيم إنسانية عالمية، وتنبع من التوقير والاحترام المشترك لهذه القيم.

جذور روحية : قوية وسلمية

لقد بدأنا -بعهدنا القريب- نظهر كأننا قد نسينا تماماً أننا أمة لها جذور روحية سليمة قوية، وأننا أنشأنا على مدار التاريخ حضارات متعددة ورفيعة المستوى، وبدأنا نتصرف كأمة لا تملك ماضياً. والأنكى من هذا أننا نتيجة عقدة من الشعور بالنقص بدأنا ننكر أنفسنا وننكر ماضينا. بل أصبح بعضنا يخجل حتى من هويتنا كأمة لها شخصيتها. وهكذا أصبحنا يوماً بعد يوم مبتعدين عن أنفسنا مدمنين بالقيم الأجنبية. وكم هو حزين أن أُمتنا التي كانت في ماضيها المجيد أمة تفكر وتتحدث معبرة عن نفسها، فشيدت معابد في كل مكان تعكس عقيدتها ومعايير الحسن والجمال، وغدت ذكرى طيبة للتاريخ. فما أفجع أن تهبط هذه الأمة من علياء المجد والشهامة والشهرة إلى حضيض النسيان فلا صيت لها ولا شهرة ولا توقير.

فلا تستحق هذه الأمة المصير الحزين وما كان له أن يستمر إلى الأبد، فقد استطاعت مرات ومرات أن تحول حفر الموت ووهداته بإذن الله إلى مسالك واسعة للحياة، وحولت الأوضاع التي كانت تبدو كعلامات انقراض وهلاك إلى وسائل تجديد وتطوير، مبدية كفاءة عالية ومطورة في كل مرة أساليب جديدة للسير نحو مستقبل زاهر رغم أنف بعض أصحاب المصالح الشخصية الذين لا يعرفون سوى منافعهم الذاتية، ورغم أنف المتعصبين من الملاحدة الذين ينكرون القيم الدينية وقيم الأمة، وهي على الدوام تجمع شتات نفسها في كل مرة تتعرض فيها للهزات وتقف على رجليها من جديد، منطلقة إلى العالم أجمع حاملة معها مشاعرها وأفكارها ورسالتها. أصحاب الحمية هؤلاء بعيدون كل البعد عن أي رغبة في الشهرة والصيت، لا يهتمون بالمظاهر الكاذبة، اتخذوا التواضع خلة، والإخلاص خصلة، والوفاء شيمة.. أقوياء أمام إغراءات النفس وشهواتها.. انقلبوا -بحس التاريخ الذي ورثوه عن أجدادهم- إلى حواريين مبشرين بقيمنا الملّية والدينية للدنيا كلها.. اختاروا ركوب الصعاب على الدعة والراحة قائلين “فقد ولجنا طريق الحب فنحن والهون”، فحققوا أجل حادثة لهذا العصر.

أنغام لا تشيخ

الورود في أرجاء العالم اليوم استمدت نضرتها وحمرتها ورونقها من جهود هؤلاء ذوي الوجوه النيرة ومن المعاني التي تحملها أرواحهم، والجغرافية الاجتماعية بدأت تُنسج على جمال أفكارهم مثل قماش مطرز، وبدأت الإنسانية تترنم بأنغامهم القديمة التي لا تشيخ ولا تبلى. ومع أن مشاعرهم وأفكارهم النقية تبدو في بدايتها كقطرات صغيرة، فإن الذين يدركون روح الموضوع ومعناه يعلمون بأنها تحمل ماهية بحار واسعة تتماوج بأمواج مختلفة من الهبات الإلهية.

وبسبب طبيعة هذا الأمر فإن أبطال النور هؤلاء وفرسانه اضطروا في بداية الأمر إلى تنوير محيطهم القريب منهم، أما الآن فقد ظهروا بمظهرهم الحقيقي من العمق وقوة الروح وانقلبوا إلى سحابة غيث، وإلى أنشودة فرح، وإلى بسمة أمل انهمرت على كل طرف وجانب لتشفي غليل الأرواح الظامئة للمحبة والقلوب المشتاقة للود والمسامحة وتحيلها إلى جنان ضاحكة مزهرة. يصح القول بأن الأرض اليوم تتهيأ من أقصاها لأقصاها لربيع جديد ولولادة جديدة نتيجة للبذور التي بذرها هؤلاء في كل مكان، وأن الإنسانية بكاملها -بشعور من حدس مسبق- مقبلة على فرحة تلقي نسائم بشارات هذه الولادة وهذا التحول الجديد. ومهما اختلفت الأصوات والأنغام فإن المعنى الذي ينعكس في القلوب ويستقر في الصدور هو المعنى نفسه… أما النسائم التي تهب في أوقات السحر فصوت رقراق من جدول ماء الحياة الموهوب إلى أيوب عليه السلام، وعطر إبراهيمي من عطر يوسف ليعقوب عليهم السلام.

رسالة إحياء للإنسانية

مرة أخرى، فهو أيضا رسالة إحياء بديلة للإنسانية جمعاء. والحقيقة أن الأمم المختلفة التي تعيش أزمات حادة وتتلوى من آلامها في حاجة إلى مثل هذا النسيم. فطوبى للروّاد السعداء الذين حركوا هذه النسائم! وطوبى لمن فتحوا قلوبهم لها!.

