تفسيــــر سـورة الفاتحة


ملك يوم الدين

إن الموضوع العام في هذا المقطع هو اتصاف الله عز وجل بالملك وبأنه أَعَدَّ للناس يوم المتوبة والعقوبة. وهذا ركن أساسي من أركان الإيمان. وإن قلة حضور الإيمان باليوم الآخر يجعل الإسلام مجرد أفكار. وسر هذا اليوم أنه مبني على الجزاء. ومن طبيعة الإنسان وفطرته أنه يرغب في الجزاء. وقد لا ينتفع الإنسان بأي شيء من العلوم الشرعية التي قد يعيها ومهما حفظها إذا لم يكن على علم بعقيدته من جهة يوم الجزاء، اليوم الآخر. وإن من المعاكسة للمنهج الإلهي، القول بفكرة إبعاد كل ما يرهب ويخيف. وهي فكرة منتشرة في المجتمع الإسلامي على مستويات مختلفة وفي مجالات متنوعة. ومن ذلك ما يدعو له بعض رجال التربية في مجال التعليم في المستويات الابتدائية حين نادى بعضهم بضرورة إبعاد كل الآيات أو السور التي فيها ترهيب بحجة كونها مؤدية إلى عقد نفسية بالنسبة للأطفال. إن العقيدة الإسلامية ليست مجرد أفكار مبنية على أساس أهواء الناس وإنما هي  تربية مبنية على أساس الترغيب والترهيب طبقا لسنة الله في خلقه.

والحق سبحانه وتعالى إذ يصف نفسه هنا بملك يوم الدين فإن في ذلك إشعارا بعدم المجاملة للخلق، وفيه إبراز لكون هذا الإسلام دستوراً شرعيا يحاسَبُ عليه الإنسان يوم الدين بحسب ما طبَّقَ : {يَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.

وإن أول ما يثير الانتباه في هذا المقطع “ملك يوم الدين” اختلاف القراء في قراءة ملك أو مالك. “قرأ الجمهور ملك بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي  وصاحبيه أبي بكر وعمر في كتاب الترمذي… وأما قراءة مالك بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير..” الطاهر بن عاشور/التحرير والتنوير.ص:173.ج.01. وكتاب : “روائع البيان” لمحمد علي الصابوني.ص: 44. وقد أضاف صاحب الكتاب الأخير “وقال ابن الأنصاري : وفي (مالك) خمس قراءات وهي: مالك, وملك، وملْك، ومليك، ومَلاك” وقد أخذ القولة من كتاب “البيان في غريب إعراب القرآن”.

والذي ينتج عن هذه القراءات معنيان صحيحان : المُلك والمِلك. ويؤيد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} وقوله تعالى : {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ ؟ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ} لكن بعض المفسرين صار يفاضل بين القراءتين، وهي مفاضلة في روايتين ثابتتين لا يجوز الطعن في إحداهما قط. والأخطر من هذا أن بعض الجهال من بعض الذين أتيحت لهم فرصة إمامة المسلمين صار يفاضل بين القراءتين عن جهل حتى صار ذلك مجالا ساخنا للتلاعب بالقرآن.

ومما قاله المفضلون لرواية “مالك” : (ذكر منها الرازي وجوها  ستة.ص:241-ج01).

-منها حرف زائد، ومعلوم أن قراءة حرف من القرآن بعشر حسنات. فزيادة هذا الحرف في مالك فيه زيادة أجر.

-المالك هو الذي يباشر التصرف في مملوكه مباشرة بخلاف الملك فإنه لا يتولى ذلك مباشرة

-إن قوة معنى المالك ظاهرة : ذلك أن الناس يمكن يخرجوا عن سلطة الملك، أما الخروج عن سلطة المالك فهذا أمر صعب المنال لأن في المالكية سلطة ثابتة.

وأما ما ذكره المفضلون لرواية “ملك” : (ذكر منها الرازي وجوها ثلاثة : ص:242.ج01).

-من حيث الدلالة فملك أقوى وأهم من مالك لأن المالك وصف قد يكون لمالكين كثيرين أما الملك فسلطة خاصة وقوية.

-لفظ ملك يصل إلى المعنى بأقل الحروف، وهذا عبارة عن رد على من قال في مالك إن زيادة حرف الألف فيها زيادة أجر ومعنى.

