العشق العميق ومفتاح المحبة
عندما يعبِّر العشاق المتيمون بعشقهم العميق عن موقفهم من الله تعالى يستطيعون بسر مفتاح المحبة أن يلينوا الطبائع القاسية حتى تغدو كالشمع ليونة ويفتحوا القلوب الصدئة والعفنة وبذلك يؤدون حق ما حظوا به من تكرم رباني. فيُحَبّون ويُحِبُّون، لا يهتزون تجاه أقسى الهجمات ولا يتزلزلون، بل يثبتون في أماكنهم كالجبال الشم بعزم يقارب عزم الأنبياء، وعندما ينظرون إلى ما حواليهم ينظرون بنظرة سماوية، لا يسقطون ولا يتهاوون أمام العواصف الهوجاء، ولا يهتزون أمام الزلازل الشديدة. ويفتحون صدورهم للأمواج العاتية وللرياح العاصفة، ولا يبخلون عليها بقبضة من تراب هذه الشواطيء عندما ترتد هذه الأمواج عن شواطيء قلوبهم.
هؤلاء الرجال الشهمون مدركون بأن قلوبهم متعلقة بأجَلِّ مهمة وأنبلها تلك هي رضا الله تعالى، وهم عازمون على التصدي لأي شيء للوصولإلى غايتهم. عندما تنظر إليهم كأشخاص تراهم في منتهى التواضع، يحترقون كالشموع لينيروا ما حواليهم، ومع أنهم يظهرون عدم المباهاة مستعدون في كل آن للتحليق كالطيور في السماء والتسابق مع الربانيين. وحتى عندما يبدون دون حراك في الظاهر، إلا أنهم بفعاليتهم الداخلية في حيوية مستمرة، وعزم راسخ وفي حمى من الحركة الدائبة. هم كالبحار تسقي سواحلها بأمواجها، وأحيانا تخفف بأمطارها حرارة أماكن بعيدة عنها. ومهم يقدمون ماء الحياة للجميع.. إلى القريب والبعيد، وينفخون روح الحياة في الأجساد التي فقدت معنى الحياة وأصبحت ميتة قبل سنين وأعوام. يقصون لمن حولهم على الدوام بلسان الروح قصص القلب، ولا يشاركون في أي إشاعة أو نقاش يؤدي إلى زرع أي نوع من أنواع الكره والحقد في المجتمع.
يعيشون على الدوام على أمل أن يكونوا نافعين للناس جميعاً، ويحسون في أعماق أرواحهم بآلام الإنسانية جراء مشاكلها المختلفة وأزماتها المعنوية. يفتحون صدورهم لكل من يقترب منهم.. يستمعون للشكاوى.. ويئنون لها.. ويبحثون عن أصحاب القلوب المكلومة ويضعون أيديهم بأيديهم لكي يعالجوا آلام البائسين، ويمسحوا الدموع عن أعينهم. وعندما يأتي الوقت المناسب يتصدون لإخماد نيران الفتن وشرارات الفساد، ولا يزرعون غير الأزهار والورود حتى بين الأشواك وعلى شفاهم أناشيدها وبهجتها.
تتحول أحياناً قسماتهم الوردية – التي تشبه البراعم المتفتحة- إلى حمرة قانية نتيجة ما يجابهونه من آلام وأشجان، وتصل بهم الحال أحياناً إلى درجة يحسون معها أن قلوبهم ستتفطر كمداً وحزناً، وتتحول النغمات التي يترنمون بها إلى ما يشبه الصراخ، ولكنهم على الرغم من كل هذا يسيرون نحو أهدافهم راضين يشيعون لمن حولهم الإبتسامات وإن كانت صدورهم تحترق ناراً، فتخضر الأماكن التي يمرون بها، وتنقلب إلى بساتين وحدائق خضراء كجنان الجنة، والذين يمسكون بأيديهم ويعاونونهم يُبعثون كمن شرب من ماتبهر العيون…ماء الحياة… الخدمات التي يقدمونها تكون كاليد البيضاء لموسى، جهودهم ونشاطهم تفضح حيل جميع السحرة، وتتهاوى الأفكار الفرعونية عند كل بلد يحلّون فيه وتفلس.
