بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أهله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين. وبعد، مند مدة وأنا متردد حول الكتابة عن تجربة العمل السياسي لجماعة البناء الحضاري الإسلامية في الجزائر، لكونها تجربة فتية ونظرا للمقولة التي كان يرددها أخي الشيخ محمد السعيد رحمه الله وكتبه من الشهداء والصالحين، “أن التاريخ لا يُكتب بصيغة الحاضر”.
إلا أنه دفعني لذلك اليوم ما لاحظته من نقص في المعلومات حول الموضوع فيما ورد مؤخرا في موقع الشهاب المحترم من مساهمات لطيفة لأخي الأستاذ عبد العزيز شوحة حفظه الله. وربما كنت اتمنى أن يلتزم الاخ الحبيب شوحة بالمفاهيم التي تلقيناها في مدرسة البناء الحضاري وأعرض عن رد الصاع صاعين كما حصل في بعض فقرات مقالهالمعنون: ” البناء الحضاري فكرة ومشروع وليس مجرد مسلكية حزبية”.
إنني أقدر الظروف التي تدفع المثقف الحر والمفكر الشجاع إلى الاضطرار بعض الأحيان إلى ذكر البديهيات خاصة في سوق الدعاية الرخيصة حيث تقوم بعض الجهات باستغلال الظروف الاستثنائية التي يمر بها المجتمع من أجل تصفية الحسابات مع من لا صوت لهم، والذين يحرمون من التعبير عن وجهة نظرهم وتقديم قراءتهم للأحداث التاريخية.
لقد أثارتني بعض الفقرات في مقاله وودت أن أتقدم بهذه الملاحظات الأخوية، وإنني أعلم انه يملك من سعة الصدر ما يسمح لي بتقديم هذه الملاحظات والحقائق علها تقدم قراءة أكثر شمولا لتجربة جماعة البناء وخاصة ما تعلق بالشق السياسي في مسيرتها الدعوية التي امتدت طيلة ثلاث عقود ولا تزال بحول الله تعالى:
الحقيقة الأولى تتعلق بالفقرات المتعلقة بجماعة الإخوان المسلمين في الجزائر، الإقليمية والعالمية، وصداماتها مع جماعة البناء الحضاري الإسلامية. فالذي تربينا عليه في مدرسة الجماعة هوعدم تضييع الوقت والدخول في المعارك الجانبية والاعتداء على إخواننا من مختلف فصائل الحركة الإسلامية ـ بل وكان هذا الأمر صحيحا حتى مع العلمانيين والشيوعيين ـ والحث بدل ذلك على إلتماس الأعذار لإخواننا إن هم انتقصوا من حقوقنا. لأن السبب الرئيس من وراء صراعات الماضي هوغياب الحريات في بلدنا الخاضع للنظام الأحادي.
كان همنا الوحيد هومواصلة عمل جمعية العلماء في إعادة البنية التحتية للمجتمع بعد أن تحطم نتيجة قرون من الانحطاط الذي أفضى إلى الاحتلال الصليبي الفرنسي. فلم يكن همنا احتلال المواقع والمراكز، ولوأن بعض إخواننا سقطوا في بعض الأحيان في فخ المواجهة الداخلية للصف لإسلامي والمغذاة من قبل دهاقنة الصراع الفكري اتباعا للسياسة الاستعمارية الشهيرة فرق تسد. بل كنا مدعوين للسعي من أجل تجنب الصراعات الهامشية والعمل على تكثيف الجهود لبعث الوعي من جديد بالذات وبكون الإسلام منهج حياة متكامل، والعمل لنشر ذلك الوعي على مستويات شتى مراكز المجتمع الحيوية من الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة والإدارة العامة وباقي المؤسسات الأهلية للمجتمع.
وأما الحقيقة الثانية التي أريد التطرق إليهاف تخص الفقرات المتعلقة بالمسألة السياسية وعلاقة جماعة البناء الحضاري الإسلامية بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، وخاصة بالنسبة لما جاء في مقال الأخ الأستاذ شوحة من ادعاء أن الشيخ عباسي المدني، حفظه الله، ” أقحم الجماعة في ميدان العمل السياسي”، فمع احترامي لأخي عبد العزيز، هذا كلام لا يتوافق مع الحقيقة التاريخية وهوأبعد ما يكون عن التحليل المتوازن للخطوات التي مضت في الجماعة وذلك من أوجه عدة منها:
أولا، جماعة البناء الحضاري الإسلامية تعتبر العمل السياسي جزء لا يتجزأ من البناء الحضاري للأمةوالتمكين فوق الأرض. كما أن الجماعة لا تعتقد على الإطلاق أن السياسة مفصولة عن الدين.
