قيقة العبادة في الإسلام (1)
{إياك نعبد}
إن العبد ينتقل بعد ما سبق في الحلقات السابقة إلى مشافهة الله تعالى ويوجه إليه الخطاب. فكأن العبد إذ أقر الصفات السابقة كشفت عنه كثيرا من الحُجُب التي كانت تقصيه من التوجه إلى الله سبحانه. ولاشك أن المخاطبة الصادقة شأن الصالحين. وهو شأن الأنبياء والرسل سابقا.
واللافت للنظر في الآية حديث العابد عن المعبود. وهو المسمى بالحصر في اللغة والمعنى : إياك نعبد ولا نعبد معك غيراً.
ولعل هذه الصيغة في الخطاب هنا إنما جاءت لأمور منها :
- أن البدء بالضمير يجعل النفس في حالة تأهب تستشعر العظمة الإلهية وحينذاك تكون العبادة في جو استحضار المعبود (وقد مثل بعضهم هذا فقال : إن العبادة شاقة وهي تحتاج إلى استعداد وإلى إعانة فهو لذلك يستجمع كل القوى ويستحضر النفس، وإلا فإن الإقدام مع استرخاء يؤدي إلى الفشل) إن استحضار العظمة الإلهية مُؤَدٍّ إلى الثبات على العبادة السليمة.
- وقيل إن معنى إياك يتضمن أن هذا المعبود مقدم في الوجود فيجب تقديمه في الذكر.
- وقيل إن إفراد الله بالعبادة هو المعنى الخفي في هذا التعبير بهذه الصيغة علما بأن العبادة الكاملة لا تكون بمجرد العبادة ولكن بالعبادة والإفراد في العبادة.
إن هذه النصوص الشرعية إنما تريد أن تُكَوِّن الإنسان تكوينا ربانيا ليكون الفرد قادرا على مواجهة الحياة. فالذي يواجه مشاكل الحياة وينتصر عليها هو المسلم لأنه لا يواجه المشاكل كمشاكل مستقلة ولكنه يواجهها باتخاذ شرع الله منهجا وسلاحا. ثم إن العبد المسلم لا ينظر إلى النعمة بل إلى المنعم، ولا ينظر إلى البلية بل إلى المبتلي. وحينذاك يهون عليه كل شيء. وهذا كله مفهوم من كون الله عز وجل يظهر للإنسان إما بمظهر الجمال أو بمظهر الجلال وسواء أرى الله لعباده الجمال أو الجلال فإنه يريد أن يعرفه عباده.
فهذا شيء مما يتعلق بإياك في بدء قوله تعالى {إياك نعبد}. وأما ما يتعلق بقوله {نعبد} فالنون هنا إما أنها للجمع وإما أنها للتعظيم.
وقال بعض العلماء : إن الإنسان إذ يتقدم أمام ربه يقول إياك نعبد ضاما عبادته إلى عبادة غيره من المؤمنين لأنه يعلم من واقع الشريعة الإسلامية أنها تحض على العبادة الجماعية. وحتى ما يظهر من الشريعة أنه فردي كالصيام فإنها جماعية بحكم الزمن أو الحج الذي قد يظهر أنه فردي ولكنه جماعي بحكم المكان.. وهكذا فإن الأقسام الفقهية كلها تمضي في هذا السياق.
وكما أن الله عز وجل يحث على الجماعة فإنه يجعل لذلك في الشرع الإسلامي آداباً وأخلاقاً وشروطاً لقيام هذه الجماعة على أحسن الأحوال. وأن الإخلال بهذه الشروط والآداب يفسد عبادة الإنسان خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة التي يلتقي فيها المؤمنون في أكثر أحوالهم.
وقال بعض المفسرين : إن الإنسان لا يريد أن يقدم صلاته وحده بل يضم صلاته إلى كل العابدين. وشأن الكريم أنه إذا جاءته هذه العبادة مجتمعة فإنه لكرمه سبحانه وتعالى يقبلها كاملة ويتجاوز فيها عن عباده أموراً بسبب هذا الوصف الجماعي الذي جاء فيه متوجها إلى ربه.
إن العبد وهو يقرأ قوله تعالى “إياك نعبد وإياك نستعين” فإنه يُقر بعبادة الله. وتوجُّهُه هنا لا يكون لعظيم من الناس أو جماعة من البشروإنما هو توجه إلى الله سبحانه والخطاب موجه لله سبحانه فيكون ذلك أدعى إلى أن يتقوى في العبادة. والعبد الذي يفهم معنى إياك نعبد يصير كل شيء أمامه هيناً لإنه يصير مغمورا بالنور الإلهي. وبذلك تصير العبادة سليمة. ولذلك ربما سمعنا من آثار القدماء أموراً لو خضعناها للعقل لقلنا إنها لا تصح : فقد نسمع مثلاً أن بعضهم تُقطع رجله وهو لا يشعر فهذا أمر قد يبدو غريبا لأن قطع الرجل أمر ليس بهين، فكيف يعقل أن تقطع الرجل دونأن يشعر صاحبها بحجة قوة العبادة؟ لكننا إن قرأنا قوله تعالى : {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشى لله ما هذا بشراً} فهؤلاء نسوة يصيبهن ذهول لدرجة تقطيع أيديهن. وهذا مجرد انشغال إثر ذهول خاص وقع بسبب جرح دون شعور، فكيف إذا كان الذهول نتيجة انغماس في عبادة مشروعة؟
د.مصطفى بنحمزة