إننا نؤمن بأن الصورة الحالية للدنيا ستتغير في يوم من الأيام بفضل هؤلاء الأبطال الذين نذروا أنفسهم لإقامة صرح القيم الإنسانية وفتحوا قلوبهم للمحبة، وستتنفس الإنسانية الصعداء. ولعل الفكر الإنساني في عالم المستقبل سيسطع نورا بهم للمرة الأخيرة، وستتحقق بهم الآمال الإنسانية وأحلام المدن الفاضلة والعديد من آمالنا وأمانينا. أجل!.. لابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يتحقق فيه كل هذا، وعنده سيجثوا أصحاب القلوب الفارغة والحظوظ النكدة أمام هؤلاء الربانيين طالبين الصفح والغفران ساكبين دموع الندم. ولكنهم لا يستطيعون أبداً تلافي ما أضاعوا من فرص. وكم يتمنى المرء لو أن هؤلاء من أصحاب القلوب الفجة والمشاعر الدنيئة والأفكار المتمردة والمظلمة والتصرفات الرعناء والخشنة أن يرجعوا في مستقبل قريب إلى أنفسهم ويتبعوا طريق الحق والإنصاف ولا يلوّثوا غدهم قبل أن يأتي يوم يتلوون فيه من عذاب الضمير.

إن هؤلاء الأبطال الأسطوريين المضحين تضحية الصحابة الكرام، الساعين للوصول إلى أرجاء الأرض كافة.. الذين يهمهم إيصال ماء الحياة إلى الآخرين.. الذين لم يلتفتوا إلى مغريات حياتهم الشخصية… النابذين كل مظاهر التباهي والفخر والعجب.. الذين يظهر التواضع ونكران الذات في كل حال من أحوالهم.. لا يهدأ حماسهم وشوقهم حتى في أحلك الظروف والأوقات على الرغم من جميع السلبيات والعوائق.. أصبحوا بهذا الحماس الذي لا يفتر ولا يهمد وبإقبالهم على خدمة الإنسانية بهذه الهمة العالية أنموذجاً نادراً في التاريخ من ناحية الشهامة والإخلاص والتضحية.. تراهم يهمسون لكل من يلقونه بشيءٍٍ من أعماق قلوبهم، ويزرعون في كل مكان شتلة ليحولوا كل جانب إلى بساتين خضراء زاهرة… تراهم على الدوام في حيوية ونشاط، وفي حركة دائبة ويعبرون عن أنفسهم بكفاءة عالية يدعون الناس إلى الحياة الأبدية بعزم وإيمان وثبات وبأمل كبير في المستقبل.. قد يبدو الطريق الذي يمشون عليه طريقاً متعذر السلوك، علما أنهم أدرى به مسبقا. أجل!.. يعلمون أن الطريق سيتحول في يوم من الأيام إلى طريق وعر وشائك، ويعلمون أن جميع الجسور ستتهدم. لقد أخذوا هذا في حسبانهم منذ البداية، وأدركوا منذ اليوم الأول بأن العفاريت والأبالسة ستظهر أمامهم ليقطعوا الطريق عليهم، وأن أعاصيراً من العداء والكراهية والحقد ستثار من حولهم. أجل!.. هم على يقين بأن طريقهم طريق الحق، ولكنهم لم يسقطوا من حسابهم أن عراقيل كبيرة لا تخطر على البال ستظهر أمامهم، وتراهم يعدون كل ما ظهر وكل ما سيظهر من مشقات ضريبة طريق الحق تعالى. لذا لا يفقدون من حماسهم شيئاً ويستمرون في طريقهم مسرعين لا يلوون على شيء. ويلوذون بالله تعالى مما يقلقهم من المخاطر ويلتجئون إلى الحصن الحصين للإيمان، ويحاولون قراءة العصر الذي يعيشون فيه وحوادثه قراءة جيدة وصائبة، ويسعون اليوم وغداً للحصول على رضا الله تعالى واثقين بنصره.

وكما أنه ليس بمقدور أحدٍ أن يحرف هؤلاء الدعاة -الذين يعيشون في وحدة العقل والقلب- المستقيمي السلوك عن قيمهم التي آمنوا بها حتى الآن، فليس بمقدور أحدٍ كذلك أن يحول طريقهم الذي جعلوا محوره الحصول على رضا الله تعالى، وتعريف العالم كله بالخالق تقدست أسماؤه. لقد نذروا كل حياتهم في سبيل هذه القضية ولأداء هذه المهمة وصمدوا كالجبال الشُّمِّ لا يزحزحهم عن هذا الأمر شيء، ويَتَحَدَّونَ الأعاصير والزلازل، والرعود والبروق، واكتشفوا سر استثمار كل موسم من المواسم، فسقوا وأنبتوا الورود والأزهار وعلى شفاههم أناشيد أفراحها وحبورها.

تراهم في حركاتهم وسكناتهم كالساعة نظاما ودِقة، وتستشف في أحاديثهم وكلامهم استقامة وعواطف جياشة ونضرة. لا تجد اضطراباً في حركاتهم، ولا مرارة في أقوالهم. قلوبهم طاهرة كقلوب الملائكة ونقية، وألسنتهم ترجمان صادق لأعماق قلوبهم. لذا غدوا بسلوكهم وتصرفاتهم محط غبطة وبكلامهم وأحاديثهم مثار عواطف جياشة، لا تجد في عوالم قلوبهم سوى رغبة الحصول على رضا الله تعالى، وفي كلامهم سوى عشقا عميقا لله تعالى، وحبا للوجود، ومحبة للإنسان إشفاقا عليه وأخذه بالمسامحة والعفو. الحصول على رضا الله تعالى هدفهم الوحيد الذي صوّبوا له أنظارهم، والتفسير الصحيح للأشياء وللحوادث وتحليلها وتقييمها بصواب هوايتهم التي لا يستطيعون التخلي عنها، وحب الناس وفتح صدورهم لهم جزء لا يتجزأ من طبيعتهم ومزاجهم.

محمد فتح الله كولن

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>