ثانيا، الذي فهمته القيادة الوطنية للجماعة، خاصة في عهد الشيخ محمد سعيد رحمه الله، أن العمل السياسي فرض كفائي. فبعد القيام بجزء لا يُستهان به من العمل الدعوي والتوعية وبعد ظهور فشل النظام القائم منذ رحيل الاحتلال الصليبي الفرنسي وإفلاس الدولة نتيجة سياساتها الفاشلة، بعد ذلك كله كان على أبناء الحركة الإسلامية النهوض بهذا الفرض الكفائي. لذا، خلال أحداث أكتوبر 1988 الأليمة، بدأت الجماعة في داخل أطرها الرسمية التشاور في الانتقال من العمل الدعوي السري الذي فرضه النظام الأحادي، إلى العمل الدعوي العلني العام والتفكير بالانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة وحتى في ضرورة إنشاء حزب سياسي.
ووفق هذه الرؤية العامة تدخلت الجماعة بقوة في الأحداث الوطنية آنذاك وساهمت مع باقي فصائل الحركة الإسلامية في التأثير في مجرياتها. فلم يكرهها أحد على العمل السياسي بل كان خيارا استراتيجيا مدروسا. بقي شكل العمل السياسي أو إطاره التنظيمي، هذا أمر آخر خضع لرؤية الجماعة لنظام الأولويات في العمل العام.
وكان السؤال المطروح في ذلك الوقت: هل يتخندق كل فصيل اسلامي في كيان خاص به ونظهر للرأي العام بأكثر من واجهة متشرذمين أونركز جهودنا في المرحلة الأولى على بناء كيان دعوي شامل وموحد للتيار الإسلامي؟. ولذلك كان لا بد من السعي الجاد والفعال لدفع مختلف فصائل الحركة الإسلامية الجزائرية آنذاك إلى اتخاذ موقف موحد حول مجريات الأحداث المتسارعة رغم تباين الآراء والمشارب. وذلك هوالسر من وراء حرص الجماعة على إنشاء “رابطة الدعوة الإسلامية “… الرابطة التي بفضل الله عز وجل فوتت الفرصة على الذين أرادوا من أحداث أكتوبر فرض تغيير نوعي، يتنكر لثوابت الأمة ومقدساتها، مع الحفاظعلى هيكله ورجالاته، من خلال انتخابات مزيفة يسجل عليها التاريخ “بركة الشعب” لخطة النظام.
ثالثا، مع تسارع الأحداث، والتي سنقف عندها بحول الله في شهادات أخرى، وظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي رفعت راية قيام وبناء الدولة الإسلامية كمبادرة معزولة لم تحقق الإجماع بين فصائل الحركة الإسلامية آنذاك، اتخذت جماعة البناء، بمحض إرادتها ومن داخل أطرها الرسمية، قرار الامتناع عن تأسيس حزب سياسي يشكل الواجهة السياسية للجماعة. لأنها أرادت أن تسن في المجتمع سنة حميدة وهي سنة التنوع والتخصص في مختلف الميادين الحيوية التي يقوم عليها صلاح المجتمع بدلا من التزاحم على نفس المواقع. وهوما كان يسميه أخي الأستاذ والمفكر الطيب برغوث “نظرية المرابطة في الثغور المتعددة”. وحرصت أن تكون بدل ذلك سندا للجبهة الإسلامية للإنقاذ طالما أنها، أي الجبهة، تنهض بالفرض الكفائي هذا، وتقدم المشروعالذي يجد فيه شعبنا المسلم ضميره وآماله وانشغالاته. وهكذا دعمت الجماعة الجبهة بالمشاريع وبالرجال… {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}…
صحيح أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ اليوم أصبحت عاجزة، وغياب المبادرة من داخل قيادتها الحالية وبسبب المناخ السياسي العام في البلاد المغلق باعتراف كبار السياسيين أمثال العميد الأستاذ مهري ورئيس الحكومة السابق حمروش وغيرهم، وهذا لا يعني أن جماعة البناء ليس من حقها العمل السياسي إذا رأت أن الضرورة تحتم ذلك وفقا لمبدأ الأولويات وسنة التدافع وحق توظيف الوسائل المتاحة لترشيد وتفعيل المناخ السياسي الوطني والنهوض بواجب الوقت والمرحلة كما كان دأبها دائما.