لا شك أن معنى الملك هو دائما دال على معنى ليس في مالك : فالملك إنما يضاف لذوي الإرادة والاختيار، وأما المالك فإنه يضاف إلى الجمادات وما لا يعقل. وهذا معنى جيدانتبه إليه بعض المفسرين. فالملك والمملوك يكونان في علاقة عقود مزدوجة. وعندما نقول  ملك فإننا نعتبر بالضرورة وجود مكلفين. وكأن الله عز وجل عندما قال “ملك يوم الدين” يشير إلى أنه سيجازي المكلفين يوم الدين، يوم الجزاء.

ومهما يكن هذا الاختلاف وهذا التفاضل فالضابط عندنا هو : أن كلتا الروايتين ثابتة عن الرسول  من ربه. والذي لا يجوز هو الخلط في القراءات : فقد نجد الإنسان يقرأ بمالك في الفاتحة على اعتبار أنها قراءة لحفص، ثم إذا قرأ باقي القرآن وجدناه يقرأ بقراءة ورش. ففي هذا خلط وسوء أدب مع القرآن أولا ومع علماء القراءات ثانيا. وإن  في احترام القراءات تثبيتاً لحرمة القرآن وعلمائه.

فالله عز وجل إذن يصف نفسه بأنه ملك يوم الدين أو مالك يوم الدين. و الملك الإلهي ملك مؤسس ومن دعائمه الرحمة والعدل. ومعنى كون الله ملكاً “الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود, بل لا يستغني عنه شيء في شيء : لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في وجوده، ولا في بقائه. بل كل شيء فوجوده منه أو مما هو منه. وكل شيء سواه فهو له مملوك في ذاته وصفاته. وهو مستغن عن كل شيء.. فهذا هو المُلك المطلق” (المقصد إلى السنة) الغزالي.ص : 45.

وقال الراغب الاصفهاني في “معجم مفردات ألفاظ القرآن” ص : 492. “الملك هو المُتصرِّف بالأمروالنهي في الجمهور وذلك يختص بسياسة الناطقين ولهذا يُقال ملك الناس ولا يُقال ملك الأشياء… والمِلكُ ضربان : ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك، تَوَلَّى أو لم يَتَوَلَّ…. قال بعضهم : الملك اسم لكل من يملك السياسة إما في نفسه وذلك بالتمكين من زمام قُوَاهُ وصَرْفِها عن هداها، وإما في غيره سواء تولى ذلك أو لم يتولَّ على ما تقدم… فالمُلكُ ضبط الشيء المتصرَّفِ فيه بالحكم، والمِلْكُ كالجنس للمُلك، فكل مُلْكٍ مِلْكٌ وليس كل مِلْكٍ مُلْكاً.”

وكون الله عز وجل ملكا ليوم الدين : معناه أنه يثيب ويعاقب على الأفعال التي صدرت عن المكلفين.”وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود” التحرير والتنوير : ج.01.ص: 177 ثم إن يوم الدين الذي هو يوم الجزاء الأكبر مؤسس على الثواب والعقاب النهائيين، لكن أليس الثواب والعقاب حاضرين قبل ذلك؟ والجواب : ان الله عز وجل كما يثيب أو يعاقب في اليوم الأكبر, فإنه يفعل ذلك في الدنيا : فقد يستقيم المجتمع على شرع الله فيتاب أهله، وقد يتمرد الناس على شرع الله وسننه فيها جلهم الله بعقابه في الدنيا قبل الآخرة. لكن هذه العقوبة تتطلب قلوبا حاضرة تشعر بالعقاب علما بأن الناس قد يعاقبون لكنهم لا يشعرون بذلك. ومن ذلك ما يتذكر في قصة رجل كافر مع موسى عليه السلام: فقد قال الرجل لموسى : كم أعصي الله فلا يعاقبني؟ فأوحى الله لموسى أن قال له : بل يا موسى قل له : ما أكثر ما أعاقبك ولا تشعر. ألم أحرمك لذة معرفتي؟؟؟ محبتي؟؟؟؟ إن مثوبة الدنيا وعقوبتها لا يراها الجميع ولا يشعر بها إلا المؤمنون. وقد جعل الله يوم الدين يوما عاما يراه الجميع ويحس به الجميع {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

من خلال ما سبق كله يتضح أن هذا المقطع الأول من السورة يتضمن أمرين أساسيين : أولهما : حمد الله عز وجل حمدا مطلقاً

وثانيهما : ذكره سبحانه لخمسة من أسمائه “الله، والرب، والرحمان، والرحيم، والمالك. والسبب فيه كأنه تعالى يقول : خلقتك أولاً فأنا إله، ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا الرب، ثم عصيت فسترتُ عليك فأنا رحمان، ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم، ثم لابد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين” الرازي/تفسيره/ص:245.ج.01.

د.مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>