Garaudy >Si je ne brule, si tu ne brules, qui va éclairer?!<
الرحلة مــن الاشتراكية
إلـــى الإســــلام
لقد بات موقف فرنسا من الإسلام واضحا في قضية الحجاب وقبله طرْد أحمد ديدات من مطار شارل دوغول وموقفها من مجازر البوسنة، بل قبل ذلك بكثير حيث أن الحروب الصليبية نفسها انطلقت من هناك (من مدينة كليرمون بالتحديد) .. ورغم ذلك فقد أنجبت فرنسا فلاسفة وعلماء ورجالا أفذاذاً مثل روني ديكارت والدكتور موريس بوكاي ورجاء غارودي. في هذا المقال سنحاول إيجاز الرحلة الفكرية للفيلسوف المهتدي المرحوم رجاء غار ودي ملخصين إياها في بضع ثلاثيات كثلاثية الحروب التي خاضها وثلاثية مواريث الحضارة الغربية وثلاثية الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني، الخ..
الحروب الثلاث
لقد جاهد في ثلاث حروب ضارية دون ما خوف أوتردد، بقلمه وفكره ومواقفه: الحرب العالمية الثانية وحرب فرنسا على الجزائر وحرب احتلال اليهود لفلسطين. لقد كان ينتمي في الثلاثينات إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وأثناء الحكم النازي لفرنسا (حكومة فيشي) ناضل حتى اعتقل وأُرسل إلى جلفا بالجزائر وهناك حُكم عليه بالإعدام. ولكن الجنود المسلمين رفضوا قتله “لأن المقاتل المسلم لا يقتل شخصا أعزل”، فكان هذا “درسا يفوق عشر سنوات من الدراسة بجامعة السوربون” (حسب تعبيره) وأول لقاء له مع الاسلام! والحرب الثانية هي حرب التحرير الجزائرية التي ساندها بكل قواه كإخراجه كتابا-ملفا جمع فيه اعترافات الضباط الفرنسيين الذين كان بعضهم يجد نشوة في قوله “لقد جمعنا اليوم برميلا من آذان العرب” (أي الجزائريين العزل)! أما الحرب الدائرة رحاها في فلسطين فقد شارك فيها كذلك بكتبه حيث يكشف الأساطير المؤسسة لإسرائيل وأساليبها الإرهابية!
الكتب الثلاثة
لقد بدأ غار ودي مسيرتهالفكرية منذ أن كان سنه الثامنة عشرة إذ كان يناظر أكبر الفلاسفة الفرنسيين كالبنيوي ميشال فوكووغيره، وقد بلغت مؤلفاته ما يفوق الثلاثين كتابا أهمها دعوة إلى الأحياء ووعود الاسلام وقضية إسرائيل. في الأول يحاول إخراج الحضارة الغربية من نرجسيتها القاتلة التي تلوح بالدمار الشامل بجعلها تنفتح على كل الحضارات الأخرى والديانات العالمية كالبوذية والطاوية والإسلام الخ. وفي كتاب وعود الإسلام يحدد جارودي أسس الفكر الغربي في ثلاثة مواريث: الميراث اليوناني-الروماني والميراث اليهودي-المسيحي والميراث العربي-الإسلامي. وهذا الميراث الثالث هوالذي أخذته أوروبا من الأندلس وبالتحديد فقد أخذ الإنجليزي فرانسيس بيكون بالجملة من كتاب المناظر لابن الهيثم فخرج بالمنهج التجريبي الذي به انطلقت المسيرة العلمية الغربية. إلا أن العلم في الغرب يطرح سؤالا واحداً فحسب: “كيف؟” فيتوصل إلى المشيفوق القمر وصنع القنبلة الذرية ولكنه لا يسأل أبدا: “لماذا؟” والنتيجة الحتمية لذلك هوأن العالم يتوفر الآن على ما يكفي لتدميره كاملا خمس مرات وبعبارة غار ودي “لقد وضعت القوى العظمى ما يساوي 4 أطنان من المتفجرات على رأس كل واحد من ساكنة المعمورة وفي نفس الوقت تركت 50 مليون إفريقي يموتون جوعا في 1980 وأنفقت 450 مليار دولار للتسلح في نفس العام” وهذا الرقم يرتفع كل عام! فرد غارودي الاعتبار للميراث الثالث للحضارة الغربية أي الميراث العربي الإسلامي، ملاحظا الاختلاف الجوهري بين العلم الغربي والعلم في الإسلام، فالعلم في الإسلام مبني على سؤالين: “لماذا؟” و”كيف ؟” أي أن الاسلام يجمع العلم والحكمة.
