أكاديمية المملكة المغربية -لجنة اللغة العربية ولجنة القيم الروحية والفكرية
الحلقة الثانية من الندوة العلمية حول : “قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب
بد اللطيف بربش
اللغة العربية دعامة أساسية لمغرب القرن الحادي والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
- السيد مدير الندوة.
- حضرات الزملاء الأعزاء.
- حضرات الخبراء المدعوين.
- أيتها السيدات أيها السادة.
اختلجت في نفسي وفي نفوس زملائي أعضاء أكاديمية المملكة المغربية أحاسيس الغبطة والاعتزاز ومؤسستنا تعود إلى فاس العاصمة العلمية للمملكة، لتنعقد في أحضانها الحلقة الثانية من الندوة العلمية حول (قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب) باقتراح من لجنة اللغة العربية ولجنة القيم. وقد كان لهذه المدينة الأصيلة شرف احتضان الدورة التأسيسية للأكاديمية سنة 1980 ببادرة كريمة من مؤسسها جلالة المغفور له الملكالحسن الثاني طيب الله ثراه، كما انعقدت بها فيما بعد عدة فعاليات علمية أخرى من الدورات والندوات.
وأسجل هنا للحقيقة والتاريخ أن موضوع اللغة العربية هو بالنسبة للأكاديمية موضوع مفتوح على الدّوام، يأخذ منها الوقت الطويل من التحليل والنقاش لسبب أساسي، هو أن الظهير الشريف المنظم لها يُحمِّلها في أحد بنوده مسؤولية (السهر، بتعاون مع الهيآت المختصة في الميدان المقصود، على حسن استعمال اللغة العربية بالمغرب، وعلى إتقان الترجمة من اللغة العربية وإليها، وإبداء الآراء السديدة في هذا الموضوع).
هكذا انعقدت الحلقةُ الأولى من هذه الندوة بالرباط سنة 1993 وانكبت على دراسة المشاكل التي تعاني منها لغة الضاد في مجالات المعجمية والمصطلحية كما يشير إلى ذلك البيان الختامي الذي وضعه زميلنا الأستاذ محمد الكتاني. وقد حللت بعمق ظواهر الازدواجية اللغوية، وشيوع الأخطاء، وتدهور الأساليب، دون إهمال ما يتعلق بالترجمة والتعريب وطرق التلقين والتعليم.
هكذا، وحسب التقرير المشار إليه، ركزت معظم الأبحاث على القضايا التي تتصل بعوامل المحيط اللغوي والأسباب المساعدة، أو العائقة في مجال ممارسة اللغة لوظائفها الحيوية في التواصل والإبلاغ، وفي مقدمة تلك العوامل: الازدواجية، وعدم انتهاج أيِّ سياسة لغوية ثابتة في التعريب الشامل، وانعدام التنسيق بين الجهود المبذولة لسدِّ النقص أو تدارك الخلل أو تقويم اللسان أو توظيف اللغة العربية توظيفاً فعَّالاً في جميع مجالات الحياة العامة.
وكان مما تبين أيضا في الحلقة الأولى من هذه الندوة أن مشكلات اللغة العربية تُصنَّف في ثلاث مجموعات: مجموعة تتعلق بالمتن اللغوي والمعجمي، ومجموعة تتعلق بالواقع اللغوي المحيط باستعمال اللغة، ومجموعة تتعلق بتطويع اللغة العربية لمتطلبات التواصل الإعلامي المتطور من حيث الكتابة المعيارية وما يتعلق بتذليل الصعوبات لتحقيق الترجمة العلمية من العربية وإليها. وأذكّر هنا أن الأكاديمية خصصت ندوة علمية لموضوع الترجمة العلمية انعقدت بطنجة في نهاية سنة 1995. كما أنها رفعت سنة 2001 إلى أنظار راعي الأكاديمية جلالة الملك محمد السادس حفظه الله مذكرة تقترح فيها إنشاء معهدٍ عالٍ للترجمة العلمية لمواكبة التقدم الهائل والسريع الذي تعرفه العلوم الدقيقة بكافة أصنافها.
والآن والعالم يخطو خطواته الأولى في القرن الحادي والعشرين، قرن العولمة، ما الذي جدَّ في مجال اللغة العربية مما يدعونا إلى العودة لتناول القضايا المتعلقة باستعمالها في بلادنا؟.
