الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأ صحابه والتابعين، ومن تبعهم يإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فيقول الله عز وجل:{يآ أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 182).
عباد الله : ما خلق الله سبحانه وتعالى شيئاً في هذا الكون عبثاً، ولا فرض سبحانه على العباد فريضة سدىً، وما حرم الله جل وعلا شيئاً إلا لحكمة بالغة، ولا أمر بفعل شيء إلا لمصلحة شاملة نافعة. ذلك أن شريعة الله عز وجل لها من المقاصد ما يُصلِح حياة الإنسان في دنياه، ويضمن له السعادة والفوزبالجنة في أُخراه.
لقد فرض الله عز وجل الصلاة على عباده المؤمنين، وفي طيات هذه االصلوات من الحكمة ومن المقاصد ما َيتم به ربط الإنسان المؤمن بربِّه، وما يؤدِّي إلى إصلاح مجتمعه، َيتمُّ ذلك عن طريق مراقبة الله بذِكره في كل الأوقات، والقضاء على الفواحش والمنكرات، قال تعالى:{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون}(العنكبوت : 45).
وشأن الصيام كشأن الصلاة، فقد فرض الله الصيام على عباده المؤمنين، و كان القصدُ الأساسُ هو تقوى الله عز وجل، قال تعالى : {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 186).
إن تقوى الله عز وجل لها طرق عدة ومن تلك الطرق: صيام شهر رمضان، فما هي المقاصد التي أرادها الشرع الحكيم من صيام شهرمضان؟ وكيف يرتقي الصائمون سلم التقوى عن طريق الصيام؟.
إن من بين المقاصد التي يهدف إليها الشرع الحكيم :
أولاً زيادة الإيمان في قلوب الصائمين، ذلك أن شهر رمضان هو الشهرالذي أنزل الله فيه القرآن، فهو شهر القرآن، فيه تُتلى وتُرتل آيات القرآن، فيه تُفسر وتفهم معاني القرآن، فيه تَحْلو المجالس على مائِدة القرآن، وبهذه كلِّها يزداد إيمان المتعامل مع القرآن، قال تعالى : {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجِلتِ قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياتُه زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون…}(الأنفال : 2). وقد كان جبريل عليه السلام يدارس رسول الله القرآن، في شهر رمضان.
إن قراءة القرآن بتأمل وتبَصُّر وتمعن وتدبُّر، تُمكِّن حقاً من زيادة الإيمان في قلوب الصائمين، وبزيادة الإيمان يَصعَد المسلم درجة في سلم التقوى الذي يعتبر المقصد العام والأساس من الصيام والقيام، ومن كل العبادات في الإسلام.
ومن مقاصد الصيام أيضا مقصد ثان وهوالانضباط في السلوك : إن الانسان المسلم كلما وقف بين يدي الله عز وجل في الصلاة، فكبر تكبيرة الإحرام، فإنه يُمنع من كل كلام من غير جنس الصلاة، ويُمنع من كل حركة من غير حركات الصلاة، فهو منضبط خلال دقائق معدودة، سلوكه يضبطه الشرع الحكيم، أقواله وحركاته تضبطها سنة المصطفى الأمين، عليه الصلاة والسلام.
وشأن الصيام كشأن الصلاة، فمِن مقاصده أن يجعل الإنسان المسلم خلال يوْمِه و ليلته خاضعاً لضوابط الشرع الحكيم، فلا يتصرف في ضروريات جسده إلا بنظام، وقد حدد الشرع وقت الأكل وغيره ووقت الامتناع، قال تعالى : {وكلوا واشربوا حتى يتبيَّنَ لكم الخَيْط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل}(البقرة : 186).
ومن المعلوم عند العقلاء أن من استطاع أن يَخضع للشرع في ضروريات الجسد من أكل وشرب وجماع، فخضوعه لغيرها أسهل وأهون.
ومن مقاصد الصيام أيضاً مقصد ثالث ومهم، إنه أمر تقوية الإرادة والعزيمة، هذا الأمر الذي يُمَكن من مخالفة الأهواء والشهوات، وما يؤدي إليه ضُعْفُ العزيمة من الزَّلاّت، فإذا استطاع المسلم أن يدع ما تشتهيه نفسه من الحلال، فإنه بهذا التمرين والتدريب يصبح قوي الإرادة والعزيمة، مخالفاً للهوى والنزوات، محفوظاً من أخطار الشهوات، تابعاً لشرع الله، يُؤْثِر ما أمربه الله، ويترك ما تَشْتهيه نفسه وتتمنَّاه، وما يدفعه إليه هواه.
ومن المعلوم عند العقلاء أن من قَِوي على ترك الحلال طاعةً وامتثالاً لأمر الله، كان على ترك الحرام أقوى وأقدر.
لقد أدرك المسلمون الأولون مقاصد وأهداف الصيام، وذاقوا طعم وحلاوة القيام، إنهم قوم آمنوا بربهم وزادهم هدى.
إنهم قوم صامَتْ قلوبهم فامتلأت بنور الله، وتسامت وتعلقت بماعند الله ـ فهل صامت قلوبنا؟.