فلم يقحم الشيخ عباسي المدني جماعة البناء الحضاري الإسلامية في العمل السياسي، بل كان خيارا استراتيجيا للجماعة وتطور طبيعي لعملها التربوي الدعوي. والجماعة بمحض ارادتها ووفق مناقشات منهجية واسعة في صفوفها رأت أنها لا تنشأ واجهة سياسية جديدة تزيد في انقسام الصف الإسلامي، بل تدعم ما هوموجود وتؤازره دون أن يعني ذلك الذوبان فيه أواحتواءه كما يتصور بعض المراهقين السياسيين الخاضعين لأوهام نظرية المؤامرة، لأن للجماعة أسلوبها الخاص ومنهجها الدعوي المتميز وتنظيمها الإداري المستقل.
نعم، إننا لم نتفق مع الشيخ عباسي فيما يخص أسلوب المواجهة والمناطحة المستفز الذي كانت البلاد في غنى عنه. وقدمنا تحفظاتنا بأشكال مختلفة لكن واجب التضامن الأخلاقي والمعنوي كان يحتم علينا تحمل قسط من الأخطاء المزدوجة (أخطاء النظام والجبهة)(1) والمشاركة في تحمل عبء وعدم التخلي عن اخواننا في اللحظات الحرجة.
لكن، وهذه الحقيقة الثالثة التي أريد التذكير بها وهي أنه بفضل من الله ثم بفضل جهود السياسيين من أبناء الجماعة الذين عملوايدا بيد مع الجبهة بأمر من الجماعة، استطعنا، بمعية اخوة آخرين حفظهم الله، فرض نهج أصبح فيما بعد يُعرف بالخط الأصيل للجبهة، واستطعنا هكذا تهدئة الأوضاع شيئاً ما، خاصة بعد انعكاسات الإضراب المفتوح الذي أعلنته قيادة الجبهة دون أن تتشاور مع شركائها… وتم احتواء الموقف وتفويت الفرصة على كل من أراد ان يجر البلاد إلى حمام الدماء مبكرا في جوان 1991 وهذا ما يعترف به القريب والبعيد وكل ملاحظ منصف لتجربة القوس الديمقراطي في الجزائر مطلع التسعينات.
وفرض على النظام القيام بانتخابات محلية وبرلمانية شفافة وسلمية، وفي إطار تعددية حقيقية عبّر من خلالها الشعب بكل حرية على قدرته على الانتقال بطريقة سلمية من نظام أحادي اشتراكي زبائني إلى نظام مدني تعددي… لكن بعض الاطراف في السلطة حولت المعركة من الميدان السياسي، الذي انهزمت فيه رغم كل التدابير الوقائية والاحترازية التي اتخذتها، إلى الميدان العسكري وأدخلت البلاد في حمام من الدماء والدموع وورطت الشعب الجزائري ورطة تاريخية سيبقى يدفع ثمنها غاليا…
المهم اليوم علينا تفادي الصراعات الهامشية، والتفكير الجاد في سبيل إخراج البلاد من دوامة المواجهة ودفن الأحقاد.
والخطوة الأولى تكمن في نظرنا في استعادة الحقيقة وحفظ ذاكرة المجتمع حتى تبقى حية لنتمكن من تضميد الجراح ومعالجة مخلفات مصادرة حق الشعب في الاختيار… والحركة الإسلامية أيضا عليها الاعتراف بالتقصير في ميادين كثيرة نتيجة لضعف الخبرة ونتيجة للمكائد الكبيرة التي يمارسها المتنفذون ونتيجة لضعف الوعي الاستراتيجي لدى قطاع واسع من أبنائها. والأهم من ذلك عدم تكرار خطأ اسناد مهام الدعوة إلى غير المؤهلين والتسامح مع المعاقين فكريا وسلوكيا حتى يفرضوا أجندتهم على الدعوة الإسلامية ربما بسبب تأخر المثقفين وحذرهم الشديد بينما يندفع المغامرون دون حساب للعواقب فتكون النتائج كارثية.
إن المسألة الوطنية تستدعي تكاثف جهود الخيرين أينما كانوا، وخاصة أبناء وبنات الصحوة الإسلامية، صحوة أمل المستقبل والبديل الحقيقي للتيار الوصولي والانتهازي المتنفذ في بلدنا الجزائر، للوصول إلى بر الأمان والخروج النهائي من الأزمة وللتفرغ لمعالجة آثارها والتحضير لانطلاقة وطنية حقيقية تقوم على احترام إرادة الشعب ووحدته وسلامة أراضيه وثوابته الوطنية.
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون} صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
———–
(1) هذا لا يعني أننا نسوي بين الجلاد والضحية.
بقلم: أنور نصر الدّين هدام
> عن موقع الشهاب