وقفت وفؤادي هواء،، مشدوهةَ، أحملق في عالم مهرجانات الأفراخ عندنا، كأنما انقذفت في عالمهم الغرائبي من كوكب بعيد. كان الوقت ليلا وجغرافية الحدث ساحلية، قرب شاطئ لا كورنيش بحي العنق، والفضاء فضاء دردكة بامتياز , يا ألله ألا نرث عن عهد التشيخ إلا حالة الهياج هذه المستديمة، والركل والرفس بدون انقطاع؟! أم هي العادة “ولافة”، ومن عاشر قوما أربعين يوما أصبح منهم.
على مد البصر تجمهر مئات إن لم نقل آلاف الشباب. بالكاد صلبت قامتي واندسست في تلافيفهم، فقد كانوا، الشاب لصق الشاب، لصق الشابة، كأوراق البسطيلة المغربية قبل الاستعمال.. وكان علي أن أبذل كل طاقة الإدماج بينهم حتى لا أبدو كشعرة بيضاء على الثور الأسود.. وكان علي أن أستنفر كل أعضائي لكي لا تخذلني فتأخذها الدوخة، وبصيغة أخرى حتى لا تصيبها رياح التقرقيب التي لا تُبقي ولاتذر , فسحائب الجوانات، وروائح الخمرة كانت تجثم على المساحات اليَبَاب، ورؤوس الشباب المخدرة كانت تترنح وتتمايل بفعل المخدر وصخب الموسيقى..
وفي العتمات بين الأرجل كانت تربض قناني البيرة والخمور..
قال أخي المرافق لي في رحلتي هذه، التحسيسية لنبض أمتي كعادتي :
( إنها ليست قناني مشروب الكوكاكولا بل هي الخمرة، يضعونها في قنينة الكوكاكولا تفاديا لإزعاج السلطات).. ووجدتني أتساءل في نفسي : وأي فرق بين المشروبين !!
وعن السلطات إياها، ترى هل لسلطات اليوم حول أو قوة مع شباب حقوق الإنسان، الجدد، في الوقت الذي تجثم فيه أمريكا على مسامنا لاختلاق تبريرات واهية لتدخل مريح يركب موجة اضطهاد الشباب وخنق الحريات و،تشجيع المد الإسلامي الظلامي الخ الخ..
طفلات صغيرات، لم يتجاوزن العاشرة ربيعا، والساعة تجاوزت الحادية عشرة ليلا ـ ولازلن يرقصن جماعات ويتفنن في هز بطونهن !! وصبايا في عمر الزهور المتفتقة في وضعيات حميمية ساخنة يشبهن في التصاقهن برفاقهن نساء ساحات مهرجانات من وراء البحار.
ووجدتني أستعرض في ذاكرتي أبيات “محمد علي الرباوي” من ديوانه : / أول الغيث/، فوحدها أسعفتني في الإحاطة بهذه المعبودات الجديدة من دون الله سبحانه، باسم التقدم والتحضر.. يقول “الرباوي” :
سبحانك ربي ما بعدت أنوارك لكن جرفتنا الأنهار/ سبحانك أنت وهبتنا يدين لنطلب خيرك/ حين تغيب الأمطار/ لم نرفع يارب يدينا طلبا لعونك/ لكن بهما نحتنا أحجارا، فاستعبدتنا الأحجار/!!
ووجدتني مرة أخرى أسائل نفسي : هل نحن نعادي الفرح، هل نحن نعادي الموسيقى، أم نحن نغتال الحياة، أم أننا نرفض المعقول اللي ماشي معقول المجرد عن العقل؟! وهل كان فرحا، ما كنت أراه على سحنات تلك الطيور النازفة، تلك الطيور التي لم يفهم الذين رأوها تحج بالآلاف إلى ساحة العنق بالبيضاء، وفي زعيقها وعربدتها وقفزها ونطها مجرد مظاهر لدفق غير مسبوق للحرية والإنعتاق ! هل غاب عن الذين يحرصون على استدامة فرح ملغوم في أجندة شبابنا ذلك المثل المغربي : (عندما تطير السَّكْرة تَجِيءُ الفكرة). هل غاب عنهم كيف سيمضي هؤلاء المضيعون ما بقي من ليلتهم بعد تفرق العرس ؟ هل سيواصل الفرح إقامته بين ظهرانيهم أم ستتلقفهم الحيطان والعتمات غرباء تعساء، يعاقرون ما بقي من قناني الخمرة الرديئة، وهم ينظرون بغبن إلى بيوت موصدة في وجوههم، ونوم هادئ متنعم لا حق لهم فيه..