إنهم قوم صامت آذانهم عما يغضب الله فما سمعوا كلاماً منكراً ولا لغواًً ولا رفثاً ولا فجوراًـ فهل صامت آذاننا؟.
إنهم قوم صامت أعينهم عما لا يرضي الله، فغُضَّتْ عن محارم الله، وكثيراً ما بكَتْ من خشية الله ـ فهل صامت أبصارنا؟.
إنهم قوم صامت ألسنتهم فاشتغلت بتلاوة القرآن، وتركت الكذب والزور والفحش والبهتان ـ فهل صامت ألستننا؟.
إنهم قوم صامت أيديهم عما حرم الله فما غشَّتْ ولا دلَّست، ما نقصتْ ولا طفَّفتْ، وما سرقت ولازوَّرتْ، فهل صامت أيدينا؟.
إنهم قوم صامت أنفسهم فأقبلت على الصيام والقيام، عرفوا مكانة مجالس العلم فازْدَحمُوا في رياض الجنة فحفَّتهم الملائكة، عرفوا قيمة الجود والسخاء في شهر القرآن، فأكثروا من العطاء والبذل والإحسان. فهل صامت أنفسنا؟ قال بعض أهل العلم : “الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويُعيد إليها ما اسْتلَبتْه منها أيدي الشهوات”.
اللهم لا تجعل حظَّنا من الصيام الجوعَ والعطش ـ اللهم لا تجعل حظنا من القيام التعبَ والسهر. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
üüüüüü
عباد الله : لقد وعى المسلمون الأولون حقيقة الصيام، فكان شهر رمضان عندهم غنيمة من الغنائم، يتسابقون فيه لنيل أكبرقدرمن الثواب العميم والأجر العظيم. ثم خلف من بعدهم خلْفٌ بدلوا وغيَّروا وحرفوا وزَوَّرُوا، أدخلوا في الإسلام ما ليس منه، فصار عندهم الصيام لوناً من التقاليد والعادات، فضاعت بينهم روح العبادات. فمنهم من اعتبر الصيام أسلوباً صحياً وعلاجاً وقائياً دون ربط العمل بالله، ودون احتساب الأجر عند الله، فأين هذا من قول رسول الله : >من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه<(رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن).
ومنهم من جعل الصيام إمساكاً عن المفطرات المادية، ثم خاض في الغيبة والنميمة، وأكْلِ أموال الناس بالباطل، فأين هذا من قول رسول الله : >من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه>(رواه البخاري وأصحاب السنن).
إن الصيام عبادة تُبنى على العلم والإخلاص لله، وتتطلب اتباع سنةِ رسول الله، فمتى أدرك الناس جوهر الصيام أدَّى مفعوله وتحققت غاياته.
فهذا “صائم” ينْهَشُ لحوم الناس ويهتك أعراضهم، وهذا ” صائم” يغُشُّ المسلمين ويُدلِّس عليهم، وهذا يعتدي ويظلم والآخر يسب ويلعن، وهؤلاء ” صائمون” سخَّروا أقلامهم للفحش والرذيلة، وآخرون تجندوا لمحاربة الحياء والفضيلة. فأين هذا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث…<(جزء من حديث رواه البيهقي والحاكم بسند صحيح).
إن هذه الأمة المسكينة لن يُجمع شتاتُها ولن يُلم شعثها ولن يُرد إليها عزها ولن تَتَوحَّد كلمتُها إلا بالرجوع إلى ربها واتباع سنة نبيها، ولن يحصل هذا إلا بصلاح الأفراد الذين هم أصل الجماعة، ولذلك نقول: إن كل فرد من أفراد الأمة عليه أن يساهم في انطلاقة الأمة وتحسين أحوالها، وإلا كان مساهماً في تأخيرإقلاعها وطمس معالمها، وهذا الموسم العظيم هو بحق موسم الانطلاق والإقلاع، وموسم السمُوِّ والارتفاع. هذا الشهر الكريم من أعظم مواسم الخير والفضل، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
إن للدنيا تُجَّارها وللآخرة تجارها، فكونوا عباد الله من تجار الآخرة. ثم إن تجار الدنيا يترقَّبون مواسمها ليربحوا وتجارالآخرة يترقبون مواسمها ليربحوا، ولكن فرق هناك بين ربح هؤلاء وربح أولئك.
اعلموا يرعاكم الله أن ربح الآخرة خير وأبقى، إنه مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض، تجري من تحتها الانهار. فكونوا عباد الله من تجار الآخرة، فهذا شهر رمضان، موسم البركات، شهر العلم والتعلم، شهر شحذ الأفكار وتنوير العقول، شهر الدعاء المستجاب والعمل المقبول، فأروا الله من أنفسكم خيراً. ونختم الكلام بحديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام حيث يقول : >الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام : أي ربِّ مَنعْتُهُ الطعام والشهوة فشفِّعْني فيه، ويقول القرآن : مَنعْتُهُ النوم بالليل فشفعني فيه، قال فيشفعان<(رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم).
اللهم وفقنا للصيام والقيام وشفع فينا القرآن والصيام وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. الوزاني برداعي خطيب مسجد الفتح عضو فرع المجلس العلمي المحلي لفاس بإقليم م. يعقوب.