من بين النصوص الفائزة في مسابقة جائزة محمد الحلوي للمبدعين الشباب
قبل فوات الأوان
وقف مذهولا وسط الغرفة و هو يحدق إلى الجسد المسجى أمام ناظريه، لم يتمكن بعد من استيعاب ما يحصل، فهو لا يزال تحت وقع الصدمة التي أحدثتها كلمات أخيه قبل دقائق، عندما اندفع باكيا إلى غرفته لينتزعه من سباته و هو يردد: (لقد ماتت أمي… ماتت!!).
حملق ببلاهة في الجسد الممدد أمامه بلا حراك، و قد فارقته الحياة) جسد أمه الحبيبة. إنه بالكاد يذكر كيف وصل إلى غرفتها. لكن.. كيف يحدث هذا.. و بهذه السرعة؟ فهي لم تكن تشكو شيئا من قبل، فَلِمَ تغادر هكذا دون وداع؟!
وللحظة، بدا كمن تلقى صفعة قوية وهو يذكر ما دار بينهما من نقاش ليلة البارحة، و كيف غادر غرفتها و هي غير راضية عن موقفه. راودته بإلحاح فكرة العودة إليها والاعتذار منها، لكن صلفه وغروره منعاه، رغم أن الأمر لم يكن يستحق كل ذلك.
أحس بالدموع تلهب وجنتيه و هو يجثو بجانب سريرها، و أكب على يديها الشاحبتين يقبلهما و يغرقهما بدموعه. شعر ببرودة الموت تتسلل منهما إلى روحه و هو يردد في نفسه بحرقة: (يا إلهي! كيف ذهبت قبل أن استرضيها؟ كيف ماتت و هي غاضبة علي؟ ألا ما أتعسني!).
لم تلبث جَنَبَات البيت أن امتلأت بالوافدين لمشاركتهم مصابهم،و تعالت أصوات ا لنحيب) نحيب يمزق نياط القلب.
سارت الأمور بعد ذلك بسرعة غريبة) تسلموا رخصة الدفن بعد زيارة الطبيب الشرعي الذي أكد الوفاة، و تم تجهيز الجنازة، ولم يبق سوى اصطحابها في رحلتها الأخيرة.
ومشى بخطى واهنة، يثقلها الهم، وسط جموع المشيعين، و قد علت وجهه صفرة كصفرة الأموات. أحس كأن العمر قد قفز به ثلاثين عاما إلى الأمام دفعة واحدة، ليبدو كشيخ جاوز الستين.
لم يكن يعبأ بما يدور حوله، كان كمن يسبح في عالم آخر. و انسابت عبراته من جديد و هو يستعرض شريط الذكريات.
رأى نفسه صغيرا بين ذراعيها تلاعبه و تناغيه. كان له في قلبها مكانة خاصة) فقد كان ابنها البكر) فرحتها الأولى.
وتذكر يوم وفاة والده، كانت سنه آنذاك لا تتعدى الثانية عشرة. أحس وقتها أنه قد غدا مسؤولا عن عائلته رغم صغر سنه و قلة حيلته.
و اضطرت الأم المسكينة إلى العمل كخادمة في البيوت لتوفر لأبنائها لقمة العيش ، فقد كان زوجها الراحل مجرد عامل بسيط لم يخلف شيئا يذكر، ولم تكن هي تحمل أية شهادة تعليمية تخول لها الحصول على وظيفة محترمة.
إنه يعلم جيدا أن ذلك لم يكن يضيرها، فقد كان همها الوحيد أن يتربى أبناؤها أحسن تربية، و أن يتمكنوا من إتمام تعليمهم، بل و أن يتفوقوا فيه. كانت تحلم باليوم الذي تراهم فيه يعتلون أرفع المناصب.
و حقق الله رجاءها،ولم يخيبوا ظنها،فقد تخرج هو قبل سنتين من كلية الهندسة، و يسر الله له الحصول على وظيفة براتب محترم. أخوه هو الآخر يشغل منصبا مهما في إحدى الشركات بعد تخرجه من كلية التجارة. أما أختهم الصغرى فقد كانت في سنتها الثالثة من كلية الطب. كان لسان أمهم يلهج دوما بالشكر و الثناء لبارئها على أن حقق أملها و أقر عينها بأبنائها.
كانوا مدركين جميعا عظم تضحيتها، و قد تعاهدوا على برها، و حاولوا جاهدين إسعادها رغم أن ذلك لم يكن ليوفيها حقها.
أفاق من شروده على صوت شقيقه وهو يهمس في أذنيه بكلمات لم يعها تماما. تلفت حواليه فوجد القوم قد توقفوا عن المسير، و استرعى انتباهه منظر الجنازة وقد وضعت على التراب بجانب القبر الذي فغر فاه في انتظار ضيفته.
جال ببصره في وجوه الحاضرين، كان الكل واجما و كأن على رؤوسهم الطير، ونظر ناحية أخيه فوجده يومئ إليه ليتقدم … للقيام بالخطوة الأخيرة.
كان الأمر أكبر من أن يحتمل. لم يخطر بباله يوما أنه سيقف موقفا كهذا. أيمكن أن يطاوعه قلبه ليودع أحب مخلوق إليه هذه الحفرة الضيقة، و خاصة بعد ما حدث أمس؟؟
بدأت الصور تتراقص أمام ناظريه، ولم تعد ساقاه تقويان على حمله. خيل إليه أن قبضة قوية تسحبه إلى أعماق مظلمة، تلاشى بعدها كل إحساسه بما يجري حوله.
لم يَدْرِ كم من الوقت مر عليه و هو على حاله تلك حينما شعر بيد تهز كتفه في رفق. فتح عينيه في تثاقل، و خفق قلبه بقوة عندما طالعه وجهها الباسم و هي تهمس في حنو: (انهض يا بني، سوف تتأخر عن عملك!). فرك عينيه بقوة و هو غير مصدق لما يراه. فهم فجأة أن ما عاشه كان مجرد كابوس مرير.
قفز من فراشه ليلقي بنفسه في أحضانها و الدموع تغرق وجهه و هو يردد: (حمدا لله يا أمي، حمدا لله!).
سألته و هي في حيرة من أمرها: (لماذا يا بني ؟ ما الذي يحصل؟).
رد عليها وابتسامة خجولة تشق طريقها وسط دموعه: (أرجو أن تسامحيني على ما بدر مني أمس).
ربتت على كتفه في حنان و هي تجيب: (لا عليك يا بني، كان مجرد سوء تفاهم. لقد نسيت كل شيء).
تطلع إلى محياها في شغف، ثم انحنى ليلثم يديها و هو يشعربالحياة تسري في جسده من جديد.
أسماء الزيداني