حقيقة العبادة في الإسلام وشروطها (2)
إن العبادة في تقدير بعض الناس “هي طاعة وخضوع”. وهذا تفسير فيه تسامح وتجاوز. فالعبادة لا تكونها الطاعة والخضوع فقط.
فقد يكون أحد الناس محبا لإنسان آخر فيذيب إرادته فيمن يحب ويستسلم له فيكون في نهاية الخضوع لمن يحب، لكن هذه الحالة لا تسميها العرب عبادة بل تسميها خضوعا فقط. وكذلك الطاعة، فلو تصورنا حالة أناس ليس لهم إلا الطاعة دون مخالفة فهي حالة ليست كذلك عبادة.
إن العبادة لا تُتصور إلا في حالة وجود أوصاف وشروط:
فالعبادة أولا هي منتهى الخضوع والطاعة : بمعنى : ذوبان اختيارات وشهوات وغرائز وطموحات الإنسان في حب من يحبه.
فحينما تتنازع العبد مرة نزوات وشهوات وتتجاوز الأمر الإلهي فإنه حينئذ يكون قد نكص عن معنى العبادة : فإبراهيم واسماعيل مثلا امتُحنا امتحانا مزدوجا. الأب ممتحن في ابنه والإبن في أبيه. الأول مطلوب منه ذبح ابنه والثاني مطلوب منه طاعة أبيه. وكلا الأمرين أشق من أن يطلب من غيرهما فعله… وظهر منتهى الخضوع في تجاوز إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كل الشهوات والأواصر العائلية، وخلا قلب الأب والإبن من كل شيء إلا من حب الله عز وجل .
ثم إن للعبادة شرطا آخر وهو أن يكون الخضوع مصحوبا بتعظيم المعبود. فقد نجد من يخضع لغني أو عظيم لا لإنه يحبه ولكن خوفا من بطشه أو طمعا في عطائه. فهو لا يطيعه تعظيما له. فلو تصورنا رئيسا كان مطاعا عندما كانت له سلطة ثم صار كعامة الناس بعد انقضاء أجل سلطته فهل سيطاع كما كان سابقا؟ طبعا لا. لماذا؟لأنه لم يعد يستطيع أن يضر أو ينفع أحدا, ولذلك ربما لا يُصافحه حتى المصافحة في الطريق أما الطاعة التي تشكل العبادة فهي الطاعة الناشئة عن تعظيم يملأ أعماق الإنسان.
إن العبادة تنشأ وتتأصل بالمحبة بمقدار النظر في عظمة الله ومقدار النظر في نعمه على الكائنات.
إنالعظمة الإلهية المؤدية إلى العبادة المطلقة تسكن قلب الإنسان كلما وقف أمام مخلوق من مخلوقاته سبحانه وحينئذ يضع الإنسان مكانه في موضع العبودية الحقة.
فقولنا إذن {إياك نعبد} فيه معنى الخضوع لله، وهو شعور لا يمكن ان يكون إلا لله عز وجل.
وإننا أيضا ملتزمون بشروط وآداب العبادة الشرعية الصحيحة. إذ كيف يمكن أن يُعبد الله عز وجل دون وجود شروط لذلك ولأن العبادة ليست هي ما نريده أو ما تشتهيه أنفسنا. فإذا صرنا حتى في العبادة نعبد شهـواتنا فإننا قد نخرج عن أصل العبادة.
إن أقل شروط العبادة أن تكون :
1) : واردة : بمعنى أن تكون مستقاة من الشرع. فالله عز وجل إذ يطلب منا عبادته فإنه حدد لنا الكيفية لذلك : فحدد لنا الصلاة ومواصفاتها والصيام وشروطه والزكاة وطرقها، وغير هذا مما تحتويه الشريعة الإسلامية.
فليس لأي إنسان أن يعبد الله بعبادة يبتكرها ابتكارا وليس له أن يعبده بالتحريف.
إن الله عز وجل يطلب منا عبادته بالنحو الذي طلبه من خلال ما هو ثابت في القرآن والسنة. والعبادة المؤسسة على الابتكار لا يحصل بها أي شيء : فمثلا قد يرتب بعضهم ذكرا يُصحب بآلات موسيقية تهيج الإحساس، ويتخذ ذلك الذكر بديلا لصلاة الجمعة. فإن هذا العمل وهو مما كان يفعل ولازال يحاسب عليه صاحبه لأن فيه استحداثا لعبادة غير مؤصلة. وقد كان الأعلام حتى من الصوفية يتنكرون ويتخوفون من هذا. وقد قال الشاذلي لرجل جاءه ليرتب له ذكرا خاصا “أتُريدني أن أكون مشرعا”
إن العلماء جاهدوا كثيرا في محاربة مثل هذه البدع التي تمس بالعبادة الشرعية وقد قال أحدهم لمالك رحمه الله : إني أريد أنْ أُحرِم من المسجد النبوي” فقال له مالك “لاتفعل ذلك” قال “ولماذا؟” قال مالك “أخشى عليك الفتنة” قال : “وأي فتنة في خطوات أزيدها؟” قال “وأي فتنة أكبر من أن ترى نفسك قمت بعمل قَصُرَ عليه رسول الله.
