إن ذلك الحوار القرآني الذي دار بين فرعون وموسى في سورة طه، يعطي صورة كافية للاستبداد في شخص فرعون الذي لا يعبر عن نافية إزاء ” الأنا ” بل عن نافية إزاء الآخرين، يقول تعالى :
{ قال فمن ربكما يا موسى ؟ قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. قال: فما بال القرون الأولى ؟ قال : علمها عند ربي في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى، الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. ولقد أريناه آياتنا فكذب وأبى، قال : أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلناتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى. قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فتولىفرعون فجمع كيده ثم أتى.قال لهم موسى : ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى.قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم إيتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى. قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى. قال بل ألقوا، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}(طه 47- 65) إلى قوله تعالى: { قال : آمنتم قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم من خــلاف}(طه : 69)، ففي الطغيان السياسي”وجدنا أن فرعون لا يريد أن يحكم الإنسان فقط ولكنه يريد أن يحكم الأرواح والضمائر.. ولذلك عندما آمن السحرة فهو يقول لهم باستكبار واستنكار (آمنتم له قبل أن آذن لكم) فهو ينتظر أن يكون الإيمان والكفر بإذن منه هو ؟ (كيف نتعامل مع القرآن: الشيخ محمد الغزالي ص174، ط1/1992)، “فقد أنكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم كأن عملية الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة، ولكن تلك هي سيرة الطغاة وعقليتهم في كل زمان ومكان عندما يريدون أن يملكوا على الناس عقولهم وأفكارهم فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدة، فالتفكير ممنوع، والإيمان محرم بدون الإذن الرسمي من قبل السلطة الرسمية التي تملك العقول كما تملك الأجسام والأعمال (نافية الآخرين) ” (محمد حسين فضل الله: خطوات على طريق الإسلام ص448)، ثم يحاول فرعون أن يخفف عن نفسه وقع الصدمة وحرج الموقف باعتبار أن ما حدث (إيمان السحرة برسالة موسى) يشكل نقطة ضعف في سلطانه لأن المتمردين (السحرة) هم من أتباعه المقربين، فيحاول أن يصور لنفسه وللآخرين أن القضية ـ من البداية ـ لم تكن تمرداً عفوياً يصدر عن قناعة بالدعوة الجديدة ورفض للسلطة القديمة بكل ما تملكه من أفكار، بل كانت مؤامرة سابقة مدبرة بين موسى وبين هؤلاء السحرة باعتباره أستاذهم الكبير الذي علمهم السحر وأرادهم أن يقوموا بهذه التمثيلية لإظهاره في موقف المنتصر في مقابل فرعون الذي يقف موقف المهزوم،ولم يفلح تهديده.. بل وقفوا موقف اللامبالاة أمام كل صرخات التشنج التي يطلقها فرعون ليقولوا له بكل قوة : إننا لن نؤثرك على ما شاهدناه من البينات فافعل ما تريد. إنه الموقف الرائع والنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورة للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان وبين قوى الحق والإيمان ” بين الحرية والعبودية الحقة التي يمثلها موسى والسحرة من جهة وبين نفي الآخرين واستعبادهم والذي يمثله فرعون من جهة أخرى.
ونلاحظ – هنا- أن في العمل الرسالي التغييري ليست القضية قضية خاصة ليدخل الداعيةالمناضل ” الموضوع في حساباته الشخصية أو مركزه العملي، بل إن القضية قضية الفكرة التي يؤمن بها، والدعوة التي حمل مسئوليتها مما يجعل قضية النجاح أو الفشل قضية الأمة. وربما كان موقف موسى في حواره مع ربه وطلب إشراك هارون معه يمثل القمة في وعي المسؤولية بعمق وإخلاص.. إنه الدرس القرآني العظيم لأولئك الذين يفكرون بالعمل الرسالي (التغييري) من زاوية الأنانيات الشخصية والاعتبارات الذاتية التي تمنع الإنسان من التعاون مع أي إنسان كان “.
إن موسى- رمز المستضعفين – من خلال هذا الحوار الشيق مع فرعون – رمز المستكبرين – يقود حركة المؤمنين المستضعفين الغاضبة تجاه تحرير مفهوم العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، يعتمد منهجا علميا واضح المعالم، هذا المنهج الذي واجهه فرعون بمنهــــــج ” نفي الآخرين ” وإرهابهم :{فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} (طه : 70 ).
إن موسى عليه السلام كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، والغريب أن فرعون ألحظ فيه ما ألحظه في المستبدين، حيث إن فيهم كبرياء وعناداً وفسوقاً وجحوداً وقسوة قلب عجيبة. وفيهم أيضا إلى جانب هذا كله غباء يستدعي النظر لأن فرعون وهو يطارد موسى ومن معه وجد البحر يخضع لعملية تحول غير عادية الأمواج تنحدر يمنة ويسرة، ويبدو الطريق يبساً فكان ينبغي أن يفهم أن هناك حالة غير ما ألف، وغير ما ينتظر. وهؤلاء ـ بعصا موسى ـ عرفوا كيف يشقون طريقهم إلى البحر فكيف يمضي وراءهم ؟ إنه فهم أن البحر سيظل معجزة قائمة من أجله هذا هو الغباء وهو غباء مألوف في المتكبرين. بل لاحظت أن نهايات هؤلاء الجبابرة تكون من غبائهم الشخصي، فهم حتى آخر لحظة تكون لهم تصرفات فيها صلف وعمىينسج على بصائرهم فلا يستطيعون أن يروا إلا أهواءهم ” (كيف نتعامل مع القرآن ص178/179)
محمد البنعيادي