تقديم
اتهم المغاربة دائما بأنهم أغفلوا أعلامهم وأهملو الترجمة لهم حتى طواهم النسيان وضاع ذكرهم وعلمهم. وربما صدق الشيخ محمد العربي الفاسي حين يقول في (المرآة) : “ووسموا المغاربة بالإهمال ودفنهم فضائلهم في قَبْرَيْ تراب وإخمال، فكم فيهم من فاضل نبيه طوى ذكره عدم التنبيه، فصار اسمه مهجورا كأن لم يكن شيئا مذكورا”(1). ويقول العلامة عبد السلام القادري : “وكم عالم كبير وولي شهير، في القطر المغربي، أهمل التعريف به المغاربة المتقدمون منهم والمتأخرون، بمن جهل حاله وزمانه”(2). ويقول صاحب (التنبيه على من لم يقع به من فضلاء فاس تنويه) : “ومعلوم من شأن هذه البلاد عدم الاعتناء بالتعريف، والتصدي لذلك بتأليف أو تصنيف، فكم من إمام مضى، موصوف بالعلم أو مشهور بالخير والصلاح، لم يقع لهم به اعتناء واحتفال، بل ألقي في زوايا الإغفال والإهمال”(3). وعلى هذا المنوال يؤكد الفقيه الكانوني أن المغاربة لم يهتموا بتراجم الرجال “فكم ضاعت من رجال وانطمست من محاسن واندثرت مفاخر يفخر بها الإسلام والعروبة”(4)
نسب الفقيه الخرشفي
هو “محمد المفضل بن سيدي الحسن بن سيدي عبد الله بن الحاج أحمد بن الحسن بن يحيى بن الحاج أحمد الخرشفي الحسني أزيات”(5).
ولد أبوه بمدشر أمرازي بقبيلة الأخماس السفلى، وانتقل إلى مدينة شفشاون عام أربعة وستين ومائتين وألف (1264هـ) وبهذه المدينة ولد مُتَرجَمُنا الفقيه المفضل أزيات صبيحة يوم الإثنين من ربيع الثاني عام سبعة وستين ومائتين وألف للهجرة (1267هـ) بحي الصبانين كما ورد في تقييد لوالده : “الحمد لله، ازداد لنا صبي قبل طلوع الفجر يوم الإثنين سابع عشر ربيع الثاني عام سبعة وستين ومائتين وألف هجرية بشفشاون وسميناه المفضل، تفضل الله علينا وعليه بطاعة الله وتقواه”(6)
ذاق الفقيه أزيات مرارة اليتم منذ حداثة سنه إذ توفي والده وهو ابن بضعة شهور، فتكفلت أمه بتربيته والعناية به. وتزوج فقيهنا أربع مرات، فكانت زوجته الأولى من عائلة أولاد عياد الشفشاونية وخلف بنتا سماها خديجة، وتزوج ثانية من مدشر اشروطة ببني حسان من عائلة أولاد خرباش، وتصاهر مع الفقيه محمد بن ميمون ورزق من زوجته الثالثة ببنت، أما الرابعة فكانت حفيدة شيخه عبد القادر بنعجيبة الذي أسكنه بمنزل أمريرن.
تكوينه العلمي
أجمعت كل المصادر التي ترجمت للشيخ المفضل أزيات على أن المسار الذي قطعه في طلب العلم ظل مسارا غامضا، إلا أن العلامة المحقق الأستاذ سعيد أعراب رحمه الله ذكر أن أخواله هم من تكفل بتعليمه بأولاد المقدم بالأخماس قبل أن ينتقل إلى مدشر(اغبالو) حيث حفظ القرآن وأتقن فهمه ورسمه وضبطه(7).
والراجح أنه تبحر في العلوم الشرعية فما تركه من رسائل في مختلف المواضيع من تصوفوفقه وفتاوى وشعر خير مثال وأبرز دليل على ذلك. كما يشهد له بإجادته للغة الضاد وعلومها، فأسلوبه النثري في رسائله وفتاواه وأسلوبه الشعري في قصائده المتعددة الأغراض لا تدع مجالا للشك ولا موطئًا لريب. وقد خولت له آفاقه المعرفية الشاسعة أن يتبوأ مكانة حفية بين علماء ومشايخ عصره فقد “كان آخر شيوخ التصوف بجبال شفشاون” كما ذكر العلامة ذ.سعيد أعراب(8).