يملك هؤلاء غنى في الإفضال والهبات الإلهية النابعة من الإيمان، بحيث أن ما كان يملكه قارون من خزائن وأموال تعد بجانب هذا الغنى وهذه الثروة فُتاتاً ومن سقط المتاع. بل يستطيعون بهذه الثروة الإلهية وبهذا الغنى أن يشتروا العوالم. كفة أعمارهم ربحاً ومواهب، مملوءة على الدوام. أما كفة الخسارة عندهم فهي فارغة إلى درجة تدفع الشياطين إلى غضب مجنون.
استثمار رأسمال الحياة
يعرف هؤلاء جيداً أين يستثمرون رأسمال حياتهم وكيف يشرون بكل مهارة الحقائق الباقية والخالدة بالأشياء الفانية والزائلة. لا يصرفون أوقاتهم هباءً وفي أمور لا تنفع، ولا يستسيغون أبداً التأخر عن أداء الخدمات الإيمانية. همتهم عالية، إرادتهم صلبة، عزمهم مستمر. الإيمان والحركة والنشاط من أهم مميزات قلوبهم ومزايا سلوكهم. لا يخافون أحداً إلا الله، ولا يخشون غيره، يقفون أبداً منتصبي القامة، مرفوعي الرأس، ويمضون مرفوعي الهامة لتنوير العالم بكل تواضع. تراهم على الدوام متواضعين قد خفضوا أنظارهم إلى الأرض. يهبون أحياناً كالريح بأفكارهم السماوية لينثروا بذور الخير في كل مكان، وأحياناً ليهطلوا كالغيث على كل موضع ليكونوا رسل حياة على سطح الأرض… لا يزلزلهم سوء أحوالهم المعيشية، ولا كساد تجارتهم، ولا الأزمات والمشاكل الحادة المتتابعة التي تعصف بآمالهم. كثيراً ما يجددون عهدهم وموثقهم.. يستخدمون كل نعمة من نعم الله المعنوية والمادية الموهوبة لهم في إقامة صروح أرواحهم لإحياء شعائر الإسلام. فأينما كان الدين ورضا الله كانوا هناك ويسعون لتحقيق أوامره تعالى. وعندما يقومون بكل هذا يبذلون عناية خاصة في أن يكونوا ناجحين في أعمالهم الدنيوية إلى درجة أن الذين يرون هذا النجاح ولا يعرفون هؤلاء الرجال الشهمين بهذا الجانب لا يتصورون أن لهم أي علاقة مع الدين والحياة الآخرة. وعندما يشاهدون ارتباطهم الوثيق برضا الله تعالى ينذهلون من عشقهم هؤلاء ويهتزون ويحسبون كأنهم بين صفوف الرعيل الأول.
لا يحب هؤلاء أبداً البقاء دون عمل جاد، ولا صرف أعمارهم فيما لا ينفع ولا يجدي، بل هم في حركة دائبة يسعون لإعمار دينهم ودنياهم: فإن كانوا يعرفون القراءة والكتابة حاولوا كتابة بعض الصفحات، وإلاّ أهدوا قلماً لمن يعرفها باذليه ما بوسعهم لإدامة مشاركتهم في قافلة الخدمة. يحبون العلم على الدوام، ويوقرون العلماء، ويجالسون أصحاب القلوب اليقظة والعقول النيرة فيتنفسون بذكر المحبوب تعالى ومعرفته.
