2- الموت والبقاء
إن القضية الكبرى التي ينبغي أن تستقطب عقل الإنسان ومشاعره هو الإيمان. وجود الإنسان وجوهره ومصيره وعلاقته بالكائنات منوط بالإيمان. والواقعة المهمة التي تجعله يواجه هذه القضية ماثلة أمامه، ملاحقة إياه في الحل والترحال، هو الموت “ما دام الموت لا يُقتل، وباب القبر لا يُقفل فأعظم ما يشغل بال الإنسان، وأكبر معضلاته، هو النجاة من يد الموت الجلاد والخلاص من سجن القبر على إنفراد!(9) فما الموت، وما البقاء في نظر النورسي؟ ولقد تسرب من ثنايا النصوص السالفة شئ عن الموت، وأنه باب إلى البقاء بالإيمان، وجلاد للفناء والعدم في المنظور التائه المنكر. مشاعر النورسي المرهفة تتضور ألما، بل تتهاوى في عذاب كعذاب الجحيم لصورة الفناء بالموت:
” كم حزنت واضطربت زمانابروح آسف،
على زوال أزاهير الربيع في زمن خاطف،
وتألمت وتعذبت لحال تلك اللطائف.
لكن ومضة من حقيقة الإيمان
أظهرت أنها بذورٌ في عالم المعاني،
تثمر شجراً وسنبلاً -عدا الروح- من كل الألوان.
فما غنمته الأزاهير من حيث نور الوجودِ، هي ألفٍ ضعف وضعف من الوجود المفقودِ،
زيادة، أن لها في كل تجديد،
كسبُ طيفٍ من أطياف الخلود.
فوجودها الظاهر ما أصابه الفناءُ،
بل عرض عليه ستار وخفاء!
هكذا يسيح النورسي في صفحات طويلة من الرسائل(10) آسياً، حزينا يعرضِ الفناء الذي يصيب الكائنات، بموجوداتها كلها جماداً وحيوانا، سياراتٍ وحشراتٍ، فيحزن حزن الثكالى، بل وأعظم. ولو لا أن يدركه الإيمان بالدواء لانشق صدره كمدا، وذاب في نار الأسى. ذلك أن الفناء الساري في ظاهر الأشياء، ليس إلا غفلة عن حقيقة الإيمان، وتخيل هذا الوهم آناً لهو عذاب لا يطاق أشد من الحميم.. فإن جهنم أرحم من العدم المحض، حتىللكفار المخلدين فيها فحين يشع نور الإيمان، تصير الوحشة أنسا، والياس رجاء، والخوف أمنا، والحزن فرحاً وسلواناً: الماضي مقبرة كبرى رهيبة، وبالإيمان مجلس منور مؤنس وملتقى أحباب الحاضر تابوت بنظر الغفلة، وبالإيمان متجر للآخرة ومضيف كريم للرحمن والثمرة الوحيدة في ذروة شجرة العمر نعش وجنازة بالغفلة، وبالإيمان تحليق من وكر قديم نحو آفاق النجوم ورميم العظام من تراب بداية خلقتي، ليس حقيرا فانيا ومداساً للأقدام، بل ترابا لباب الرحمة، وستاراً لسرادق الجنة. ثم أن النظر الإيماني بفضل أسرار القرآن العظيم الشأن يُشهِدُ أن أحوال الدنيا وأطوارها ليس انهياراً وتدحرجاً في ظلمات العدم -كما تصور نظر الغفلة- بل إيفاء رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية وصحائف نقوش الأسماء السبحانية لوظائف مناطة بها، وإفادة لمعانيها، وإكمال لغاياتها في الوجود وأن القبر الذي فَغَر فاه منتظراً ومراقبا بنظرحديد، ليس فوهة بئر مظلم، بل باب إلى عالم منور، وأن طريق الأبد ليس أبد الظلمات والعدم، صراط مستقيم إلى دنيا النور وعالم الوجود في السعادة الخالدة”(11) لقد واجه النورسي حقيقة الموت واقعاً. بالمحاكمات والتسميم حتى أنه يعد بقية عمره هبة من الله تعالى لوظيفة خدمة القرآن، وواجهها شعوريا وحسيا في معاناة بتطرق إليها في مواضع كثيرة من الرسائل. ويصور أحيانا معاناته تصويراً شعورياً رقيقاً ليصل إلى الإيمان والأسماء الحسنى وشفاعة النبي ولطائف الإنسان بعدد وهم الفناء والعدم: “إذ يتقرر بشعور إيماني أن ماهيتي تكون ظلاً لأسم باقٍ، لأسم سرمدي، فلا تموت”. “.. في يوم من أيام الخريف وقت العصر، طفت بنظري على الدنيا من ذروة جبلٍ، فشعرت فجأة بحال في غاية الرقة والحزن، متسربل بظلمات، يدب في أعماقي. فرأيت كأني قد بلغت من العمر عتيا، وكأن النهار قد شاخ، ثم السنة أكتهلت، ثم الدنياعجزت. فهزني هذا الهرم الذي يغشى كل شئٍ هزاً عنيفا إذن أقترب وقت مفارقة الدنيا ومفارقة الأحباب”(12) “أفقت من نوم ليل الشباب في صبح المشيب، وتأملت نفسي، فكأنها تنحدر في سعيها من عل إلى سواء القبر! فبدني، مأوى روحي، يتداعى ويتساقط حجراً فحجراً كلما مرّ يوم، وآمالي التي تشدني بعراها إلى الدنيا شداً، تنفصم أوثاقها وينكث غزلها فطفت مفتشاً علنّي أجد ضماداً لهذا الجرح الغائر. وبدا لي أن لا دواء ناجع له! وبينا أنا في هذه الحال، إذا بنور رسول الله الذي هو رحمة للعالمين.. وإذا بشفاعته، وبعطيته من هدية الهداية اللبشرية، بلسمٌ شافٍ، ودواء ناجع للداء العضال الذي ظننت أن لا دواء له. فتبدل يأسي القاتم إلى “نور الرجاء الساطع”. “النهار تبدل إلى قبر مدلهم الظلام، والدنيا لبست كفنا أسود، فكذلك نهار عمرك يتبدل إلى ليل، ونهار الدنيا إلى ليل البرزخ، ونهار صيف الحياة إلى ليل شتاءالموت”(13) فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدني بنور باهر لا ينطفئ أبداً، ورجاء لا يخيب البتة”
——-
9 – النورسي/ كليات رسائل النور/ الشعاعات- 4/ المصدر السابق/ ص 80
10 – أنظر إلى رسالة الشيوخ مثلاً: الكليات/ اللمعات/ المصدر السابق
11 – النورسي/ الكلمات/ اللمعات/ المصدر السابق/ ص 353 (بتصرف)
12 – النورسي/ اللمعات/ رسالة الشيوخ/ المصدر السابق/ ص 343
13 – النورسي/ اللمعات/ رسالة الشيوخ/ المصدر السابق/ ص 343،344،350،347
ذ. عوني لطفي اوغلو
مركز كوبرو ( الجسر) للدراسات -استانبول