وقد وصفه العلامة محمد الفرطاخ ب”ينبوع اللطائف والعرفان، ومعدن الفضل والإحسان، ونبراس الفصاحة والكمال، وشمس العلوم والمواهب التي لا يعتريها كسوف ولا زوال، الكامل، القدوة الواصل، الوالي الرباني”(9). وحلاه صاحب فهرس الفهارس في فهرسه بقوله : “الصوفي الناسك القاضي أبو عبد الله محمد المفضل بن الحسن أزيات الخرشفي”(10).
وظائفه
أهلته مكانته وعلمه الغزير أن يشغل عددا من وظائف الخطط الشرعية، فاشتغل أول الأمر بالعدالة والتوثيق بمدينة شفشاون، ثم تقلد القضاء بإيعاز من الصدر الأعظم ابن عزوز التطواني كما ذكر ذ. سعيد أعراب (11) في حين ذكر آخرون(12) أنه تولى القضاء بطلب من قائد منطقة بني سعيد في عهد الحماية محمد القرفة. وكان هذا الأخير لا يتوانى في استغلال أية فرصة تتاح له للنيل من الشيخ وإيذائه والتضييق عليه. ولهذا السبب نجد الفقيه أزيات كثيرا ما كان يضرع لله تعالى ليدفع عنه هذا البلاء، وطلب مرارا إعفاءه من خطة القضاء. وقد استعفى أول الأمر من الفقيه الرهوني قاضي قضاة تطوان إلا أن هذا الأخير رفض طلبه، فبعث برسالة إلى صديقه وزميله العلامة القاضي محمد الصادق بن ريسون يرجوه فيها أن يتوسط له لإعفائه فباءت محاولته بالفشل. إلا أن ذلك لم يحبط من عزيمته ولم ينل من إصراره فتجلد بالصبر، واستغل فرصة اجتماع قضاة المنطقة الشمالية ووقف فيهم ملقيا قصيدة يطلب فيها صراحة من المقيم العام أن يعفيه من منصبه معللا طلبه بكبر سنه (ثمانون عاما) وبعدم قدرته على العمل فرفض المقيم طلبه مجددا مشترطا الموافقة الجماعية لمجلس القضاة، فوافقوا على إعفائه.
تصوفه
بعد الاستعفاء من القضاء تفرغ فقيهنا كليا للزهد والتنسك، فأخذ يبحث عن شيخ يأخذ عنه ويسلك مسلكه، فاتصل أول الأمر بالشيخ مولاي علي شقور العلمي الذي كان نجمه ساطعا بشفشاون إلا أنه اعتذر له متعللا بكونه لم يبلغ درجة المشيخة ليتخذ مريدين. وأمام “هذا الامتناع والصد لم يكن منه إلا أن هام بفكره وجسده في القبائل الغمارية، حتى انتهى به المطاف في قرية بني بغداد ببني سعيد حيث لقي الشيخ عبد القادر بن أحمد بن عجيبة” الذي طبقت شهرته الآفاق وسارت بذكره الركبان.
بعد وفاة الشيخ عبد القادر بن عجيبة تتلمذ الفقيه المفضل أزيات على ابنه الأكبر أحمد، فختم على يده تفسير البحر المديد لجده، وكان ينوب عنه في تسيير شؤون الزاوية. وعندما توفي بن عجيبة الحفيد خلفه فقيهنا في المشيخة فقام بتجديد طريقة “خرق العوائد” وإدخال تعديلات عليها بسبب نفور الناس منها لقسوتها وصعوبة تطبيقها وضغط الاستعمار على شيوخ الزوايا لتطوير الطرق الصوفية. فلم يأمر بارتداء الأسمال والمرقعات أو التسول أو السير في الأسواق بالذكر كما أمر الشيخ عبد القادر مريديه(13). واكتفى بعقد مجالس الذكر والسماع والقيام بالدعوة للطريقة في القرى والبوادي وحث الناس على الأخذ بها، أما نظريا فقد حافظ على ما تعلمه من شيخه من مبادئ وأسس التصوف وهو ما عكسته رسائله وتقاييده.