إن البدع في العبادات أمر خطير وفيه ضياع للوقت والفكر والدين كله، والأخذ بالضوابط الشرعية من الكتاب والسنة في أمر العبادة يصلح أموراً كثيرة.
إن مالم يكن دينا يوم أُكمِل هذا الدين لن يكون دينا أبدا والتشبث بعبادات مستحدثة فيه مضيعة دنيوية وأخروية. والخسارة الكبرى هي أن يتصور الإنسان أنه يعبُد الله وهو على غير ذلك بسبب تطفل بعض العامة على هذا الدين. إننا مطالبون بأن نعود إلى ما كان عليه رسول الله والحق لا يُعرف بالرجال وإنما يعرف بما كان عليه الرسول وصحابته ولو أن الناس اتفقوا جميعا على فعل فعل مخالف لسنة رسول الله لما كان لذلك أثر في حقيقة سنته ولا في اتباع تلك السنة.
إن المسلم له نية وطبع يظهر بهما أنه سهل المنال مما يدفع بالبعض إلى التلاعب بعقول المسلمين ودفعهم إلى الخوض فيما يضعف هذا الدين وذلك بتنازلهم عن كل ما شرعه الله لمجرد الشهوات.
2) أن يُتوجه بها إلىالله سبحانه : بمعنى أن لا يشرك بها غيره وأن لا يتوجه العبد بعبادته إلى أي كان بشرا أم روحا أم حيا أم ميتا.
لابد أن تنزه العبادة بشكلها الجلي والخفي : فالإنسان قد ينزح لغير الله بسبب العادات كزيارة الأضرحة والدجالين والسحرة، وكلها من المظاهر التي توجه إلى الشرك بطريقة جلية مع أن صاحب الضريح الذي يُقدس قد يكون من الصالحين الذين لا يرضون أن تذبح عليه وهو ميت فضلا عن أن يكون له ذلك وهو حي.
كما أنـــه لا يحق للإنسان أن يشرك بالله شركا خفيا : بمعنى أن هناك من يعبد الله فيحرص على أن يُعرف عليه ذلك بالتظاهر والرياء. وهذا تعلق بالمخلوقات وهو متناف مع العبادة الخالصة لله لما فيه من شرك خفي.
إن الشخصية التي يريدها الإسلام هي الشخصية التي تضع الناس في مواضعها. وإلا فمن أين جاء للمسلمين انعدام الشخصية وعدم القدرة على ضبط النفس واللسان؟ فقد يأتي شخص فيقول لآخر إن فلانا فعل وفعل كذا وكذا فيقول ذلك الشخص نعم قد يفعل ذلك دون أن يلجأ إلى أبسط ضوابط الحق والباطل. ولو قال غير ذلك لما أعجب الأمر صاحبه. وهذه تصرفات غير شرعية. فأين قوله تعالى : {فتبينوا}.
إن المسلمين أصبحوا مشتهرين بالمجاملة لدرجة أنهم لا يستطيعون المقاومة والمنافسة. وذلك كله ناتج عن كونهم تعلموا وتشبثوا بفكرة التعامل مع البشر بعيدا عن الخالق. وقد صدق من قال : “لو تعاملنا مع الحق لاسترحنا من الخلق” . إن كل ما يستحقه البشر هو التعامل وفق الآداب الشرعية.
فهذا كلام مختصر عن معنى العبادة في هذا الموضع، وخلاصته أن العبادة ليست مجرد الخضوع والطاعة بل هي منتهى الخضوع والطاعة مع ما يستدعي ذلك من التعظيم ومع إثبات كل عبادة بالوارد من القرآن والسنة دون أي يشرك في ذلك {من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صاحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} والعمل الصالح هو الوارد.
وهو أمر لابد منه في العبادة وهو الخضوع الدائم والطاعة التي لا تستثني منها مجالاً أو زمنا أو مكانا. فمن الناس من يعبد بشروط. وبعضهم قد يصلى وقد يصوم مع نقص واضح في ذلك وما عدا ذلك فلا يعتبره من العبادة ..
إن الخضوع الدائم في العبادة يستدعي استحضار الحق سبحانه في كل الأحوال دون أدنى استثناء.
إن الاستمتاع بالعبادة لا يكون إلا بإتيان جميع متطلباتها في كل المجالات.
د.مصطفى بنحمزة