لو لم يبق فوق سطح هذه الأرض إنسان حقيقي، ولو غطت السحب والدخان الآفاق من جهاتها الأربعة، ولو غرقت الطرق والأزقة بسيول من الأوحال، ولو حاصرت الأشواك كل مكان، واستولت أشجار الزقوم على أماكن الورود والزهور، ولو استولت الغربان ونعيقها على الميادين والساحات، وطغت على تغريد البلابل، وتزاحمت الزنابير حول أقداح العسل، وسادَتْ وحشة الغابات المرعبة طرقنا وأزقتنا، ولم تبق للعلم حرمة ولا توقير، وطردت المعرفة من كل الديار، وأصبحت الإنسانية ضحية للغدر وقلة الوفاء، وزالت الصداقات وانقلب الأصدقاء إلى أعداء… لو حدث كل هذا لثبت هؤلاء في مكانهم بكل رسوخ دون أن تزل أقدامهم وكل منهم يقول: “يجوز أن ينقلب كل شيء رأساً على عقب، ولكن المهم أنني واقف على قدمي بثبات… قد تتحول كل ناحية إلى صحراء جرداء، ولكن المهم أنني أملك نبعاً من الدموع… لقد وهبني الله زوجاً من الأقدام لكي أمشي، وقبضتين لكي أعمل، وأملك إيماناً هو رأسمالى وقلباً حصيناًلا يخترقه العدوّ.. هناك فرص تكفي لإعمار العوالم تنتظر استثمارها، وأنا أستطيع -استناداً إلى عون من ربي- أن أقلب العالم بهذه الملكات إلى جنان وارفة الظلال… وما دامت كل بذرة تنبت سنابل عدة فلِمَ اليأس من المستقبل، ولِمَ هذا الغم والهم؟!. ولا سيما إن كان الله تعالى يعد بمضاعفة كل خير آلاف الأضعاف في العالم الآخر..” يقولون هذا وهم يسيرون في طريقهم نحو أهدافهم على الرغم من الطرق الخربة والجسور المتهدمة. يسيرون وهم ينشرون الحياة لحواليهم كالنهر المتدفق، ويطفئون حرقة وغليل وظمأ كل واحد.. وهم كالنار تضطرم للحفاظ على الآخرين من البرد والقر، وكالشمعة تحترق وتذوب بعد أن يسيل النور إلى آلاف العيون.. أحياناً يترصدون في الكمائن كأرباب الليل ويفتحون صدورهم لاستقبال نسائم الرحمة… وأحياناً يئنون في الأوقات والساعات المباركة ويتأوهون ويتوجهون لنيل عناية إلهية فائقة. هذا الطريق الذي يمشون عليه هو الطريق الذي سلكه ويسلكه أرباب القلوب، لذا لا تجد أحداً يضيع فيه، أو لا يصل إلى هدفه.
ترى هؤلاء على الدوام مترعين بالإيمان والأمل والحماسة، كرماء إلى درجة التضحية بما يملكون في سبيل الحق تعالى، يقضون أعمارهم في حمى البذل رجاء نيلهم عمّا فعلوه هنا أضعاف مضاعفة من الثواب. فقد وقر في أنفسهم أنه لا توجد هناك مرتبة أرفع ولا أسمى من مرتبة من ينذر حياته في صيانة الدين ورعايته وتمثيله في أرجاء المعمورة بمستوى لائق ورفيع. وهم يعدون الوصول إلى هذه المرتبة الغاية الوحيدة لحياتهم، وأن حكمة وجودهم في هذه الحياة هي تحقيق هذا الهدف ليس إلا. يتنفسون على الدوام هذه المشاعر والأحاسيس، ويجتمعون لتخطيط أفكارهم. ويعمقون اجتماعاتهم بربطها في سبيل الله، حتى أن سكّان الملأ الأعلى يباركونها ويهنئون أصحابها ويدعون لهم بالنجاح والتوفيق.
لا يفكر هؤلاء في راحةأنفسهم. فألسنتهم رطبة بكلمة “الله” و “الفضيلة” على شفاههم على الدوام. يهرعون إلى القيم الإنسانية. ويفتحون صدورهم للجميع متبعين سنة الأنبياء في هذا، ويعيشون على الدوام من أجل الآخرين. وبسبب مدى إخلاصهم يمد الله تعالى يد العون والمساعدة لرجال القلب والمشاعر هؤلاء أجنحة كأجنحة الملائكة في وقت عصيب شديد لا تنفع فيه الإيدي والأرجل، فيشرفهم في الدنيا بتوفيقٍ مفاجئ ونجاح غير متوقع، وفي الآخرة يسعدهم بظلال الوصال والقرب، ويجعلهم ضمن الربانيين ويغدق عليهم النعم الخاصة بضيوفه المميزين، ثم يتوّج هذه كلها برضوانه سبحانه وتعالى.
محمد فتح الله كولن