وإذ تشرق شمس الصباح سيسحبون كالقطط أذلاء إلى بيوت لا ترى فيهم إلا اللعنة. وسيأكلون فطورا معجونا بالشتائم وأقبح النعوت من مثل : الباب أَعْرَض من أكتافك، الله ينعلها سلعة منذ رأيناك ما رأينا الخير،الله يعطيك مصيبة تريحنا منك !!!الخ..
وسيخرج غرباء مهرجانات الفرحة والحرية، شاهرين بؤسهم وكراهية ذويهم ولعناتهم ليعيثوا فسادا في الأرض، قبل أن يقرروا في لحظة يأس الرمْيَ بأنفسهم في جوف المحيطات متلفعين باليقين التام أن الفرح والسعادة والكرامة ليست هنا بين المهرجان والمهرجان لكن هناك، هناك حيث تكريم الإنسان حقا بإطلاق شحنات خلاياه الدماغية وكفاءاته وقدراته لا كوارعه وبطنه وما تحت..
وأنا أجول بذاكرتي في خلفيات نشاط الليلة، كانت الفرقة الموسيقية التي تعتلي الخشبة تردد رفقة مغنيها :
أخويا راني جيعان، أخويا راني حفيان، أخويا كا يضرني راسي مزيان، أخويا خصني نكمي شي جوان!! ثم أضاف بنفس ملتزم : (أوروبا شبعانة، أمريكا شبعانة أفريقيا جيعانة)، فقلت في نفسي وأنا أكاد أقضم لا أظافري فحسب بل أصابعي !!..
هل سنشبع كأمريكا وأوربا بشعار : (أخويا خصني نكمي شي جوان!!) أليس هناك من رقيب على كلمات تدميرية بهذه الجرعة الإجترائية على ثوابت بلد إسلامي؟ ثم أين هم دعاة مراقبة الأشرطة والكتب وخطب الجمعة والمجلات وحتى الكاغد المكور في الشارع لمحاصرة الخطاب الإرهابي؟! من يوقف هذا التطرف ذا الوجهة الأخرى ؟
نعم نحن نرفض خطابا إقصائيا لا يؤمن إلا بنجاته، ويعتبر الجنة ملكا مخوصصا لايلجها إلا المقربون، والآخرون هم الجحيم ! لكننا نرفض خطابا تدميريا في أبعاده، خطابا يذكرني أصحابه في تعاملهم مع هذه الطاقات المجمدة، قبل أن يجمعها الإسبان، وهي جثث مهينة ذليلة مبعثرة بشواطئها كما لو كانت مجرد طحالب مزعجة، أقول، يذكرني هذا الخطاب بمرضى مستشفيات الأمراض العقلية بالبلدان المتخلفة حيث يُحْشى المريض بكل الأدوية التي تتلف في عمقها الدماغ والمناعة، وتهلك الكبد والمعدة والقلب وأشياء أخرى لكنها في الظاهر تجعل المريض وديعا ساكنا مجمّد الأطراف. قد يضحك كثيرا، وقد ينط في كل الاتجاهات كشبابنا في المهرجانات إياها، لكنه يظل غير عدواني بالمفهوم الذي يهدد الأمن العام، طالما ظلت الجرعات منظمة والمراقبة مستمرة..
فإلى متى نظل أسيري الخطابين والتطرفين ! أما آن الأوان لنقول كفاية، لمن يستخفون بطاقات هذا الوطن وفلذات أكبادنا المنفلتين من بين أصابعنا إلى الدمار الشامل؟ وبين يدي قرائي، قصة ذئبين جائعين اتفقا على أن يسرقا ويأكلا معا فهجما على قرية واختطفا دجاجة وكانت صغيرة فتنازعا على من يأكلها وحده، وكانا قد اتفقا على أن يقتسماها معا وأثناء نزاعهما مر ثعلب فخطف الدجاجة وولى هاربا..
هل لديكم من تعليق أحبتي ؟..
أما تعليقي أنا، فانتظروه في حلقة قادمة بإذن الله.
ذة. فوزية حجبي