مصنفاته
كان الشيخ المفضل أزيات غزير الإنتاج كثير الكتابة، خلف آثارا أدبية وعلمية منها :
- الكوكب النوري في تنقيح الجمع الحقيقي والصوري”.
- “لبابة العقائد” وهي منظومة في العقيدة الأشعرية.
- عدة رسائل أبرزها(14) :
1- رسالة بعثها إلى الشيخ محمد بن الصديق جاء في مطلعها : “حياك الله بتحيات القدس كماله وزكيات أنس جماله، مطلع الشمسين وبرزخ البحرين، العارف الواصل ذا المدد المتواصل الجامع لأشتات الفضائل، العلامة الناصح الولي العارف الكبير أبا عبد الله سيدي محمد بن الصديق المومني الحسني”(15).
2- مراسلات مع الشيخ العلامة عبد الحي الكتاني(16)
3- رسالة في خمس صفحات عبارة عن جواب فيما يخص السماع والرقص يبرز فيها قول الشيخ أحمد بنعجيبة في شرح البيتين الواردين في المباحث الأصيلة لابن البنا السرقسطي :
وللأنام في السماع حوض
لكن هذا الحزب فيه روض
قال العراقيون بالتحريم
قال الحجازيون بالتسليم
4- رسالة غير مؤرخة من صفحتين ونصف موجهة إلى أخيه في الله الفقيه العربي بن أحمد الزكاري بعد أن وصلته منه رسالة يشير فيها إلا خلاف وقع بينه وبين بعضهم على لفظة كلام الشيخ أبي مدين.
5- رسالة إلى فقراء قبيلة بني أزيات يضمنها الدعاء لهم ويحثهم على التعبد والذكر.
فتاواه
وتأكيدا لعطائه في مختلف المجالات المعرفية انتدب للإفتاء، فكانت له مجموعة من الفتاوى أجاب فيها عن مختلف القضايا الشرعية والنوازل الفقهية، إلا أن جلها ضاعت في ثنايا الزمن ولم يكتب لها البقاء وعدت عليها العوادي وما نجا منها لازال حبيس الأدراج أو قابعا بين ركامات الوثائق المهملة أو يضن بها المضنون وقد استطاع الدكتور الهبطي المواهبي رحمة الله عليه جمع بعضها بعد جهد جهيد في كتابه (فتاوى تتحدى الإهمال)(17) يقول في هذا الصدد : “ومع الأسف فإن عيني لم تجل إلا في إحدى عشر فتوى منها، هي التي نقلتها عنه ووضعتها ضمن ما جمعته من فتاوى هذه الفترة للدراسة”(18).
وتتميز هذه الفتاوى بكونها قصيرة الطول مختصرة، تختتم أغلبها بذكر الناسخ على لسان المفتي موثقا هذه النصوص، ودعاؤه:”لطف الله به آمين” .
—————-
1- (مرآة المحاسن)ص69
2- (سلوة الأنفاس)1/4
3- (سلوة الأنفاس)1/4
4- (جواهر الكمال)1/93
5- هكذا كان يدون اسمه في رسائله
6- (محمد المفضل أزيات-حياته،آثاره،شعره)-ص6- بحث لنيل الإجازة في الأدب العربي -إعداد الطالب خالد الريسوني-كلية الآداب والعلوم الإنسانية/تطوان- السنة الجامعية88/1989
7- (معلمة المغرب)-2/376
8- (معلمة المغرب)-2/376
9- (مفتون منسيون)-ص176
10- ج2-ص255
11- (معلمة المغرب)-2/376
12- مثل د.محمد الهبطي المواهبي (مفتون منسيون-ص134)، والأستاذ علي الريسوني (محمد المفضل أزيات nحياته،آثاره،شعره)-ص13
13- (محمد المفضل أزيات nحياته، آثاره، شعره)-ص19
14- (معلمة المغرب) ص2/373-374 و(محمد المفضل أزيات -حياته،آثاره،شعره) -ص26-38.
15- التصور والتصديق) -الشيخ أحمد بن الصديق -ص176
16- 855/2.
17- (فتاوى تتحدى الإهمال في شفشاون وما أحاط بها من جبال) -جزءان- منشورات وزارة الأوقاف المغربية.
18- (مفتون منسيون) -ص135
بقلم : عدنان الوهابي