الدوافع الثلاثة لإسلامه:
لقد كان “شرف المقاتل المسلم” الذي أنقذ حياته بالجزائر أيام الاحتلال النازي لفرنسا أول دافع جعل رجاء غارودي يفكر في الإسلام ويبدأ الكتابة عن مساهمتهفي الثقافة العالمية، وكان الدافع الثاني لقاء ه بالشيخ الإبراهيمي الذي حدثه عن شخصية الأمير عبد القادر الجزائري فبهره وغير صورته القاتمة من “عدومقاتل لفرنسا فحسب” إلى “أحد أكبر أبطال القرن التاسع عشر وعالم وصوفي”. وأخيراً الدافع الثالث لإسلامه ما لاحظه من موقف الفاتيكان المتحيز والمعادي لقضية فلسطين ( كما أن هذا التحيز تجده كذلك في ما يعرف ب”مدرسة الأحد” عند البروتستانت التي تُدرس أبناءها تاريخ فلسطين كما تدرسه المدارس في إسرائيل تماما!)
الأساطير الثلاث
في كتابه قضية إسرائيل يفند غار ودي الحقوق الثلاثة التي تعتمدها الصهيونية السياسية (إذ أنه يميز بين الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية الملحدة) وهي : الحق التاريخي والحق القانوني والحق الديني، ويعتبرها أساطير.
> الحق التاريخي أسطورة لا يمكن اعتماده لأن الشعوب ماجت في بعضها البعض عبر التاريخ ولا يمكن المطالبة به إلا بالمدافع وقيام ما لا حد له من الحروب. فقد يطالب الرومان بفرنسا وإنجلترا والفايكينز بصقلية والعرب بالأندلس.. فقد مكث العرب اكثر من 7 قرون بالأندلس أما أجداد اليهود أي داود وسليمان فلم يمكثوا بفلسطين إلا بضعا وسبعين سنة.
> أما الحق القانوني فهوكذلك أسطورة إذ أن تقسيم فلسطين في سنة 1948 لم يمر على مجلس الأمن (المتكون آنذاك من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى وفرنسا) بل كان مجرد توصية (حصلوا عليها بضغوط على دويلات كهايتي وليبيريا) من الجمع العام.
وأخيراً أخطر “حق-أسطورة” هوالحق الديني الذي تركز عليه الأحزاب الدينية واللائكية الإسرائيلية على السواء، فقد رجع غار ودي إلى مختصين في العهد القديم ليجد أن هناك فعلا وعداً من الله لإبراهيم أن يعطيه الأرض المقدسة “من النيل الى الفرات” لسلالته، ولكنه يلاحظ، أن لإبراهيم سلالتين: العرب واليهود،فلكلا الطرفين-بهذا المنطق- حق في تلك الأرض، وعلاوة على ذلك فإن إبراهيم لم يكن عنصريا بل إنه جاء ليكون “رحمة بكل شعوب الأرض” (سفر التكوين 12:3).
خلاصة
لقد امتاز رجاء غارودي بفكره النير الباحث عن الحقيقة حتى وجدها بعد خمسين سنة في الإسلام حيث يلتقي العقل بالقلب، وامتاز بمواقفه الشجاعة والإنسانية المناهضة للأساطير والظلم. أما المشكل الأساس الذي واجهه بقوة ووضوح عبر مسيرته الفكرية الجهادية هو”ورم العنصرية” حيث ما كان، سواء كانت “العنصرية الهيتليرية النازية” التي جرت الويلات على أوروبا في الحرب العالمية الثانية و50 مليون من القتلى أو”العنصرية الصهيونية” التي تحصد الأرواح الآن في فلسطين. وقد حاولنا في هذا المقال إيجاز فكر غارودي في بضع ثلاثيات وهي الحروب والكتب والمواريث والأساطير، ويمكن أن نضيف إليها ثلاثية أسس الحضارة الغربية التي حددها في : “النمووالقوة والعنف” كما نرى في هذه الأيام، وثلاثية ثقافة “العلم من أجل العلم والفن من أجل الفن والسياسة من أجل السياسة (حتى تحولت الى مكيافلية)”. وإلحاحه على إعادة النظر في ثلاثية العلاقات بين “الإنسان والله” و”الإنسان والإنسان” و”الإنسان والطبيعة”. ونختم بثلاثية الحكم حيث يميز بين الثيوقراطية والديموقراطية والاسلام، فالأولى “تدعى أنها تستمد سلطتها من الله”، والثانية “تسند الحكم لفرد أوحزب منتخب” والاسلام حيث “الأرض والحكم لله”.
د.المعتمد بن رشد