لقد عكف الإخوة الزملاء أعضاء لجنة اللغة العربية ولجنة القيم على تدارس الموضوع لمدة طويلة فكان الاتفاق يكاد يكون تامّاً بأن اللغة العربية عرفت تطوراً ملموساً في المغرب. سواء تعلق الأمر بالمنظومة التعليمية أو بالمنظومة الإعلامية السمعية البصرية، من حيث اتساع رقعة التداول، ومن حيث التكاثر الكمّي للإنتاجات الفكرية والأدبية. لكن لاحظت اللجنتان أن هذا التطور -الذي هو كمِّي بالأساس- أفرز عدَّة مشاكل تصب كلها في الظاهرة التي يُطلق عليها أهل الاختصاص (تلوث اللسان). فقد تظافرت عدة عوامل تاريخية واجتماعية وثقافية بل وحتى اقتصادية وإدارية معزَّزة بوسائط الإعلام السمعي البصري، وبجميع أوجه التقدم الذي عرفته العلوم الدقيقة والتكنولوجيات المتطورة، أقول تظافرت هذه العوامل لإشاعة تعددية لغوية أصبح الالتزام بها من مقاييس التفرقة بين الأميين والمتعلمين، فأصبح الأمي هو من لا يعرف إلا لغة واحدة هي لغة قومه. هذا من جهة ومن جهة أخرى بدا جلياً عجز اللغة العربية عن مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يتزامن مع العولمة سواء من حيث المفاهيم والمصطلحات، أو من حيث تطوير اللغة في ذاتها، قواعد وأساليب، أو من حيث مناهجُ تدريسها في جميع أسلاك التعليم.
الجديد أيضا هو هذا الاكتساح الواسع للغات الأجنبية، وعلى الأخص اللغة الفرنسية، واعتبارها علامة على تفتح الشخص وارتقائه الاجتماعي في الحياة العامة، وفي المدرسة وفي الإدارة وفي الإعلام والإشهار، إلى جانب تقادم مناهج وأساليب تدريس اللغة العربية من الناحيتين البيداغوجية والتعليمية. هذا الوضع المُسْتَجَدّ الذي طرأ على استعمال اللغة العربية في بلادنا هو الذي ألزم الأكاديمية للعودة لمعالجة الموضوع، والحال أن المشاكل أصبحت أكثر حدَّة وأعمق خطورة، وأن الإرادة السياسية ضعفت تجاه هذا التيار العولمي الجارف الذي يعزز تهميش اللغة الوطنية أو على الأقل يُلَوِّث اللسان مما ينعكس سلبا على هويتنا الثقافية وانتمائنا العقائدي والحضاري.
أكيد أن اهتمام الأكاديمية بهذا الموضوع الهام لن يقف عند حدود هذه الحلقة، بل سيتواصل الاهتمام بلغتنا وهويتنا، وسنشتغل دوماً، بتعاون وثيق مع أهل الاختصاص، بهدف تشخيص الأوضاع وفهمها أولا، ولفت الأنظار وإسداد النصح ثانيا، واقتراح الحلول ثالثا، كل ذلك بهدف أن يستقيم اللسان والقلم، وبالتالي أن نجعل لغتنا العربية مواكبة للعصر ومتطلباته في كافة الميادين.
وأود بهذه المناسبة أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من يساهم معنا في تحمل هذه المهمة الشاقة، وخاصة إلى السادة الخبراء الذين لبَّوا دعوة أكاديمية المملكة المغربية متحمّسين للإسهام العلمي في هذه الحلقة، كما أشكر زملائي أعضاء الأكاديمية الذين بادروا إلى إغناء الحلقة بأبحاثهم، ولاشك في أنهم سيساهمون جميعاً في إثراء المناقشات العامة حتى تحقق الندوة هدفها. الشكر موصول أيضا إلى كافة المؤسسات الجامعية التي يحضر معنا اليوم أساتذتها الذين ندعوهم كذلك إلى الإسهام في النقاش استفهاماً وتعقيباً وإضافة.
حضرات السيدات والسادة:
إن مغرب القرن الحادي والعشرين في حاجة إلى وقفة جادَّة لنتبين معالم الطريق نحو مستقبل زاهر، وإلى بناء مجتمع ينخرط في الحداثة بعقل متنوع متفتح، ولا فائدة من أي جَهدٍ يتموضع داخل هذه الدينامية الاجتماعية إذا لم تكن أساساته متينة، ومن المؤكد أن اللغة تمثل إحدى اللبنات والدعامات لهذا المشروع المجتمعي الذي نتحمل جميعاً مسؤولية صياغته وإنجازه.
أدعو الله تبارك وتعالى أن يكلل أعمالنا بالنجاح، وأن يبلغنا أسنى المقاصد {إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُوتِيكُمْ خَيْراً}صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
البروفيسور : عبد اللطيف بربش
أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية